المحتوى الرئيسى

مستقبلات إسرائيل على ضوء الحرب الراهنة

03/28 12:13

ما زلنا، وإبادة الفلسطينيين مستمرة، نتناقش حول مستقبل العالم على ضوء هذه الإبادة. لهذا النقاش المستعر عنوان رسمى وهو «اليوم التالى لحرب غزة»، ابتكره الفريق الحاكم فى البيت الأبيض فى سعيه لصنع وضع مختلف فى فلسطين العربية، أى فى غزة والضفة الغربية. أتصور أن لديهم مشروع خطة وأفكارا كثير منها مشوش أو رغائبى أو مبنى على مسلمات بعينها من واقع مصالحهم وطموحاتهم.

من المسلمات مثلا أن النكبة الأولى فى فلسطين أثمرت دولة إسرائيلية ووعدا غير قابل للتنفيذ بإقامة دولة فلسطينية، وأنها، وأقصد النكبة، نشأت وترعرعت فى أحضان تفاهم غربى سوفيتى ونفاق متشعب داخل القوى السياسية الفاعلة فى دول أوروبا الخارجة لتوها مع أمريكا من حرب عالمية، وأنها، وما زلت أقصد النكبة الأولى، وإن حققت بعض أهدافها الإسرائيلية، فقد تسببت فى تغيرات بعضها حاد فى عدد من الأقطار العربية وحفزت المقاومة ضد الاستعمار الغربى حتى تحقق للمقاومة النصر. من المسلمات أيضا، أن فضلا كبيرا يعود إلى المحرقة التى استخدمها الغرب وإسرائيل كدرع يحمى الدولة الإسرائيلية الناشئة من غائلة التقلبات فى العلاقات الدولية ومن غضب العرب حين وجد.

أبدأ بالمحرقة باعتبار أنها، وهى المبرر الأحدث لاستمرار الوجود الصهيونى على أرض فلسطين، صارت ضحية من ضحايا التوحش الإسرائيلى فى الحرب ضد سكان غزة. لا غرابة فى التصريح بأن رد الفعل الإسرائيلى لطوفان الأقصى ربما «حرق المحرقة» أو أنه دنس، بين ما دنس، قدسيتها ومس بالضرر البالغ الهالة التى أحاطت بها. لا غرابة، ولكن أيضا لا مبالغة فى القول بأن المحرقة كرمز محصن فى دول عديدة بقوانين وتشريعات مختلفة ضد النقد والاعتراض والاحتجاج راح يفقد الكثير من هذه الحصانة. أغفل المسئولون الإسرائيليون والأمريكيون وبعض الأوروبيين حقيقة أن توحش جنود بنى إسرائيل ضد شعب غزة وبخاصة أطفالها سوف يطفئ وهج المحرقة النازية، وبالتالى يضعف من شرعية دولة إسرائيل. لا جدال فى أن جيش إسرائيل تجاوز بأفعاله فى غزة ما فعله النازيون باليهود، هذا على الأقل صار جزءا مما يردده ملايين المشاهدين أمام شاشات التلفزيون وأجهزة المحمول.

لا أظن أننى على امتداد حياتى رأيت مسئولا سياسيا منكسرا بالحرج وخيبة الأمل كما رأيت بالأمس المسئول الأول فى ألمانيا يبرر مواقف حكومتها وبخاصة مواقف وزير خارجيتها من حرب غزة ثم التراجع عن هذه المواقف. أسمع أن ألمانيا حالة خاصة بسبب ما يسمى عقدة الذنب. أتجاسر مرة أخرى لأتوقع تطورات فى ألمانيا تثبت أن هذه العقدة الشريرة جارٍ حلها، ولأتوقع أن تتخلى الأجيال الجديدة فى ألمانيا عن احترام ما رتبته هذه العقدة من التزامات.

رحنا أيضا نراقب باهتمام مواقف وسياسات رسمية أوروبية تعكس حال ارتباك. تحدثت مع مصدر قريب من مركز صنع القرار فى الاتحاد الأوروبى. حاولت أن أتعرف على العوامل التى دفعت حكومات أوروبا إلى تغيير موقفها من حرب غزة.. فهمت أن العوامل أربعة وهى أولا، ضغط الرأى العام فى داخل كل دولة. وثانيا، الضعف الظاهر فى أداء واشنطن إزاء تطورات الأزمة فى غزة. وثالثا، انحدار مكانة ألمانيا فى القارة الأوروبية. ورابعا: فشل فرنسا فى الحلول محل ألمانيا بل وانكشاف تصاعد جديد فى عنصرية قطاعات بعينها فى نخبتها السياسية.

لم يعد خافيا الضغط الذى تمارسه الولايات المتحدة ودول أوروبية على الدول العربية للقبول بصيغة مناسبة لمستقبل الحكم فى غزة وخلق نواة لشرق أوسط جديد. مرة أخرى يتداول الطرفان الأمريكى والإسرائيلى حول بدائل تضمن لإسرائيل الهيمنة التى تحقق الشروط التالية لأى بديل يتفق عليه. من هذه البدائل أولا: يبقى الأمن فى يد إسرائيل فى شكل احتلال إسرائيلى مباشر يمارس مهام الأمن العسكرى وشئون الإدارة المدنية.

ثانيا: يبقى الأمن فى يد إسرائيل فى شكل احتلال عسكرى وتسليم الإدارة المدنية إلى حكومة عشائر تخضع لسلطة جيش إسرائيل. ثالثا: فى وجود سلطة الاحتلال وحكومة عشائر يجرى تشجيع السكان الفلسطينيين على الهجرة عن طريق تنفيذ خطة تتضمن تغيير مناهج التعليم والتوسع فى استيراد عمال من دول نامية وتقييد فرص العمل بالنسبة للفلسطينيين. رابعا: الانضمام إلى «جامعة إبراهيمية» تضم الدول العربية الموقعة على اتفاقات صلح أو تعاون أو تبادل بعثات دبلوماسية مع إسرائيل. يعتمد هذا الشرط على تحليل واسع الانتشار فى صفوف نخب أوروبية حاكمة يشير إلى أن السياسة الحذرة التى انتهجتها الدول العربية المتعاقدة مع إسرائيل خلال الحرب الوحشية ضد أهل غزة والحرب المستمرة منذ سنوات ضد أهل الضفة الغربية، هذه السياسة، وسياسات أخرى، جاءت نتيجة الالتزامات التعاقدية والمعنوية التى فرضتها العلاقات الثنائية القائمة مع إسرائيل.

لا أخفى، ولن أخفى فى أى وقت، تعاطفى مع يهود عرفتهم فى الولايات المتحدة وأقل منهم فى الأرجنتين وأكثر دول أوروبا طلقوا الصهيونية منذ زمن ويهود فى مواقع عديدة اكتشفوا مؤخرا خلال الحرب على غزة أنهم كانوا مخدوعين. ولكن تبقى حقيقة أخشى أنها صارت واقعة وهى أن نسبة كبيرة فى الشارع الإسرائيلى راحت فى السنوات الأخيرة تتطرف فى يمينيتها وعنصريتها إلى حد الهوس، وبعضه شرير ومرعب. أفهم أن تيار التطرف اليمينى جزء من ظاهرة عامة تجتاح ميادين السياسة فى أوروبا ولكن أيضا فى أمريكا، وأن صحوة التطرف الصهيونى يحسبها البعض رد فعل منطقيا للظاهرة، إلا أننى أفهم أيضا أن لهذه الظاهرة من بين اليهود ضحايا فى كل مكان، رأيناهم يتظاهرون معلنين الخوف على مستقبل إسرائيل من تمدد الظاهرة. لا شك أن التطرف فى إسرائيل يهدد الأمل فى أن يكون للعرب، كل العرب دول مستقلة كاملة السيادة. يدفعنا لهذا اليقين اقتناعنا نحن وغيرنا بأنه إذا خرجت إسرائيل من حربها الراهنة منتصرة، وأمريكا تريدها أن تخرج منتصرة، فسوف تطبق على سياستها الإقليمية خيار الهيمنة الذى تجيده أكثر من غيره من تفاصيل تاريخها الحديث، والأحدث كما نرى الآن فى فلسطين المحتلة حيث تمارس كل ما هو قبيح ووحشى فى هذا الخيار، وتجيد أو بالأحرى تعتنق منه وتطبق مبدأ إسرائيل «فوق الكل Über alles»، مبدأ استعارته من مرحلة سوداء فى تاريخ شعبها.

كثيرون من حولنا يعتقدون أن هناك ما ينبئ بأن المستقبل الوشيك لإسرائيل سوف يحمل لنا وللأمل الفلسطينى سوء المصير ما لم نسرع الخطى نحو تحرير منظومة السياسة الخارجية المصرية من قيود فرضتها ظروف مراحل سابقة، كشرط كاف وضرورى نحو بناء منظومة فعالة للأمن الإقليمى تصد عن الأجيال العربية الجديدة هذا المصير.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل