المحتوى الرئيسى

ثقوب ضريبية سوداء!

06/20 01:21

عندما أقرأ لعلماء الفيزياء النظرية حول تفسيرهم للثقوب السوداء Black Holes بأنها تمثل الأجسام الكونية التى ليست لها قاع معروف، وأنها تمتلك قوة جذب تمكنها من تبديد كل الأجسام التى تمر بمحاذاتها، وللدرجة التى تجعل الضوء نفسه لا يستطيع الإفلات من جاذبيتها؛ أقول إن الباحثين فى الشئون الاقتصادية فى الدول النامية يرصدون فى تحليلاتهم ما يشبه هذه الثقوب السوداء. ذلك لأن أغلب الدول النامية تعانى وجود ثقوب سوداء عديدة فى المال العام، تقوم فى النشاط الاقتصادى مقام الثقوب السوداء فى الكون. والفارق الوحيد بين هذين النوعين من الثقوب، أن الأولى فى الفضاء والثانية فى الضرائب!

ثمة حقيقة اقتصادية أكدتها التجارب الدولية الناجحة، وهى أن الثمن الذى ينبغى أن تدفعه أى دولة نامية لكى تعالج عجزها المالى ليس هو فوائد الديون، بل يتمثل فى زيادة جهدها الضريبى. إذ بينما يخضع التزايد المطرد للنفقات العامة لـ«قانون طبيعى» فى جميع دول العالم، وبما أن هناك «قيودا اجتماعية» تحول دون تخفيض هذه النفقات لمستويات تمس العدالة الاجتماعية ــ يصبح السبب الأول فى نمو الدين العام هو قصور الإيرادات الضريبية عن مواكبة هذه النفقات المتزايدة، ويصبح لازما على برامج الإصلاح المالى الرشيدة أن تقايض بدقة بين التوسع فى الاستدانة وبين تنمية الجهد الضريبى الوطنى.

وبالاعتماد على الحقيقة السابقة، وبالنظر فى برنامج الإصلاح المالى الراهن الذى تطبقه السياسة الاقتصادية فى مصر، يمكن أن نرى بوضوح ميل هذا البرنامج للتوسع فى الاستدانة الداخلية، بإصدار مزيد من أذون الخزانة، والاستدانة الخارجية، بإصدار السندات فى الأسواق الدولية، على حساب تنمية الجهد الضريبى المصرى. يكفى فى هذا الخصوص أن نشير إلى أنه فى الوقت الذى تؤكد فيه بيانات البنك الدولى ضآلة الجهد الضريبى المصرى، لكون جملة الإيرادات الضريبية منسوبة إلى الناتج المحلى الإجمالى قد شهدت تذبذبا نزوليا خلال السنوات الأخيرة، وأن تلك النسبة مازالت دون حاجز 15%، إذ بمؤشرات الدين العام الصادرة عن البنك المركزى المصرى تعكس نموا سريعا فى حجم الدين العام الإجمالى (المحلى والأجنبى)، وتفاقما واضحا فى الأعباء السنوية لخدمته، واللذين ينوء بحملهما الاقتصاد المصرى فى وضعه الحالى.

على أن ما يحتاج لتفسير هنا ليس هو أسباب التوسع فى الاستدانة الداخلية والخارجية، بل العوامل التى حالت ــ ومازالت تحول ــ دون تركيز برنامج الإصلاح المالى على تنمية الجهد الضريبى المصرى، ودون وصول الطاقة الضريبية للاقتصاد المصرى لحدها الأقصى. هاهنا نرجع مرة أخرى لظاهرة «الثقوب الضريبية السوداء» التى ذكرنا طرفا منها فى صدر المقال، والتى ما انفكت تستشرى فى جسد المالية العامة المصرية. فماذا عن هذه الثقوب؟ وكيف تحد من قدرة الاقتصاد المصرى على تعبئة «الضرائب الكامنة» فى جنباته؟ وهل هناك ثمة حاجة لبرنامج مالى وطنى يتصدى لها، ويضمن الوصول بالطاقة الضريبية المصرية لحدها الأقصى؟

ولكى أحدد تعريفا جامعا للثقوب الضريبية السوداء فى منظومة الضرائب المصرية، وفى ضوء التنوع الشديد فى الإيرادات الضريبية التى تستأديها الدولة من الممولين، تتولى النقاط الخمس التالية حصر أهم السمات التى تتسبب، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فى النزول بالطاقة الضريبية للاقتصاد المصرى دون الحد الأمثل الذى يمكن الوصول إليه.

ــ أولى هذه السمات هى العدالة الضريبية المنقوصة. فإذا كان من الطبيعى أن تقف العدالة الضريبية على قدمين، إحداهما القدرة على الدفع، والأخرى المنفعة من الخدمات العامة؛ فإننا فى المالية المصرية إزاء غياب تدريجى لهذه العدالة. فلم تعد مقدرة الممول على الدفع، أو المنفعة التى يحصل عليها الممول من الخدمات العامة التى تقدمها الدولة، هما المحددين الرئيسيين للتوسع الضريبى. فبينما تعتبر فئة الملاك هى أقدر الفئات الاقتصادية على الدفع، وهى الأجدر بالانتفاع بالخدمات العامة (وخصوصا البنية الأساسية) من بقية الممولين، فإنك عندما تتابع التوجهات العامة للضرائب المصرية سترى وضعا معكوسا لتمويل الضرائب. فوفقا لتقارير وزارة المالية، فإن أكثر من نصف الإيرادات الضريبية يأتى من الضرائب المفروضة على السلع والخدمات، والتى بطبيعتها لا تفرق بين غنى وفقير؛ وفى الوقت ذاته، لا تزيد حصة الضرائب على الممتلكات بالكاد عن عشر الحصيلة. وليس يخفى أن هذا الوضع المعكوس لمصادر تمويل الضرائب يعتبر قيدا شديدا على تنمية الجهد الضريبى المصرى.

ــ وثانية هذه السمات هى التجاهل غير المبرر لزيادة معدلات الضرائب على بعض الأوعية الضريبية الرئيسية. فكيف لنا أن نفهم محدودية نصيب الضرائب على الممتلكات والثروات من جملة الإيرادات الضريبية فى مصر، إلا إذا كانت معدلات الضرائب على الأراضى الفضاء والثروات العقارية والمالية، ومعدلات الضرائب على تداول رأس المال، لم تصل بعد للمستوى التنموى الممكن؟ أو كيف لنا أن نفهم هزالة حصيلة الضرائب على تدفقات التجارة الدولية (بلغت نسبة إيرادات الضرائب على الصادرات والواردات 4% من جملة الإيرادات العامة المصرية فى العام 2015 وفق بيانات البنك الدولى)، إلا إذا كان هناك إمكانية لزيادة الضرائب على هذا الوعاء الضريبى، وخصوصا على وعاء الواردات الكمالية التى يستهلكها القادرون على تمويل الضرائب؟!

ــ وثالثة هذه السمات هى إمكانية التهرب والتأخر الضريبى. ولأنى ليس لدى حصر دقيق عن حالات التهرب الضريبى، ولا أمتلك بيانات تفصيلية عن حجم التأخر الضريبى، ولأن قانون الضرائب المصرى، بتعديلاته المتعددة، يجتهد لمحاصرة هذه الظواهر السلبية بالطرق القانونية ــ فيكفينى فى هذا المقام أن أشير إلى أن نظام المراجعة بالعينة للإقرارات الضريبية المقدمة من المجتمع الضريبى يعد بابا واسعا لإمكانية تفشى حالات التهرب الضريبى؛ وخصوصا إذا سلمنا بأن الجهد المبذول من الجهاز الضريبى فى ظل النظام التكنولوجى المتاح لديه يظل محدودا مقارنة بالحجم الكبير للمجتمع الضريبى المصرى. ولا يجوز كذلك أن نغفل هنا دور التضارب التشريعى فى خلق ثغرات ضريبية ينْفُذ من خلالها المتهربون ضريبيا. وما حال ثغرة الضرائب على أرباح عمليات «الاستحواذ المالى» منا ببعيدة!

ــ ورابعة هذه السمات هى الحزم فى تطبيق بعض أنواع الضرائب مقابل التراخى فى تطبيق البعض الآخر، والتراجع، تحت ضغوط جماعات المصالح، عن تطبيق أنواع رئيسية من «الضرائب التنموية». خذ هنا مثلا الضرائب المقررة قانونا على حيازة العقارات. فإذا كان الهدف الأول من إقرار هذا النوع من الضرائب يتمثل فى السير بخطوات صحيحة ناحية تحقيق العدالة الضريبية، بتحميل القادرين على الدفع من ملاك العقارات لأغراض غير سكنية نصيبهم من الإنفاق العام، فإنه مازال التراخى فى حصر وتحديد الأوعية العقارية يبدو جليا فى عقارات المدن والتجمعات السكنية الجديدة، ومازالت حصيلة هذه الضرائب لم تتجاوز فى مشروع موازنة 2018 / 2019 حاجز 1% من جملة الضرائب المتوقع تحصيلها. ولكى تكتمل هذه السمة وضوحا؛ انظر إلى الحزم فى تطبيق ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات؛ وانظر للجهد التنظيمى المبذول لتحفيز الممولين على التعامل بنظام «الفاتورة»؛ ثم قارن بين الحزم هنا والتراخى هناك، حيث الضرائب على العقارات!.

ــ أما خامسة هذه السمات وأكثرها أهمية فيما أتصور، فهى أن النظام الضريبى المصرى يمكن وصفه بأنه نظام ضريبى تنازلى لا تصاعدى. فبدلا من الارتفاع بمعدلات الضرائب تصاعديا فى أنواع الضرائب المختلفة، وبدلا من مراعاة الدخل النسبى للممولين عند تحديد الشرائح الضريبية ــ هناك قرائن عديدة تُثبت تحيز النظام الضريبى المصرى للاتجاه التنازلى فى تحديد المعدلات والشرائح الضريبية، وبما يزيده بعدا عن معايير العدالة. وبدون الاستغراق فى تفاصيل فنية لا يتسع لها المقام، فإن وجود تلك السمة يُعْزَى إلى عوامل بنيوية فى النظام الضريبى، وإلى غياب التكامل بين وحدات هذا النظام. فأما العوامل البنيوية، فترجع لإيمان معدى أغلب التشريعات الضريبية بضرورة محاباة أصحاب الدخول المرتفعة عند توزيع العبء الضريبى، كى لا تتأثر بواعثهم على الاستثمار والتراكم. وأما غياب التكامل الضريبى، فإن حساب أغلب الشرائح الضريبية يعتمد ــ فى صورته الحالية ــ على الدخل المطلق للممول من منظور نوع ضريبى محدد، ولا يعتمد على مجموع الدخل النسبى الضريبى، ودون احتساب ما قد يتحمله من أعباء ضريبية أخرى. ويعنى ذلك ببساطة أننا إذا نسبنا جملة ما تتحمله كل فئة ضريبية من عبء ضريبى إجمالى لجملة ما تحصل عليه من دخل، يمكننا أن نخلص إلى أن فئة الدخل المرتفع تتحمل بمعدلات ضريبية إجمالية تقل عن فئة أصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة، وأنه كلما زاد الدخل الإجمالى قلت الأعباء الضريبية الإجمالية. وفى ضوء هذا المنطق الرياضى، ألا يمكننا أن نرى الاتجاه النزولى فى هيكل الضرائب المصرية؟!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل