المحتوى الرئيسى

الشعب يشقى في النعيم بعقله | المصري اليوم

06/19 04:45

رأينا فى مقالنا السابق كيف كان شاه إيران الأخير، محمد رضا بهلوى، حاكمًا نافذًا، وليس هامشيا فى معادلة القوة فى العالم.. ورأينا كيف كان للرجل مشروعا حداثيا لانتشال إيران من التخلف، مَلَكَ كل أدوات تحقيقه من موارد مادية وبشرية.

رأينا كذلك كيف سجن الرجل نفسه فى أوهامه، وهو يظن أن ثمة علاقة خاصة تربطه ببسطاء شعبه وتشفع له ولأجهزة بطشه كل التجاوزات والأهوال.. وأن حُصونَ الرضا الدولى مانِعتُهُ يد المقادير.

رأينا كيف ساقته عزلته على قمة الغطرسة إلى ارتكاب الخطيئة الكبرى، بأن ظن واطمأن أن الشعوب هَمَل لا إرادة لها.. عليها فقط أن تنتظر عطايا يده من حداثة ورفاه.

رأينا كيف أنه- وفقط- بتراكم الاحتقار لإرادة الشعب وليس بغيره.. وصل إلى الوعاء إلى حافته، فنضح بكل ما فيه من غضب، ولتملأ شوارع مدن إيران موجات عاتية من البشر تخلع حكم الشاه، وتزأر بالحنق عليه.. وكيف لم يشفع تراكم ثروة ولا قوة عسكرية ولا نظام دولى يتبارى لنيل الرضا.

لم يصدق الرجل وهو فى طائرته فوق شوارع عاصمته أن كل هؤلاء البشر خرجوا ضده.. أين تلك العلاقة الخاصة التى سَكِر بها قبلا؟.. أين أثر المشروعات والتنمية؟.. لم يصدق أن يتوحد فى كراهية سلطانه القرويون غير المتعلمين، ومثقفو المدن.

آثر الشاه عدم المواجهة، وقرر مغادرة بلاده إلى المنفى اختيارا.. وليتحول منفاه إلى تيه.. وليصير الحليف الأوحد مبنوذا مرفوضا من كل حلفائه السابقين..!

استغرب الكثيرون فعله، لماذا لم يبطش؟! لماذا لم يقمع كل تلك الحشود؟!

ولكن كان الرجل متسقا مع ذاته، فهو فى شخصه وما عُرف عنه، على المستوى الإنسانى، رقيق لا يميل للعنف أو الدموية، ليس جلف المشاعر أو منحط الثقافة.

وما كانت السافاك تقوم بأهوالها ضد الناس إلا بسكوته عنها وقبوله وتمريره لأفعالها، أكثر منها بتوجيه مباشر من نفس متصحرة دموية..!

وهنا قد يذهب بعض البائسين فى التحليل إلى أنه إذا كانت ثورة الإيرانيين على إمبراطورهم فى عام ١٩٧٩ قد نجحت، واستطاع الخمينى أن يُجَيِّش شعبا نحو حلم ولاية الفقيه، فهذا ليس أكثر من كون الخمينى بالضرورة عميلا للمخابرات الدولية، ولكون الشاه بالضرورة طيب القلب مرتعش اليد، فلم يتخذ القرارات الواجبة لقمع الناس.

فالأمر فى عُرفِ هؤلاء ليس أكثر من مؤامرة مدبرة خارجيا قابلتها رخاوة فى القمع داخليا.. ولهذا نجحت..!!

وتلك نظرة متهافتة ساقطة، لأنها وبوقاحة تلغى تمامًا حقيقة أصيلة، وهى إرادة الشعوب ذاتها، وبغض النظر عن مدى نضج تلك الإرادة أو سياق إنفاذها..!

ودليل تهافت تلك النظرة المتغطرسة الباهتة، والتى ترى بأن الإمبراطور المخلوع لم يكن ليخسر عرشه ولا ليسلم بلاده للمجهول لو لم يكن مرتعش اليد فى لحظة احتاجت للبطش وغشامة القوة.. نسوقه فى صدام حسين نموذجا..!

صدام الذى أعدم بيده بعد أسبوعين فقط من توليه السلطة عام ١٩٧٩ عشرات من رفاقه البعثيين المقربين فى مجزرة قاعة الخلد الشهيرة ببغداد، لا لشىء إلا ليثبت للجميع أنه طاغية لن يرقب فى أحد إلًّا ولا ذِمة.

حكم صدام العراق بالرعب والدم ربع قرن من الزمان.

فهل منع كل القهر وكل الرعب وكل الدم الذى عاشه العراق من أن يُسلم العراق نفسه إلى مجهول، شأنه شأن إيران بعد مشروع الشاه الحداثى، بل أسوأ بكثير.

وبمثله القذافى والأسد وصالح والبشير وبقية من القائمة التعسة فى بلادنا المنكوبة.. هل صان كل القهر وكل الخوف وكل التجبر ليبيا أو سوريا أو اليمن أو السودان؟!

وعلى ضفة أخرى فى دنيا البشر.. ماذا فعل قادة تنوير بشر لم يَدَّعوا لأنفسهم قداسة، ولم يقرروا أنهم مبتعثو عناية السماء لإنقاذ بلادهم.. ماذا فعل مهاتير محمد فى ماليزيا؟ وماذا فعل لى كوان يو فى سنغافورة؟

لم تملك ماليزيا ولا سنغافورة ذرة من ثروات إيران والعراق! ولم تملك قيمة دولية يُؤبهُ لها، ولا وزن، ولكنهما صارتا عنوانا للتحضر والسبق.

ما هو لغز الشعوب إذا..؟!

هل الشعوب- كما يتوهم البائسون- جموع جاهلية، فاقدة للأهلية، تنتظر أنبياء الحداثة الذين يحملونها على الترقى حملا؟!

هل الشعوب سائمة هَمَل، لها أن تُترك فى غيها، تقبع فى دركات ما وجدت عليه آباءها من أعراف، مهما خاصمت العصر.. وليس لها إلا راعٍ يهشها بالعصا؟!

هل الرفق والعقل يصلحان حال الشعوب، أم أن الرفق والعقل من الرخاوة.. ولا يصلح حال الشعوب إلا القمع والقهر والخوف على لقمة العيش؟!

لماذا كفر شعب كالشعب الإيرانى بجنة تاج الطاووس الظاهرة والمزعومة، وفَرَّ من مِقلاتِها إلى نار الملالى؟!

ولماذا بات مصير إمبراطورية الشاه المرتعش فى إيران، كمصير دولة الرعب فى عراق صدام، مآلهما واحد من حيث تململ الناس وغضبهم وعدم رضاهم، وإن تفاوتت النتائج فى حال البلدين؟!

ولماذا فى المقابل صنع بشر لا يملك إلا عقله وحلم إنسانيته- من شراذم ماليزيا وسنغافورة- أمة ووطنا وقيمة بين الأمم؟!

الشعوب لغز.. ولكنه ليس عصيا على الحل إلا لمن أراد أن يستغلق عليه اللغز بالكبر والجهل.

الشعوب تحتاج «الحرية».. استطاعت أن تسميها كذلك أو عجزت عن تسميتها.

الشعوب تحتاج «الكرامة».. أدركت ذلك أو غفلت عنه.

الشعوب تحتاج «احترام إرادتها».. وقد تنتحر فى سبيل بعض من ذلك.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل