المحتوى الرئيسى

اتفاق تجاري أم مجرد هدنة؟

10/19 08:01

في تطور مفاجئ أعلن في واشنطن يوم الجمعة الماضي عن توصل الولايات المتحدة والصين إلى اتفاق تجاري جزئي أو ما أطلق عليه "المرحلة الأولى" في اتفاق تجاري بين البلدين، ورغم أهمية الاتفاق ليس للبلدين فقط ولكن لكل دول العالم تم الترحيب به بشدة، مع ذلك لا يزال هناك الكثير من الغموض الذي يلف بعض جوانبه.

وبموجب الاتفاق المعلن وافقت الولايات المتحدة على تعليق زيادة في التعريفة الجمركية قدرها 5% على وارداتها من الصين والتي كان من المفترض وضعها موضع التنفيذ يوم الثلاثاء 15 أكتوبر/تشرين الأول، حيث كانت التعريفة ستزيد على واردات قيمتها 250 مليار دولار لتبلغ 30%. وقال الممثل التجاري الأمريكي روبرت لايتهايزر إن القرار المتعلق بزيادة أخرى في التعريفة الجمركية قدرها 15% على واردات تبلغ قيمتها 160 مليار دولار أغلبها من السلع الاستهلاكية التي من المقدر وضعها موضع التطبيق في منتصف ديسمبر/كانون الأول قد تم تأجيل البت فيه. ويأتي هذا بعد الآثار الكبيرة التي تركتها حرب التجارة على حركة التبادل السلعي بين البلدين. فخلال هذا العام، انخفضت الواردات الصينية من السلع الأمريكية بمقدار 26.4%، بينما انخفضت الصادرات الصينية للولايات المتحدة بمقدار 10.7%.

الجانب الثاني في الاتفاق يتعلق بقضية نقل التكنولوجيا، وبينما قال الرئيس ترامب إنه تم تحقيق تقدم جيد في موضوع نقل التكنولوجيا إلا أنه أشار إلى أن "نقل التكنولوجيا سيتم التعامل معه إلى حد بعيد في المرحلة الثانية من الاتفاق".

الجانب الثالث يتعلق بالخدمات المالية وسعر الصرف، حيث أشار وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين إلى أنه أجرى مناقشات جيدة للغاية مع محافظ البنك المركزي الصيني حول تحرير سوق الخدمات المالية الصيني. وقال منوتشين إن "هناك اتفاقا حول الشفافية في أسواق الصرف". وكانت واشنطن قد أعلنت الصين بلدا "يتلاعب بعملته خلال شهر أغسطس/أب الماضي”، ولكن علق وزير الخزانة على ذلك بالقول إن "هذه الخطوة يمكن التراجع عنها في حال وصل الفريقان إلى اتفاق".

كما تضمن الاتفاق التزام الصين بشراء منتجات زراعية أمريكية تتراوح قيمتها ما بين 40 و50 مليار دولار في السنة.

وربما يمكن القول إن هذا الاتفاق هو أقرب إلى أن يكون هدنة في الحرب التجارية بين البلدين منه إلى اتفاق ضخم يحل المشكلات العالقة بين البلدين، كما كان من المتصور. فزيادة الواردات الصينية من السلع الزراعية الأمريكية مقابل وقف رفع الرسوم الجمركية هو جوهر ما تم التوصل إليه. وكانت الصين في واقع الأمر منذ عامين وقبل نشوب حرب التجارة قد عرضت لتجنب هذه الحرب خفض فائضها التجاري مع الولايات المتحدة عبر زيادة وارداتها من المنتجات الأمريكية وخاصة من المنتجات الزراعية. وتدرك الصين حساسية القطاع الزراعي بالنسبة للرئيس الأمريكي الذي يرغب في إعادة انتخابه في العام القادم. حيث ينقسم المزارعون ما بين ولائهم للرئيس وغضبهم من الرسوم الجمركية التي فرضها على السلع الصينية، وما ترتب على ذلك من رسوم جمركية انتقامية صينية على السلع الزراعية. ففي عام 2017، قبل بداية الحرب التجارية، استوردت الصين منتجات زراعية أمريكية بلغت قيمتها 19.5 مليار دولار، ثم هوت إلى 9 مليارات دولار فقط عام 2018 مع نشوب الحرب التجارية.

وكما أوضحنا في مقال سابق كان الرئيس ترامب قد حصل في الانتخابات الرئاسية الماضية على أصوات الولايات التي بها عدد أكبر من المزارعين، حيث يقدر أنه حصل على أصوات 67% من مزارعي الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن نسبة المزارعين في وسط الكتلة التصويتية محدود؛ حيث تبلغ نسبتهم 1%، إلا أنهم يذهبون للتصويت أكثر من غيرهم، إذ يقدر أن 74% منهم يمارسون حقهم في التصويت. 

والقضية الأكثر أهمية هي توزع هؤلاء المزارعين في بعض الولايات، فهناك بشكل خاص ثلاث ولايات كسب فيها ترامب بهامش ضئيل، والتي قد تكلفه خسارة أصوات المزارعين فيها الكثير، وهذه الولايات هي ميشيغان، وويسكنسون، وبنسلفانيا. ففي كل ولاية من هذه الولايات كانت أصوات المزارعين تفوق الهامش الذي انتصر به الرئيس ترامب في انتخابات عام 2016، وأهم المنتجات التي تنتجها هذه الولايات هي فول الصويا ولحم الخنزير وهي المنتجات التي تتركز فيها أغلب الواردات الصينية من السلع التي ينتجها المزارعون الأمريكيون.

ولهذا كان ترحيب وابتهاج الرئيس الأمريكي بهذا الجانب أكثر منه بأي جانب آخر في الاتفاق. إذ قال ترامب إن "هذه صفقة هائلة للمزارعين، الصين ستشتري منتجات زراعية أمريكية بمبلغ يتراوح بين 40 و50 مليار دولار". وتابع: "هذا يزيد بمقدار 3-5 أضعاف عن الحد الأقصى للحجم الذي اشترته الصين حتى الآن. لقد اشترت ما بين 16 و17 مليار دولار كحد أقصى"، مضيفا أن "الرقم في الوقت الحالي يبلغ 8 مليارات دولار في المتوسط، ولذلك وسعوا الحقول الخاصة بكم مقدما واستخدموا المزيد من الجرارات".

أما الجانب الأكثر غموضا في الاتفاق فهو ما يتعلق بقضية سعر صرف العملة الصينية. فأي اتفاق حول تسعير العملة يحتاج إلى وسيلة تقييم محددة لسعر صرف العملة وكذلك آلية تسعير متفق عليها. والتجربة الوحيدة التي عرفتها الولايات المتحدة في تاريخها هي ما عرف باتفاق بلازا. حيث كانت الولايات المتحدة قد دعت إلى ضرورة التدخل من قبل كل من اليابان وألمانيا للعمل على رفع قيمة سعر صرف عملة البلدين أمام العملة الأمريكية منذ عام 1984، حيث كان البلدان يحققان فائضا كبيرا في تعاملهما التجاري مع الولايات المتحدة، خاصة أنها كانت في هذا الوقت تعاني أيضا من ركود اقتصادي شديد. ومع وجود علاقات قوية بين البلدان الثلاثة، بل ومكانة مهيمنة للولايات المتحدة، تم الاتفاق على ما عرف باتفاقية بلازا في 22 سبتمبر/أيلول عام 1985 بين كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا الغربية واليابان على تعديل أسعار الصرف، بحيث يسمح بزيادة أسعار صرف عملات هذه البلدان أمام الدولار الأمريكي، خاصة سعر صرف الين الياباني والمارك الألماني. لكن استمرار سعر صرف الدولار في التراجع لأقل من المستويات التي كان متفقا عليها، تم الاتفاق من جديد على ما عرف باتفاق اللوفر في فبراير/شباط 1987 للعمل على رفع سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسية الدولية الأخرى. ومع ذلك استمر الميزان التجاري الأمريكي يحقق عجزا كبيرا على مدار هذا الزمن، وإلى وقتنا هذا لا تزال اليابان وكذلك ألمانيا من بين أكبر البلدان التي تحقق فوائض في التبادل التجاري مع الولايات المتحدة. وكما هو واضح هناك فارق كبير بين طبيعة العلاقة الأمريكية بكل من اليابان وألمانيا، خاصة وقت توقيع اتفاق بلازا، وبين العلاقات الأمريكية الصينية في الوقت الراهن، بما يجعل قبول الصين باتفاق مماثل أمرا يكاد يكون مستحيلا.

أهم أخبار اقتصاد

Comments

عاجل