المحتوى الرئيسى

يوم أن كانت المدرسة طوق النجاة، ونظام التعليم يبني الإنسان

06/23 04:50

على مدار شهر ونصف الشهر قضيته في تلك المدينة الجميلة القريبة، نوعاً ما، من الأطلسي، المغروسة في قلب الخضرة المتنوعة بأشجارها الشاهقة، الكثيفة الأغصان، المطرزة حدائقها بزهور تكسوها ألوان الصيف المبهجة وكأنها قوس قزح، طوال تلك الفترة لم أسمع صوتاً لآلة تنبيه واحدة. لكن فجأة في ذلك اليوم جاءني من بعيد صوتها يزعق بشكل متقطع في انتظام متلاحق. كان الهدير المتتابع صادرًا عن الــ"يلو باص" - كما يُطلقون عليه هناك - وهو أتوبيس لونه أصفر يميل إلى البرتقالي.

كانت تقوده سيدة خمسينية مسرعة - بشكل يزيد على المعتاد يوميا قليلا ومع ذلك فهى سرعة محكومة لا تزيد على ٢٠ ميلاً، أي تقريباً ٣٢ كم في الساعة - إلي أن اتخذت موقعها وتوقفت أمام المبني العريض اصطفت أمامه مجموعة أخرى من "الباصات" من نفس اللون والحجم. في تلك اللحظة كانت المجموعة الأخيرة القادمة من عمق المبنى تهتف "فريدم، فريدم، فريدم".

الطفلة ذات الأشهر الستة التي أحملها فوق كتفي - كعادتي في حمل الأطفال لتري المشهد من علٍ - ظلت ترقب ما يدور أمامها وتتلفت في دهشة، وكأنها تحاول أن تفهم. لنا أن نتخيل نحو ٢٤٠ طالبًا وطالبة - من الصف الثاني حتي الرابع الابتدائي - يخرجون في أفواج متوالية، كل منهم يهتف بشعار مختلف. طفلة لم يتجاوز عمرها الثامنة تردد بصوت جهوري: "آي آم أوت أوف سكول فور إيفر". أي: "انتهت المدرسة بالنسبة لي للأبد"، ثم سرعان أن قذفت الجدران بموجة أخري يتقدمها أطفال ذكور - يضعون أيديهم علي أكتاف بعضهم البعض من الخلف في طابور ممتد - يهتفون مرات متلاحقة: "فاينالي" "أخيراً، أخيراً، أخيراً" "فريدم، فريدم، فريدم"، كانت الهتافات بنبرة احتفالية مفعمة بالمرح، وقد بدا لي أنهم سينتقلون ليس فقط إلي صف دراسي جديد ولكن إلى مدرسة أخرى تناسب المرحلة العمرية الجديدة، فــ"الميدل سكول" تبدأ من الصف الخامس حتى الثامن، ثم بعدها تبدأ "الهاي سكول" أو ما يعادل المرحلة الثانوية في مصر.

كان ذلك يوم الأربعاء الماضي - أي أول أمس - في إحدى المدن الأمريكية الواقعة على الشمال الشرقي من القارة، حيث خرج التلاميذ بعد نصف يوم فقط من العمل الدراسي، لأنه اليوم الأخير، إذ تبدأ الإجازة الصيفية التي تمتد لشهرين فقط، حيث يعود الطلاب مع نهاية أغسطس ليستأنفوا عاماً جديداً تتخله ثلاث عطلات قصيرة تتراوح بين أسبوع وعشرة أيام، إضافة إلى بعض العطلات القومية المتفرقة والتي تحرص الدولة على ضم تلك العطلات القصيرة المتفرقة إلي"الويك إند" لتكون فرصة الاستمتاع بالإجازة أفضل وأطول، وليتمكن الأهل من السفر السياحي إن أرادوا"

كان الجميع يودعون بعضهم. المدرسات تحتضن تلميذاتها، أو تربت علي أكتاف البعض الآخر. الأطفال يجرون هنا وهناك، يتبادلون كلمات الوداع والأحضان قبل أن ينفلت عدد منهم ليصعد إلى "الباصات". عدد من المدرسات والأمهات يُمسكن بالكاميرات المختلفة أو الموبايلات، ويُسجلن تلك اللحظات التاريخية في أعمار أولادهن وبناتهن. عندما بدأت "الباصات" في التحرك كانت جميعها تدق في نفس الوقت على آلات التنبيه بشكل جنوني معجون بالمرح.

لفت نظري التناقض بين أمرين، رغم السعادة الكبيرة بانتهاء العام الدراسي كان هناك بعض الفتيات - عدد قليل جدا - كن يبكين، ربما لفراق صديقاتهن، وربما حباً في المدرسة، حيث الحرية والانفلات من قيود البيت ونظامه الصارم، ففي المدرسة مهما كانت الرقابة محكمة لكنها ليست كما في المنزل، في المدرسة، ومعها، تبدأ الخطوات الأولى علي طريق الحرية. بينما لمحت مجموعة أخري - بينهم مدرسات ومدرسون - سعداء رغم الشجن البادي على بعضهم لفراق تلاميذهم، لكنهم بالتأكيد يحتاجون إلى الراحة والاستجمام أيضاً.

كانت جميع الأيدي تُلوح، مَنْ على الأرض ومَنْ في الداخل. لم يكن لي أحدُ في الأتوبيسات لكن صديقتي - التي أحمل صغيرتها بينما كانت تصور الحدث - أخذت تحثني قائلة: "لوحي لهم، لوحي لهم". ففعلت بحماس شديد.

جلسنا بجوار مبني المدرسة على أحد الكراسي الخشبية يُهدهد وجوهنا نسمات خفيفة رقيقة تخفف من وطأة الحر والرطوبة، المكان محاط بالخضرة والأشجار والزهور التي نحتمي بها من قيظ الشمس غير المحتمل، علي بعد أمتار قليلة ظل طفلاها يلعبان في المكان المخصص لهما، بقينا خمس عشرة دقيقة في انتظار أن يحين موعد وصول "الباص" الذي يُقل طفلتها ذات الأعوام السبع. أخذنا الحكي عن أسلوب التعليم هناك، حكيت لها عن دهشتي عندما سألت أطفالها ذات يوم: "هل أنهيتم الهوم وورك؟" فأجابوني في فرح "إحنا في الويك إند؟ نظرت في دهشة متسائلة: "وماذا يعني هذا؟ فــ"الويك إند" في مصر يعني مزيدًا من الواجبات، مزيدًا من المذاكرة، مزيدًا من القراءة، مزيدًا من استعباد الطلاب بكثير من الدروس والواجبات".

صديقتي هذه حريصة علي تعليم أبنائها اللغة العربية حتي أنها في بعض الأحيان تحظر عليهم التخاطب بالإنجليزية داخل البيت، كنت أسمعها تشجعهم قائلة: "أنتم متميزون على أقرانكم بأنكم تُجيدون الإنجليزية، ولغة ثانية تختارونها وفق رغباتكم، إضافة إلى لغة ثالثة لا يعرفونها - تقصد العربية - وهم يغبطونكم على ذلك ويُحاولون تقليدكم،" تمامًا مثل صديقتها الباكستانية التي تُجيد بناتها اللغة الأردية. إنها محاولة لحل معضلة مولد وتنشئة جيل جديد من الأبناء بعيدا عن أرض الأجداد، ومساع للمزج بين الجذور والتربة الخصبة الغنية الجديدة.

بابتسامة ودودة أوضحت لي صديقتي: "الويك إند" هنا يعني أن يستمتع الأطفال باللعب والخروج للتنزه مع الأهل. البهجة والمرح والاستمتاع جزء أساسي مهم في بناء الشخصية. التركيز على التعليم يكون بالمدرسة، إلى جانب بعض الواجبات المدرسية بالمنزل في غير الأعياد والإجازات. فسألتها مجددًا: "وهل اليوم الدراسي كافٍ لتحصيل العلوم المختلفة ومذاكرتها؟" فأجابت: "أصلا هم لا يدرسون مواد كثيرة، فاليوم يتم تقسيمه للمسابقات خارج جدران الفصل حيث يلعبون على الخضرة وفي الطبيعة، أو يتعلمون ويُمارسون زراعة أشياء متنوعة في فصلي الربيع والصيف، التركيز يكون علي القراءة والكتابة والخطابة والفهم، لذا يقرأون قصصاً ويكتبون عنها ملخصات أو يطرحون تساؤلات على بعضهم البعض، ويتم تدريبهم علي فنون الإلقاء أمام زملائهم لتدريبهم على تدعيم الثقة بالنفس، أو يتم دعوة الأم أو الأب أو الأخ الأكبر ليقرأ قصة على الفصل وينصت إلى تساؤلات الأطفال الآخرين ويحاول الإجابة عنها، أو يتعلمون شيئا عن الجغرافيا والتاريخ والعلوم والعملات والاقتصاد في أبسط أشكاله، أو يخرجون في رحلات علمية ترفيهية للمتاحف والحدائق في المدن الأخرى أو في ضواحي مدينتهم، يسيرون طويلاً، يجرون يمرحون، قبل أن يتناولوا طعام الغداء. هناك مراقبة مستمرة لأنواع المأكولات التي يُحضرها البعض من المنزل، خوفاً من الحساسية التي تصيب بعض الأطفال، هناك ما يشبه "الكانتين" الذي يقدم للأطفال مأكولات ومشروبات بمبالغ مالية. أي طفل يصيبه غثيان أو قيء أو ورم بالوجه، أو أي شيء غير عادي، حتى لو كان بسيطاً، يتم اصطحابه إلي الممرضة للتعامل مع الموقف، ويتم الاتصال بأسرته للحضور واستلامه حماية للأطفال الآخرين.

ليس هناك زي موحد للمدرسة، إلا في مناسبات معينة يتم تحديد موعدها ولها قواعد للالتزام بها، هناك أيضاً "تي شيرت" بلون موحد عليه "لوجو" المدرسة لمن يرغب من الطلاب في شرائه وارتدائه أحياناً، وغالباً يتم الاتفاق على ارتدائه بشكل موحد أثناء الرحلات. فيما عدا ذلك فكل تلميذ يرتدي ما يشاء، من الألوان والأشكال والموديلات، الفتيات ترتدين الشورت القصير جداً، من دون أن يعترض أحد، من دون أن يدعي البعض أن ذلك يُعطل الفتيان عن المذاكرة، أو يٌشتت تركيزهم. ابن صديقتي المسلمة المتدينة بالتزام - يخلو من أي تهاون- والتي تغرس قيم دينها في أطفالها، رأيت أنا عدة مرات ابنها الأكبر بالصف الخامس يمشي والبنات أمامه وحوله بملابس قصيرة جداً، ومع ذلك لم أشعر أنه يختلس النظرات، أو يشغله الأمر، بل إنه لا يزال يحقق أعلى الدرجات وينال شهادات التقدير لتفوقه، فلا "الهوت شورت" عطله، ولا الملابس العارية شغلت تفكيره، ولكنها في بلادنا حجج نداري بها فشل المسئولين عن التعليم في تحقيق أهدافه.

هناك أيضاً مساحة كبيرة للمهارات واكتشاف المواهب، خصوصاً الرسم والموسيقي والغناء لهما مساحة كبيرة.

الأطفال يرسمون بشكل شبه يومي. في نهاية العام يتم اختيار بعض من رسومات جميع الأطفال - للتشجيع - من الموضوعات المتفق عليها ويتم تعليقها على الجدران بطريقة ظريفة في احتفال يدعون إليه الأسر والعائلات ليشاهدوا إبداع أبنائهم وبناتهم. يلتقطون الصور التذكارية ويشاهدون باقي صور الزملاء قبل أن يأخذوا الملف الذي كونه الأبناء على مدار العام.

أما الدرجات التي يُقيم بها الطالب فلا تقتصر علي الامتحانات التحريرية، لأنها أصلاً قليلة العدد، الاعتماد الأكبر يكون على التفاعل في الفصل، على الحضور الذهني، والمشاركة، والقدرة على تطوير الشخصية، والأسلوب في النقاش، وفي التعامل مع الزملاء والزميلات، على مدى الاستجابة للمعلم.

في تلك اللحظة تذكرت الضجة التي أثيرت في مصر مؤخرا بشأن التعليم، والثورة التي يريدون إحداثها، وحكاية قرار حذف اللغة الإنجليزية من المدارس، تذكرت الحالة التي يكون عليها الطلاب من ذعر وخوف وفزع، والدروس الخصوصية التي تخصص لها ميزانيات جبارة تستنزف ميزانية العائلة وتجعلهم يلجأون للاقتراض في بعض الأحيان، أو تنظيم "الجمعيات"، تذكرت كيف فقدت ابنة أختي وزنها بشكل مرعب بسبب ذعر الثانوية العامة، استعدت كيف أصابني التوتر الدائم وتقلصات المعدة التي لاحقاً تحولت لحالة مزمنة منذ التحقت أنا بالثانوية العامة بعد أن كانت المدرسة في المرحلة الابتدائية والإعدادية ملاذا للفرح والسعادة وطوق نجاة من أعمال الحقل وصيد السمك في مزرعة عمي وهيب، وحش البرسيم وإطعام الماشية.

تذكرت أحد الأصدقاء الألمان من أصول مصرية - الذي كانت تربطه بزوجي صداقة قوية - عندما كنت أفكر ذات يوم في صناعة فيلم وثائقي عن المراكز الطبية المتخصصة في إعادة التأهيل - فسألته ذات يوم: لماذا اتجهت مؤخرا لتستثمر أموالك في المدارس والمستشفيات؟ فقال: "المستقبل للتعليم والطب، لكي تبني مستقبل دولة ما فلا بد من توفير بنية علي مستوي راق قادر على المنافسة في التعليم والصحة.“

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل