المحتوى الرئيسى

الموت شفطًا

06/19 11:09

هل يعقل أن يكتفي الكهربائي بتنبيه سكان البيت إلى عدم الجلوس تحسبًا لسقوط النجفة، لأنها قد تقع على رؤوسهم تفشفشها وتفتفتها؟ والسبب هو أنه متقاعس متهاون يعتنق مبدأ "كلشنكان" أو أنه جاهل بأصول مهنته ومتجاهل لجهله؟!

وهل من المنطقي أن يطلب مني ضابط المرور أن أضع في بالي دائمًا أن من يقودون حولي هم سائق ميكروباص بلطجي، وسائق ميني باص لا ضابط أو رابط له، وسائق توك توك مجهول الهوية مطموس الكينونة، وجموع من سائقي الملاكي يشطح من يشطح ويجن من يجن ويضرب عرض الحائط بقوانين المرور من يرغب، وذلك حفاظًا على حياتي وتأمينًا لمساري؟!

وهل هو أمر عادي أن يتم ترك بالوعة صرف صحي مفتوحة في عرض الطريق مع وضع طوبة كبيرة وورقة صغيرة مكتوبٍ عليها "احترس من السقوط" وذلك لأن إجازة العيد أزفت والعمال رحلت والراحة وجبت؟!

وهل مقبول أن تخرج أحشاء الغالبية المطلقة من أعمدة الإنارة في الشوارع الرئيسية قبل الفرعية والميادين الكبرى قبل الصغرى، وذلك نتيجة لعبث العابثين وسرقة السارقين للتيار الكهربائي، ومع ذلك لا يلفت المشهد الانتحاري أحد من السادة المسؤولين؟!

وهل من الطبيعي أن تقوم إدارة منتجع سياحي راقٍ جدًا وغالٍ جدًا جدًا بتركيب أنبوبة شفط مياه من البحر إلى بحيرة وتكون ذات قوة عالية وقدرة فائقة وتركها هكذا دون إجراءات حماية أو سلامة فتشفط من تشفط وتقتل من تقتل، ويكون الرد: "حذرنا من خطورة السباحة بجوار منطقة الشفط؟!

كل ما سبق هو على الأرجح غير معقول، ومنزوع المنطق، وأبعد ما يكون عن القبول بصفة عامة. لكن مصر في الألفية الثالثة حالة استثنائية. وشعبها الراكن على مقولة "التدين الفطري" والمتشعلق بعنصر البركة وكفى، والمتشبث بتلابيب "القضاء والقدر" دون أدنى التفات لقواعد وقوانين ومبادئ حاكمة، والمكتفي بعذاب الآخرة أو ثوابها بديلاً عن محاسبة الدنيا وثوابها وعقابها صار عبرة لمن لا يعتبر.

اعتبار كل حادث سير يقع فيه عشرات القتلى والمصابين بسبب رعونة سائق، أو سير عكس الاتجاه لآخر، أو جهل تام بقواعد القيادة وأصول تعدي السيارات، أو الاحتكام للعضلات بديلاً عن المخ هو "قضاء وقدر" هو الجهل بعينه. واقتصار دور وزارة الداخلية في هذه الصدد المتكرر على مدار الساعة على القيام بدور "الحانوتي" هو التقاعس كما ورد في القاموس.

وترك الناس نهبًا لفئة من العمال والحرفيين الجهلة من عديمي الضمير ومعدومي المصداقية ومدعي المعرفة دون رقابة أو محاسبة هو قتل أو شروع فيه.

والبلادة المنتشرة والآخذة في التجذر صارت منظومة. فقد باتت تستسيغ وتهضم وتستطعم كل مظاهر القبح والخطر بدءًا بأعمدة الكهرباء ذات الأحشاء الخارجة، مرورًا بتلال القمامة أمام المحلات وحول البيوت بل أيضًا المقابلة لدور العبادة، وانتهاء بفقدان حاسة الذوق العام والحس الإنساني والمسمى Common sense

لدرجة جعلت قلة الذوق منهجًا، والتعدي على حقوق الآخرين عقيدة، والبلطجة الفكرية غاية.

ولأن ادعاء التدين قادر على محو شبهة الإجرام وطمس التقصير وتجميل التقبيح، فقد أصبحنا نجتاز كل كارثة وأخرى بفعل نعمة الارتكان إلى القضاء والقدر.

قدرنا تقاعس الجهات المختصة عن تطبيق القوانين، وقدرنا تحلل منظومة التعليم لتصبح منزوعة التربية والتنشئة ولا تحوي إلا شكلاً متطرفًا متشددًا من أشكال التديين، وقدرنا التعامي عما لحق بنا من قبح وما ضرب ضمائرنا من غيبوبة، وما حط علينا من منهج "اللكلكة" في كل ما نفعل.

فمن أين نبدأ لإصلاح ما وصلنا إليه؟ ومتى نبدأ؟ وكيف؟ وهل لدينا كوادر كافية للبداية أصلاً؟ هل بيننا معلمون لم يضربهم هسهس التديين ومازالوا يتذكرون مهامهم التربوية المدنية البعيدة عن مناهج السلفية والوهابية" هل بيننا رجال ونساء الداخلية لم تصبهم غيبوبة تطبيق القوانين وما زالوا يعتنقون مبدأ "الشرطة في خدمة الشعب" فعليًا؟ هل هناك "صنايعية" مازالوا يفهمون في قواعد مهنتهم ولم يضربهم فيروس موت الضمير؟

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل