المحتوى الرئيسى

فى حب الكرة وصلاح ومصر

06/20 23:24

سوف يكتب الكثير فى الأسابيع القادمة عن مباريات كأس العالم لكرة القدم، وهو قد يكون الحدث الأكبر كل أربع سنوات، فهو يضاهى فى صخبه أهمية الألعاب الأولمبية أو قد يتفوق عليها بالنسبة للكثير من محبى ومتابعى كرة القدم. ولطالما شكلت عندى رياضة كرة القدم صورة نمطية تظهر أطفالا يتقاذفون كرة فى الشارع أو فى الحارة بين البيوت وبين الباعة المتجولين. أطفال يغطى العرق جبينهم ويقفز المرح من عيونهم، تعلو أصواتهم وينتشر حماسهم بين العمارات فيخلقون البهجة حيث يلعبون.

هناك شىء عفوى فى تشكيل أطفال حى واحد لفرقة للعب كرة القدم، هناك عامل جاذب كالمغناطيس لرياضة تخترق الفروقات الثقافية والطبقية وتجمع أولادا فى لحظة مرحة تعبر عن النشاط والفرح والطفولة عموما. تماما كما كان هناك شىء عفوى وصادق فى دعم الملايين من المصريين وغيرهم لفريق مصر فى مباراتيه هذا الأسبوع ضد الأوروجواى وروسيا، فقد اجتاحت شبكات التواصل الاجتماعى موجات من الحماس والحب لم تظهر منذ زمن. وعبر الكثير من المصريين عن حبهم لفريقهم وأملهم بأن يربح المباراتين بمعزل عن أى شعور آخر كالإحباط والخيبة كان مهيمنا على القلوب فى الشهور الأخيرة. إذ إن الأوضاع الاقتصادية والسياسية فى مصر وفى المنطقة العربية عموما ثقيلة على القلوب، والأحلام بالتقدم والخروج من عنق الزجاجة الخانق يبدو، منذ فترة، أنه أصبح صعب المنال.

لذا فالأيام القليلة الماضية بدت فريدة فى قدرتها على تجميع الناس فى حب الفريق وحب مصر، عجيبة فى خلقها لحالة انتظار وأمل، جبارة فى عزلها لكرة القدم عن باقى الظروف وكأن قوة دفع أحاطت بمحبى الرياضة وبالأخص محبى اللاعب النجم محمد صلاح فرفعتهم عن استيائهم من محيطهم وجعلتهم، للحظة، مجمعين على حب الوطن، آملين بالفرحة التى سوف ترد لهم بعضا من الروح.

قد نختلف كثيرا فى تعريفنا للوطن والانتماء وحب الأرض والتعلق بالدار، فلكل تجربته وتوقعاته أيضا مما يعتبره الوطن. وبالتالى فبرأيى أن السياسات الممنهجة لخلق وفرض شعور بالانتماء عادة ما تكون هشة رغم نجاحها أحيانا فى تجميع الناس حول مواقف محددة، أو بالأحرى تجييشهم واستخدام عواطفهم فى جذب ولائهم لقضايا معينة، أى أن يتم التلاعب، من خلال تعريف الشعور الوطنى والولاء كحالة لا تشكيك فيها والتعامل مع أى تشكيك على أنه محاولة لإضعاف الشعور الوطنى. وقد برعت الأنظمة السياسية الفاشية كنظام هتلر وموسولينى وفرانكو فى القرن الماضى فى خلق مفهوم الشعور الوطنى والمعنوى المجيش، وفى قدرتهم على أن يبرروا ممارسات الدولة القمعية بحق الأفراد والمجتمع بحجة الحفاظ على الشعور الوطنى. وطبعا استفادت أنظمة سياسية معاصرة من خبرة من سبقها وطبقت مفهوم الشعور الوطنى كأداة للتحكم والحكم.

ما علينا، فقد كتب الكثيرون فى السياسة وفى القمع والقهر، سواء فى القرن الماضى أو فى السنوات الأخيرة، لكن ما يهمنى اليوم هو مخزون الحب والفرح والحلم والأمل الذى لمسته عندى وعند أولادى وأصدقائى وقد ظهر هذا الأسبوع فى حب الكرة ومحمد صلاح ومصر. هو مخزون ينتظر أى مناسبة حتى ينفجر ويملأ الفضاء من حوله بالضحكات والألوان، هو شعور بأننا نفتقد الفرح ونحن إلى لحظات تنسينا ما آلت إليه الظروف المعيشية فنتجمع فى حلمنا معا بلحظة انتصار، حتى لو كان الانتصار فى الملعب لا أكثر.

أسمع أولادى يتحدثون عن فريق مصر ويقولون «نحن أدخلنا هدفا» فيذوب قلبى مع استخدامهم لكلمة «نحن»، ها هم يشعرون بالانتماء. لقد نبتت جذورهم الفتية داخل الأرض العتيقة وصار لهم مكان يسمونه الوطن. لبسوا الفانلات الحمراء وجلسوا أمام الشاشة يساندون فريقهم. أنا من هنا، تقول ملامحهم. ما زال شعورهم بالمكان غضا وتصورهم عن أنفسهم مرتبطا بمكان إقامتهم وبأصدقاء المدرسة. ما زالوا بعيدين عن تعقيدات سوف تشوب قطعا العلاقة المركبة بين الفرد والوطن. ذلك الشعور الخانق صعب التفسير الذى يطغى على أى علاقة أخرى، ذلك الارتباط العضوى الذى يصعب فكه تماما كالارتباط بالأم مهما كانت أما سيئة. ربما يفلت أحدنا من أم مجنونة أو من وطن قمعى فيبتعد عنهما ويبدأ حياة فى مكان آخر. لكن حتى فى الحياة الجديدة، تظهر على حين غرة صورة للوطن ــ الأم ينقلب معها التوازن الجديد ويجتاح الحنين الروح فأنسى معه كل ما بنيت وأعود إلى هناك، حيث الجذور والحب والجيران.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل