المحتوى الرئيسى

«رحلة إلى الإيدز».. «المصري اليوم» تتتبع دماء حامل الفيروس بمستشفى المنيرة | المصري اليوم

10/16 06:30

مساء 14 أكتوبر، مُنتصف ليل القاهرة، كانت كُل أركان حيّ السيدة زينب الشعبي هادئة، بسبب برودة الجو، فيما عدا البُقعة المحيطة بمستشفى المنيرة العام، تحديدًا في القسم الخاص بالاستقبال والطوارئ، كانت صرخات المريض تنطَلق دون توقف، لكنها ليست صرخات عاديّة، وإنما صرخات ألم واستغاثة مصحوبة ببقع دماء، خضبّت أرضية المستشفى في ثوانٍ معدودة وصبغتها باللون الأحمر بدلاً من الأبيض، وسط انتشار الذعُر في أعين الجميع، مُرددين: «كُله يبعد، ده مريض مُصاب بالإيدز».

«دخل الطوارئ شاب على كرسي، مُصاب بنزيف حاد، أدى لانفجار بعد تمدُد في الشريان الفخذي، المريض غرّق المستشفى كلها دم»، هكذا كتب طبيب الجراحة الذي شاهد الواقعة، ثروت بدوي، تفاصيل الواقعة عبّر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي، «فيس بوك»، مضيفًا: «أنا أول شخص اتعامل معاه، وعملت له اسعافات أولية تمهيدًا لتحويله من المستشفى، غير المتخصص في مثل تلك الحالات، لأن المستشفى لا يوجد بها غرف عزل أو جراحة أوعية دموية».

من الباب الخلفي للمستشفى، وحتى مدخل الطوارئ، الذي يبعُد عن المدخل الرئيسي عدة أمتار، تناثرت دماء المريض على أرضيات وجُدران المستشفى، حسبْ شهادة الدكتور ثروت، الذي أضاف وفقًا للمنشور المذكور سابقًا: «قفلنا الاستقبال، وبلغنا الطوارئ يبعتوا إسعاف، الحالات اللى في الطوارئ هربت، والناس اللى على القهوة هربوا بمجرّد السماع عن وجود مريض إيدز في المستشفى».

«المصري اليوم» قامت بجولة داخل مُستشفى «المُنيرة» سابقًا، «الموت» حاليًا..

بدأت جولتنا بالقرب من المقهى الشعبيّ الذي ذكر «ثروت» أنه شهد الواقعة، كان المقهى مزدحمًا كما عادته، يمتزج صوت «النرد» المُرتطم بخشب الطاولة، بطلبات الزبون المُتردد دائمًا، الوجوه عابسة، لكن لا شئ مُتغير في المكان، بعد خطوات معدودة، توجهّت إلى متجر الأدوات الدراسية المتواجد بالقُرب من المقهى، سألتُ صاحب المتجر عن أي أحداث غير عاديّة، جرَت بالقُرب من مستشفى المنيرة، تردّد الرجُل الأربعيني للحظات، ثم قال: «تقصدي إيه يعني؟»، فأجبته بالروايات المُتناثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، عن مريض الإيدز الذي جاء دون تعقيم أو تجهيزات إلى المستشفى، فأصابَ الجميع بالذُعر.

صمتْ الرجُل الأربعيني لعدة ثوان، ثم عاد ليُخبرني بأنه رأى حركة غريبة أمام المستشفى أمس، سيارات إسعاف جاءت بأجهزة تعقيم، حسبمْا قال: «أصلهم قالوا إن في مريض إيدز دمُه غرق المستشفى، لكنهم عقموا المستشفى بعد كده».

لم تفصلنا عن كلمات الرجُل الأربعيني وبوابة المستشفى الأمامية، سوى عدة أمتار وأحاديث المارة عن «مريض الإيدز» القابع داخل مستشفى المُنيرة، توجّهت فيما بعد إلى بوابة المستشفى، تفحصنّي رجل الأمن للحظات، إذ قال عبارة واحدة: «عاوزه إيه؟»، سألتهُ عن أماكن الكشف داخل قسم الاستقبال، فأرشدني إلى المكان المطلوب، وصاحبني إلى أن استقبلني موظف آخر، سألني عن سبب زيارة المستشفى، ثم أعطاني ورقةً بالكشف «المجاني»، بعد عدد من النظرات المُتفحصة القلقة أيضًا.

داخل أروقة المستشفى، تحديدًا قسم الدخول والاستقبال، كانت الأجواء عادية، مرضى يتألمونْ وأطباء يتناوبون في الكشف عليهم، سألتْ أحدهُم عن أماكن كشف العظام، فأجابني بتملمُل: «عندك هناك، تالت أوضة شمال»، توجهَت إلى الغرفة المقصودة، التي كُتب عليها «كشف/حجز حريمي»، جلستُ بداخلها دون أن يأتي طبيب.

5 دقائق، كانت مُدة جلوسي داخل غرفة الحجز، وعندما لم يأت طبيب الكشف، توجّهت إلى ممر الاستقبال مرة أخرى، إلى أنْ قابلت إحدى الممرضات التي تطوّعت بسؤالي عن وجهتي، فأجبتها بالسبب، ثم سألتها عن واقعة «مريض الإيدز» المُتناثرة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، صمتتْ الممرضة للحظات، ثم طلبت مني رؤية المنشور الذي كتبهُ دكتور ثروت على صفحته الشخصية، إذ قالت بنبرة لم تخلو من الخوف: «آه الدكتور ده عندنا، ومريض الإيدز لسّه موجود هنا».

لم تقُل الممرضة أي تفاصيل أخرى عن الواقعة، تغلّفت بالخوف خلال لحظات، فجاءت كلماتها مُبعثرة: «معرفش حاجة، كُل اللى أعرفه أن المريض موجود دلوقتي في الدور التالت، وممنوع حد يطلع فوق».

الطريق إلى الدور الثالث، كان مظلمًا وهادئًا على غير عادة المستشفيات الحكومية، من الدور الأرضي إلى الدور الثالث، لم يسألني أحد عن وجهتي، توجهّت إلى الدور الأول ثم الثاني، في الدور الثاني، توقفت أمام «كمامة» مُلقاه على الأرض، بينما كان هُناك مشاجرة قائمة بين عدد من الأشخاص، توقفت للحظات، فباغتتني إحدى الممرضات: «مالكيش دعوة بالخناقة دي، أنتِ رايحة فين؟».

داخل قسم الجراحة والحروق، حيثُ يقبع المريض، سألتني إحدى الممرضات عن وجهتي، فسألتها عن مريض الإيدز المحجوز داخل القسم، بدا القلق على وجهها وطلبت إثبات صلة قرابة بالمريض، فأجبتها بأنني صديقة العائلة، اصطحبتني الممرضة عبّر ممر طويل، ثم جاءت ممرضات أخريات، وأصرّوا على إثبات قرابتي للمريض حتى أتمكّن من رؤيته.

حينها، أخبرهُم شقيق المريض، الشاب العشريني، حسام نصر، أنه يعرفني، فتركوني حينها أدخُل إلى الغرفة كي أرى المريض، دون تعقيم أو ارتداء قفازات، أو اجراءات احترازية كي لا يتم نقل العدوى، فقط حذروّه عدة مرات، بلهجة لم تخل من التهديد: «أخوك مكانه مش هنا أصلا، مش عاوزين مشاكل».

بعد مُغادرة الممرضات، سألني شقيق المريض «انتي مين؟»، فأخبرته، فأجاب على الفور: «أنا عارف إنكم عاوزين تساعدونا، لكن مش عارف ليه المستشفى عاملين قلق».

اقتربت من هدفي «وائل».. حالته يرثى لها، قدمه أعلى الركبة تنزف من جرح ظاهر، والدماء تغطي المكان.. لم أستطع التحدُث معه بأي شئ، فقط كان يصرخ صرخات مدوية: «عاوز مُسكن يا نااااس.. يا تعالجوني.. يا تموتوني».

«اسمُه وائل نصر، عُمره 37 سنة، عاطل»، كلمات تعريفيّة قليلة قالها «حسام» عن شقيقه المُصاب بالإيدز، مؤكدا صحة كلام الدكتور ثروت في المنشور الذي كتبه على «فيس بوك»، إذ يُعاني منذ أكثر من شهرين ونصف بالإيدز. كما يحكي: «إحنا بقالنا 20 يوم بنلّف على المستشفيات، أغلب الأماكن رفضته، رُحنا الحميات رفضوا يستقبلوه». ويتابع مستنكرًا: «يعني الغلابة لمّا يتعبوا يروحوا فين؟».

لا يعلم «حسام» سبب تواجد شقيقه داخل مستشفى المُنيرة، فالمصابون بمرض الإيدز لابُد من عزلهم في مستشفيات «الحُميات»، حتى لا يصيب آخرين بالمرض.

أيام عديدة، قضَاها «وائل» في البحث عن مستشفى يقبل باستقباله، حتى وجد مستشفى المُنيرة، التي جلس بداخلها، تحديدًا داخل قسم الجراحة والحروق، لا يفصلهُ عن المرضى، سوى ممر صغير، إذ يقبع داخل غُرف كُتب عليها «غرفة عزل رقم (1)».

أترك المشهد المأساوي، بينما تتعالى الصرخات من داخل غرفة العزل، وامامها يقف الشقيق «حسام» وحيدًا يُردد جملة واحدة «يا تعالجوه.. يا تموتوه».

Comments

عاجل