المحتوى الرئيسى

اللبن المسكوب في السودان

03/22 04:00

مهما كتبنا عن الثروة الحيوانية في السودان كأحد الموارد الطبيعية فإننا لن نوفي هذا المورد الطبيعي حقه، فمن حيث الأهمية يحتل هذا المورد الطبيعي المرتبة الثانية في اقتصاد البلاد من حيث أهميته، الأمر الذي يجعل السودان إحدى أغنى الدول الأفريقية والعربية بالثروة الحيوانية.

تقدر أعداد الحيوانات التي توصف بالغذائية بمئة وثلاثة ملايين رأس من الأغنام والأبقار والإبل، إضافة إلى خمسة وأربعين مليونا من الدواجن ومئة ألف طن من الأسماك في المسطحات والمصائد الداخلية، ولكم أن تتخيلوا حجم العوائد الاقتصادية المباشرة التي توفرها هذه الثروة الهائلة، حيث إن سكان العالم يعتمدون على هذه الأنواع الرئيسية من اللحوم في الحياة اليومية. وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية للمواشي الحية، فإن السودان يصدر الأنواع المختلفة من اللحوم بالكمية نفسها التي تصدرها أسترالياً، وبكمية تلبي الحد الأدنى من احتياجات دول المنطقة. لا سيما في مواسم الحج.

يضاف إلى ما سبق عدد كبير غير مرصود من الحيوانات البرية من الفصائل النادرة كالغزلان البرية والأرانب البرية وطيور الحبارى والنعام وهذه أنواع تتعرض للصيد بغرض أكل لحومها أو الاستفادة من ريشها وجلودها. ويوجد في السودان أيضا أنواع من الطيور الجارحة كالنسور والصقور لا سيما صقر الجديان الذي يعيش في الجبال والذي يعد رمزا للسودان، إضافة إلى أنواع أخرى من الحيوانات النادرة التي تتخذ من أراضي السودان ومناخاتها المتعددة ملاذا وأوطانا آمنة كبعض أنواع القرود والفيلة والأسود والنمور والتماسيح التي تعيش بكثرة في نهر النيل، هذا فضلا عن حيوان وحيد القرن الذي يعتبر أحد الحيوانات المعرضة للانقراض كغيره من الأنواع النادرة التي تتعرض لعمليات الصيد الجائر.

لطالما كان قطاع الثروة الحيوانية من أهم موارد البلاد الطبيعية التي تدر دخلا مقدرا لميزانية البلاد إما بشكل مباشر أو عبر قنوات أخرى كالسياحة لولا تأثرها بالحرب في الجنوب، فرعاية الحيوانات الداجنة والبرية تعتمد على التواجد البشري الذي يحتاج بدوره لتوفر الأمن الذي كان مفتقدا في ظل الحرب التي أفضت إلى انفصال الجنوب عن الشمال. وحين ندقق في بعض أسباب تلك الحرب نجد أن الأرض والمرعى كانا وراء تجدد الصراعات الأهلية بين أبناء الجنوب، أي أن الأمر كان متصلا بالثروة الحيوانية بشكل مباشر، لكن الأمر لا يقترب حتى من توقعات الخبراء حول العالم ومما يتطلع إليه السودانيون أنفسهم.

ومن ناحية أخرى كانت الحياة البرية الغنية بالثروة الحيوانية أحد عوامل الجذب السياحي للبلاد فقد كان السودان وجهة لمحبي الحيوانات المختلفة وما زال، بيد أن الأمر تغير كثيرا لعدة عوامل اقتصادية وسياسية، واقتصر على محبي الصيد الذين تستهويهم رحلات الصيد البرية والتي تتكلف الكثير من الأموال نظرا لتجهيزاتها اللوجستية المكلفة.

أحد الأسباب التي كانت تدفع بالسائحين لاختيار السودان هو التنوع الذي تمت الإشارة إليه سابقا فقد أشارت بعض الدراسات التي أجريت من قبل بعض المنظمات المعنية بالسياحة البرية إلى أن السودان وحده يحتوي على ثلاثة عشر مجموعة أو نوعا من الحيوانات من أصل خمسة عشر مجموعة في العالم، وتوجد تلك الثلاثة عشر مجموعة في مختلف مناطق السودان من شماله إلى جنوبه، فتشاهد الغزلان والأرانب البرية في الشمال وتشاهد الفيلة في غابات الجنوب.

ولعل المقولة الشهيرة التي يرددها العرب كثيرا "السودان سلة غذاء العالم" تنتظر من يترجم معناها الحقيقي ليصبح السودان في مقدمة دول العالم التي تعتمد على الإنتاج الحيواني كأحد الموارد الرئيسية التي يمكنها أن تحدث نقلة نوعية في اقتصاد البلاد وتشكل علاجا دائما لمشكلات الاقتصاد المترهل والمنهك جراء السياسيات الاقتصادية الخاطئة ذات الحلول المؤقتة والتي تسببت في انهيار حقيقي لقيمة العملة المحلية وارتفاع في نسب البطالة وتزايد لهجرة العقول والأيادي العاملة نحو الخارج بحثا عن الرزق والأمان الوظيفي.

من هنا يمكن للثروة الحيوانية أن تكون نقطة انطلاق وحجر زاوية في تميز البلاد في صناعة لا يستطيع العالم الاستغناء عنها وعن فوائدها، ويمكن للقيادة السياسية للبلاد أن تجعل منها ورقة رابحة ليس فقط لتحسين الوضع الاقتصادي المحلي فحسب بل يمكنها أن تجعل منها أحد عوامل الاستقرار في الأمن الغذائي للمنطقة، والأمر يحتاج إلى جزء من التخطيط السليم الذي يضمن إصلاح أخطاء الماضي، والتحرك نحو المستقبل بخطى ثابتة في طريق واضح المعالم، وبما أن الوضع الاقتصادي يعاني خللا حقيقيا فيمكن على أقل تقدير إعداد خطة محكمة لكيفية النهوض بهذه الصناعة القديمة المتجددة وحينها يمكن أن تجد تلك الخطة من يمولها - لمدة محددة- من رجال الأعمال أو حكومات الدول الشقيقة المقتدرة التي يهمها أن ترى هذا القطاع الاستثماري قويا مزدهرا وتدرك أن اقتصادا سودانيا قويا سيسهم أولا في قوة اقتصاد المنطقة ويؤمن احتياجاتها الاستراتيجية من اللحوم والمحاصيل الزراعية، كما سيرفع الحرج عن الأشقاء الذين لم يمتنعوا يوما عن مد يد العون و"الفزعة" مع دخول البلاد في كل أزمة اقتصادية أو كارثة طبيعية أو حتى سياسية.

سيشكل فيما لو نجح في يوم هذا القطاع الاستثماري الاستراتيجي -بالغ الأهمية- شبكة أمان لإنقاذ عملة البلاد.. وسيقدم نجاحه بديلا حقيقيا للنفط الذي أعطى قبلة الحياة فيما مضى من الأيام للجنيه الذي كانت قيمته في 2006 جنيهين اثنين.. الجنيه للدولار الواحد، والذي لامست قيمته في الأيام الماضية تسعين جنيها في السوق الموازية.

وليس من الصعب تخيل خيرات فتح باب الاستثمار المباشر في هذا القطاع وأولها أن يكون أحد العوامل الرئيسية لتوفير فرص عمل حقيقية لمئات الآلاف من الشباب بل الملايين من الذين يعانون من عدم توفر فرص العمل ليس فقط في السودان وإنما -دون مبالغة- في دول الجوار أيضا. فعلى هامش ازدهار القطاع ستتوفر العديد من الصناعات التكميلية والمرادفة كتنظيف وتجميد لحوم الحيوانات الغذائية والدواجن وتغليفها ثم تصديرها، فضلا عن صناعات الألبان ومشتقاتها، الأمر الذي سيتطلب تجهيز مصانع لتوفير مستلزمات كل تلك المراحل وغير ذلك من الوظائف الإدارية والميدانية التي ستنشأ مع توسع العمل في مجال تطوير قطاع الثروة الحيوانية.

ولا بد أن نذكر في هذا السياق أن السودان تلقى الكثير من عروض الاستثمار والشراكات الدولية الاستراتيجية في مجال الثروة الحيوانية والزراعية، والتي من شأنها ضمان اكتفاء ذاتي لدول الإقليم.. إلا أن الأمر كان يصطدم في كل مرة بمعوقات إدارية واقتصادية لا يمكن تفسيرها إلا كأحد أقوى أوجه الفساد الإداري الذي نخر في منظومة اقتصاد البلاد حد انهيارها.. وأدى لأن تتبوأ البلاد مرتبة متقدمة ضمن مؤشرات الدول الأكثر فسادا في العالم، حيث كان أحدث تصنيف يضع السودان ضمن العشرة الأوائل!

يبقى حل معضلة الاقتصاد سواء عبر بوابة الثروة الحيوانية المهدرة -والتي تعد عملة صعبة يمكنها بجدارة توفير حل عملي سريع الأثر- أو غيرها من بوابات الاستثمار، ويظل ذلك مرهونا بتوفر إرادة سياسية تختبر اليوم واقعا عصيبا ومخيفا على الجميع داخل البلاد وخارجها ويعرفه القاصي والداني، يضع البلاد على المحك بسبب فشل سياسات النظام في إدارة موارد البلاد وخيراتها ما أدى إلى الفشل الذريع في تحقيق التطلعات الشعبية الاقتصادية، الأمر الذي تسبب في خروج مختلف فئات الشعب في احتجاجات غاضبة على تردى الأوضاع وتجاوزت شهرها الثالث دونما توقف.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل