المحتوى الرئيسى

الفساد وقيمه بين الشرق والغرب

03/26 02:05

ارتبط الفساد فى عالمنا المعاصر بالشعوب غير الغربية، بإفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وعالمنا العربى. وبمجرد إلقاء نظرة سريعة على معدلات الفساد، ونسبه فى أى تقرير صادر عن المنظمة الدولية للشفافية، فإن اللون الأحمر الذى يرمز عادة إلى أعلى معدلات الفساد فى مثل هذه التقارير، سيكون منتشرا فى الشرق والجنوب، فى مقابل اللون الأخضر الذى يشير عادة إلى أقل معدلات الفساد، وبالتأكيد ستتلون به دول أوروبا خاصة الغربية، والولايات المتحدة وكندا، بالإضافة إلى أستراليا، واليابان وكوريا الجنوبية.

ومن الإجحاف ومن غير المعقول أن نعتقد عكس ذلك، أو ندعى أن معدلات الفساد موجودة فى الغرب بالدرجة أو الطبيعة نفسها كما هى فى بقية أرجاء العالم. فقيم المحاسبة والشفافية والمراجعة والتدقيق والتمحيص، وقواعد الحد من تضارب المصالح، وإقرارات الذمة المالية، ومكافحة التهرب الضريبى، ورفض المحسوبية والرشى قيم راسخة فى المجتمعات الغربية.

كذلك فإن الثقافة القانونية والأخلاقية فى المجتمعات الغربية تساهم فى الحد من انتشار الفساد، فعلى سبيل المثال: فكرة طلب موظف حكومى أو قبوله رشوة نظير تسهيل المعاملات أو التغاضى عن مخالفة القانون أمر خارج نطاق ثقافة المجتمعات الغربية أو عقليتها، ولا يمكن تصوره.

فهل الشعوب الغربية أكثر أخلاقية من بقية شعوب العالم التى ينتشر فيها الفساد؟ وهل تسود النزاهة والشفافية فعلا المجتمعات الغربية، بعيدا عن إحصاءات المنظمة الدولية للشفافية ونسبها؟ وكيف تختلف طبيعة الفساد وقيمه حول العالم؟

إن المفاهيم المختلفة للفساد تعود إلى اختلاف الأنساق الاجتماعية والثقافية، فالثقافة العربية مثلا ثقافة قائمة على العلاقات والثقة بالأشخاص والأعراف الاجتماعية، أما الثقافة الغربية فتقوم على الثقة بالنظام والقواعد الصارمة، حيث يلتزم معظم المواطنات والمواطنين الغربيين بسيادة القانون والخوف من مخالفته أو انتهاكه. المواطِنة الغربية أو المواطن الغربى براجماتيان لا يرغبان فى تعريض مصالحهما ومصالح المجتمع لأى ضرر يفقدهما، مالهما أو وقتهما، أو سمعتهما. إن التزام الفرد بالنظام، والدور، وقوانين السير، واتباع التعليمات عموما، ورسوخ قيم الأمانة والصدق فى حياته اليومية، وتقديس القانون نابع من منطلقات براجماتية، وإدراك أن سيادة القانون هى السبيل الوحيد للحفاظ على مصالح الفرد والمجتمع.

والسؤال الذى يفرض نفسه: ماذا لو ارتكب الفرد فى المجتمعات الغربية مخالفة أو فسادا، دون أن ينتهك القوانين أو دون أن ترصده عين القانون؟

ما زلت أتذكر صباح ذلك اليوم من شتاء عام 2005، الذى تعطلت فيه حركة المترو فى إحدى محطات شمالى فرجينيا القريبة من واشنطن العاصمة. وكانت النتيجة أن تأخرت القطارات قطارا تلو الآخر لأكثر من ساعة ونصف. وامتلأت أرصفة المترو عن آخرها بأمواج من البشر، نساء ورجالا، حتى لم يوجد موضع لقدم. وفجأة أعلن الموظف عن اقتراب المترو بعد أن أعرب عن اعتذاره. الحقيقة وبدون مبالغة أو ادعاء ربما كنت الشخص الوحيد الذى تراجع للخلف فى ظل هجوم فوضوى من المواطنات والمواطنين تخللته مشاهد من الدفع والشد والجذب رغبة فى اللحاق بالقطار. ورغم أننى اعتدت فى شبابى على هذه المواقف والمشاهد فى القاهرة، فلم أتوقع هذا المشهد أبدا، وبالفعل صدمت من تخلى الجميع عن أخلاق وقيم النظام والاحترام والخصوصية، وغيرها من قيم معروفة فى المجتمعات الغربية. وسألت نفسى كيف؟ ولماذا؟ والحقيقة أن السبب هو إدراك الجمهور بغياب القانون والعقاب والضرر المادى فى مثل هذا الصخب والفوضى. وقد قايض الأفراد فى هذا الموقف البسيط الرمزى بين النظام والالتزام الأخلاقى وبين ضرورة الذهاب إلى أعمالهم ومصالحهم دون تأخير حتى وإن كان على حساب الأشخاص الآخرين.

إن تعيين فرد فى وظيفة ما فى المجتمعات الغربية لا بد أن يسير وفق آلية وإجراءات فى منتهى الشفافية. ولكن كثيرا ما تكون الوظائف محددة لأشخاص بعينهم، ويمكنك أن تخمن أن الوظيفة ستذهب فى ذلك الاتجاه، ولكن الإجراءات والقواعد واللوائح والقوانين لا تخرق ولا تنتهك، وكأنها مسرحية بالغة الحرفية والإبداع.

وفى دراسته الرصينة حول «الفساد من منظور متعدد الثقافات» التى نشرت عام ٢٠٠٨، يذكر جون هوكر مثالا آخر على نسبية قيم الفساد فى المجتمعات الغربية وغيرهم، قائلا: «الموظفون فى أمريكا الشمالية وإلى حد ما أوروبا لا يرون أى خطأ أو عيب فى الانتقال من شركة إلى أخرى بحثا عن راتب أفضل، حتى لو كان هذا يعنى ترك شركة فى منتصف مشروع أو مهمة. يمكن للنظام فى الغرب تحمل هذا النوع من السلوك، والطبيعة التنافسية لسوق العمل قد تعتمد عليه. ولكن فى بيئة قائمة على العلاقات، ينظر إلى هذا على أنه غير مسئول وأنانى وغير أخلاقى».

المسألة وفقا لهوكر نسبية، فما هو فساد لدى بعض الأمم ليس بالضرورة فسادا لدى الأمم الأخرى. والمفارقة أن دراسة حالات الانتقال من مجتمع أقل فسادا للإقامة فى مجتمع أكثر فسادا، تجعل الأفراد يتبنون قيم ورؤية مجتمعاتهم الجديدة.

وتحتفظ ذاكرتى بأمثلة ونماذج ومواقف للفساد «القانونى» فى المجتمعات الغربية لا مجال لسردها فى هذا المقال محدود المساحة. والمدهش أن بعض من فى الغرب يدافع عن هذا الفساد، ويبرره بكل جرأة على أساس أن القواعد والقوانين التى يتم على أساسها الاختيار أو التقييم لم تنتهك. بل إن تعبير «أوركسترايتيد» أى مطبوخة أو مطبَّخة فى اللغة العربية المعاصرة، تعبير شائع فى مجال التوظيف وإبرام الصفقات فى المجتمعات المهنية الغربية.

الأمثلة السابقة وغيرها، بسيطة إذا ما قورنت بالفساد على مستوى الشركات العملاقة، والحكومات، وجماعات الضغط والمصالح التى عادة ما تفسد الحياة السياسية ووجود ديمقراطية حقيقية نتيجة تدخلها وتأثيرها فى نتائج الانتخابات وصنع القرار. ومن المعروف والقانونى أن الشركات الكبرى وأصحاب المال والنفوذ وجماعات الضغط تمول الحملات الانتخابية، وتقدم الهدايا والرشى (القانونية) للمرشحين.

إن العقل الجمعى فى الثقافة الغربية، يرفض الفساد انطلاقا من قيم برجماتية، وفلسفية، وحداثية، ارتبطت بنشأة الدولة الحديثة وتبنى الرأسمالية والقيم الديمقراطية. ومعظم الأشخاص الغربيين يعتقدون فعلا بأن مجتمعاتهم مجتمعات تسودها الشفافية والمحاسبة والرقابة. بل كما ذكرت أن تصورات مخالفة النظام والقانون والعدالة جزء من تكوين العقل الغربى على الأقل خلال القرنين السابقين.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل