المحتوى الرئيسى

نوبل فى الاقتصاد: التغير المناخى والبحث الاقتصادى فى مصر

10/17 00:22

فى الثامن من أكتوبر، أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم حصول الأمريكيان وليام نوردهاوس الأستاذ فى جامعة «يال»، وبول رومر الأستاذ فى جامعة «سترن» للأعمال، على جائزة بنك السويد فى العلوم الاقتصادية لعام 2018، وهى الجائزة المعروفة إعلاميا بجائزة نوبل فى الاقتصاد؛ وذلك تقديرا لأبحاثهما التى ساهمت فى بناء نماذج اقتصادية لشرح العلاقات المتبادلة بين التغيرات المناخية والتطور التكنولوجى وتأثيراتهما على متغيرات الاقتصاد الكلى والنمو الاقتصادى فى المدى الطويل. وكما جاء فى بيان الأكاديمية، فإن أبحاث العالمين قد مهدت الطريق أمام الاقتصاديين لتوسيع نطاقات التحليلات الاقتصادية لتصبح أكثر شمولية وقدرة على شرح الديناميات التى يتفاعل من خلالها اقتصاد السوق مع الطبيعة والمعرفة.

وتزامن إعلان منح الجائزة فى هذا الفرع من العلوم الاقتصادية تحديدا مع اجتماع اللجنة الدولية للتغير المناخى التابعة للأمم المتحدة فى مدينة إنتشون بكوريا الجنوبية لوضع اللمسات الأخيرة على تقريرها الذى تم إعداده فى ضوء توصيات اتفاق باريس 2015 لخفض الانبعاثات والتكيف مع ظاهرة التغيرات المناخية عالميا. وعلى الرغم من أن تزامن الحدثين يكاد لا يعدو أن يكون من قبيل المصادفة؛ فإنه لا يخلو من دلالات مهمة، فكما هو معلوم فى الأوساط الأكاديمية الاقتصادية، فإن الفرع الذى تمنح فيه جائزة «نوبل فى الاقتصاد»، يشير عادة إلى توجهات البوصلة العالمية للعلوم الاقتصادية دراسة وتدريسا وبحثا، وأضحى ــ لا سيما فى السنوات الأخيرة ــ يعبر ضمنيا عن القضايا الأكثر إلحاحا على الأجندة الدولية للتنمية المستدامة. ومن ثم، فإن منح الجائزة فى هذا المجال إنما يعكس وبصورة كبيرة حجم التهديدات التى تشكلها التغيرات المناخية لمستقبل النمو الاقتصادى العالمى. وهذا ما أكد عليه بالفعل تقرير اللجنة الدولية الحكومية للتغير المناخى المشار إليه، حيث أوضح التقرير أنه فى حال استمرار ظاهرة الاحتباس الحرارى بوتيرتها الحالية، فمن المرجح أن ترتفع درجات حرارة الجو بين عامى 2030 و2052 بمعدل 1.5 درجة مئوية، وهو ما يلقى بالمزيد من المخاطر والتحديات لمستقبل الطبيعة والجنس البشرى. وبناء عليه، فقد أوصى التقرير بضرورة اتخاذ المجتمع الدولى والحكومات تدابير استثنائية وإحداث تحولات جذرية فى الاقتصاد العالمى لمنع تفاقم الأزمات المتعلقة بالمناخ والتخفيف من حدة تأثيراتها على التنمية المستدامة والنمو الاقتصادى العالمى.

ماذا تعنى نتائج تقرير اللجنة الدولية للتغير المناخى بالنسبة لمستقبل الاقتصاد المصرى؟ وماذا يعنى منح جائزة نوبل فى الاقتصاد فى هذا المجال بالنسبة لبحث وتدريس العلوم الاقتصادية فى جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية؟ فى السطور التالية، نستعرض هذين التساؤلين ونحاول مناقشتهما بإيجاز شديد.

أتاح لى انضمامى للفريق العلمى الذى شكلته اللجنة الدولية للتغير المناخى فى العام الماضى لإعداد التقرير العالمى للتغير المناخى السادس، والذى سيتم نشره فى عام 2021؛ فرصا للتعرف عن قرب على سيناريوهات التغيرات المناخية وتأثيراتها المحتملة على التنمية المستدامة والنمو الاقتصادى فى الدول النامية. ولا أكون مبالغا إن زعمت أننى أكاد أكون لم أقرأ تقريرا حول تأثير التغيرات المناخية على الدول النامية؛ إلا وكانت مصر حاضرة وبقوة باعتبارها أكثر الدول المعرضة لمخاطرها وتأثيراتها البيئية والاقتصادية. فعلى الرغم من أن مساهمة مصر فى إجمالى انبعاثات غازات الاحتباس الحرارى المسببة للتغيرات المناخية لا تتعدى 0.6% من جملة الانبعاثات العالمية؛ إلا أنها فى ظل خصائصها الجغرافية والديموجرافية والاقتصادية والاجتماعية، تعد من أكثر دول العالم تضررا من آثار التغير المناخى، والتى تتنوع وفق نتائج دراسات وتقارير دولية لتشمل ارتفاع منسوب سطح البحر، وارتفاع معدلات التصحر، وزيادة معدلات الأحداث المناخية المتطرفة كالسيول أو تناقص معدلات هطول الأمطار، وزيادة معدلات شح المياه، وغيرها. فمن المعلوم ــ مثلا ــ حسبما أكدت دراسات عدة أن ارتفاع مستوى سطح البحر من المحتمل أن يعرض مساحات متفاوتة من الدلتا ومحافظات الوجه البحرى للغرق، وصلت نسبتها وفق بعض هذه الدراسات إلى ربع المساحة الإجمالية للدلتا؛ مما يهدد بفقد مساحات شاسعة من أجود الأراضى الزراعية؛ وبالتالى تناقص الإنتاج الزراعى وتراجع مستويات الأمن الغذائى، علاوة على الهجرة الإجبارية للسكان، والتأثيرات الأخرى على الاستثمارات والأنشطة الاقتصادية المختلفة؛ مما يضيف أعباء إضافية تعيق تحقيق أهداف التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

من خلال هذا الاستعراض المختصر لبعض أوجه تأثيرات التغيرات المناخية على مصر، يصبح السؤال المنطقى يتعلق بمدى الجاهزية والقدرة المتوافرة لمؤسساتنا للتعامل مع تداعياتها المتوقعة، وما سأركز عليه هنا هو ما يتعلق بالمعرفة والتمكن من أدوات التحليل الاقتصادى بالنسبة للمتخصصين والأكاديميين الاقتصاديين والتى يستلزمها التخطيط للتنمية المستدامة فى ظل التداخل الشديد والعلاقات المتبادلة بين المتغيرات البيئية والنمو الاقتصادى والتنمية. فوفق نتائج أبحاث بول رومر، فإن المعرفة والتطبيقات التكنولوجية المتطورة هى أحد أهم متغيرات دالة الإنتاج فى وقتنا الحالى، ومن ثم فمسألة تطوير واستخدام أدوات القياس الاقتصادى ــ كنوع من المعرفة وتطبيقاتها ــ تعتبر ضرورية لتحليل العلاقة بين المتغيرات المؤثرة على دالة الإنتاج، كالمتغيرات البيئية مثل التغير المناخى والتطور التكنولوجى وتأثيراتهما على الاقتصاد الكلى والنمو الاقتصادى فى المدى الطويل.

فى هذا السياق، يمكننا القول إن الحكومة قد استشعرت أخيرا حجم التهديد الذى يشكله التغير المناخى، فنجد أن استراتيجية التنمية المستدامة 2030 قد أشارت إلى هذه الظاهرة وانعكاساتها، كما أنشأت الدولة عددا من المؤسسات واللجان المعنية بالتغير المناخى. وعلى الرغم من ذلك، فإن البحوث الاقتصادية التى أنتجتها مؤسساتنا البحثية كما وكيفا حتى الآن تجسد حالة الاستخفاف الشديد الذى يتم به التعامل مع ظاهرة التغير المناخى وتداعياتها الخطيرة؛ على الرغم من أن بإمكانها إفساد وإفشال الكثير من جهود النمو والتنمية المستدامة. فبنظرة نقدية عامة على الإنتاج البحثى فى مجالات العلوم الاقتصادية، نجد أن الباحثين المصريين قد عزلوا أنفسهم اختياريا وإجباريا عن الاتجاهات والتوجهات العالمية السائدة فى بحث ودراسة علم الاقتصاد. وتتجلى أوجه هذه العزلة فى الاعتماد على طرق وصفية وأساليب نمطية لا تقدم سوى تشخيصات ظاهرية للمشكلات الاقتصادية، دون التعمق فى تحليلها والوصول إلى جذورها من خلال الطرق الكمية والنماذج الرياضية الحديثة. ومن ثم، فنتائج هذه الأبحاث لا يعتد بها فى غالب الأحوال، ولا تقدم لصانعى السياسات تحليلات وتقديرات دقيقة يمكن أن تبنى عليها سياسات واستراتيجيات تنموية ناجحة. علاوة على ذلك، فلا تزال أغلب هذه الدراسات تركز على زوايا شديدة المحدودية للصورة الكلية للمشكلات الاقتصادية ولا تراعى السياق العام والأطر المختلفة التى تتطور وتتفاعل فى ظلها الظواهر والمشكلات الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، نجد أن الأبحاث الاقتصادية المتعلقة بالقطاع الزراعى، وهو القطاع الأكثر تضررا من التغيرات المناخية، لا تزال تركز على دراسة موضوعات قتلت بحثا وبأساليب عفا عليها الزمن، فلا تدرس سوى عوامل الانتاج التقليدية كالأرض والعمل ورأس المال، ولا تأخذ فى الاعتبار المتغيرات التى صارت أكثر تحديدا للإنتاج والإنتاجية، كالتغير المناخى ودور التطور العلمى والتقدم التكنولوجى. وفى أغلب الأحيان، لا تنظر هذه الأبحاث للإنتاج الزراعى كنظام ومنظومة متكاملة تتشابك فيها عوامل الانتاج مع المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وقوى السوق محليا وعالميا. ناهيك عن أن غالبية الإنتاج البحثى الاقتصادى لا يزال ينشر باللغة العربية وفى مجلات محلية مما يزيد من عزلة الباحث المصرى عن الحركة البحثية المتطورة فى العلوم الاقتصادية على المستوى العالمى. ولا يتسع المجال هنا لاستعراض مشكلات البحث الاقتصادى فى مصر وأوجه العزلة التى فرضها الباحثون على أنفسهم اختياريا بسبب مشكلات تتعلق بتكوينهم البحثى، أو إجباريا بما تفرضه عليهم النظم والمؤسسات البحثية، ولكن يمكن أن نجمل بالقول بأن أزمة علم الاقتصاد فى مصر هى جزء من أزمة أكبر تشهدها سائر العلوم الاجتماعية، وهى امتداد للحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتدهورة على المستوى العام المحلى.

خلاصة القول، إن التغير المناخى لم يعد مجرد ظاهرة بيئية، وإنما أضحى حقيقة علمية ومشكلة اقتصادية وبيئية تؤرق دول العالم على حد السواء، وهناك ــ على وجه الخصوص ــ أدلة علمية مقلقة حول تأثيراته على النمو الاقتصادى والتنمية المستدامة فى مصر. وفى زمن تتسارع وتتداخل فيه التغيرات البيئية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية يبقى الباحثون الاقتصاديون فى مصر أمام ظواهر ومشكلات جديدة لا عهد لهم بها، وليس بمقدور نماذجهم المعرفية التقليدية الإحاطة بها وفهم دلالاتها. وبناء عليه، فهناك حاجة ملحة إلى تطوير مناهج الدراسة والبحث فى علم الاقتصاد ومعالجة أوجه القصور فى تصميم البحوث وأساليب ومنهجيات إنتاج المعرفة الاقتصادية لبناء وتطوير قدراتنا على التحليل والتخطيط الاستباقى للتكيف مع التغيرات المناخى، فكما أشارت أبحاث وليام نوردهاوس وبول رومر، فإن امتلاك المعارف والأدوات اللازمة لتحليل الديناميات التى يتفاعل من خلالها اقتصاد السوق مع الطبيعة والمعرفة هى لا شك ضرورات ستحدد قدرة المجتمعات على التكيف مع التغيرات المناخية وتداعياتها الاقتصادية.

أستاذ مساعد بقسم الاقتصاد بالجامعة السويدية للعلوم الزراعية

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل