المحتوى الرئيسى

النمو السكاني يلتهم النمو الاقتصادي .... خرافة تدحضها الإحصائيات

06/18 20:35

طالعتنا الصحف في الأيام القليلة الماضية بأن الحكومة في مصر قد وقعت 10 عقود للحد من الزيادة السكانية؛ وقد تم تبرير ذلك بأن النمو السكاني يلتهم النمو الاقتصادي؛ وهو ما تروج له الأمم المتحدة منذ عقود في العالم النامي (فقط). وفي ضوء الآثار السلبية الكبيرة المحتملة لتناقص السكان، كان من الضروري التحقق بشكل قاطع حول أثر النمو السكاني على النمو الاقتصادي.

لذا، فقد تم تحليل العلاقة ما بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي إحصائياً، على ثلاثة مستويات للتأكد من عمومية صحتها: على مستوى العالم، ومجموعات الدول حسب درجة النمو، وعلى مستوى الدول منفردة. ولكي نأخذ الحجم السكاني في الاعتبار، فقد تم قياس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وليس القيمة الكلية لهذا الناتج. وفي سبيل دراسة هذه النقطة بشكل علمي محايد، اعتمد ذلك التحليل الإحصائي على البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة... فقط.

وحيث أنه طبقاً لهذه الدعاوى التي تقول بأن النمو السكاني يلتهم النمو الاقتصادي، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لابد وأن يتناقص مع زيادة السكان؛ الأمر الذي ثَبُتَ عدم صحته بشكل مُطلَق؛ على النحو التالي:

السكان والنمو الاقتصادي على مستوى العالم

وهنا فإن كل الذرائع التي تروجها العديد من الدول الغربية والمنظمات الدولية، بأن الزيادة السكانية معوق للتنمية الاقتصادية في الدول النامية، تتهاوى أمام حقائق الواقع الاقتصادي العالمي. أهم هذه الحقائق، أنه، ومن خلال مقارنة التغير في الحجم السكاني وفي متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في العالم خلال الألفي سنة الأخيرة، فقد اتضح بما لا يدع مجالا ً للشك أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في العالم يزداد بشكل مطرد ومتطابق مع زيادة السكان خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة، رغم ما شهدته من تغيرات طبيعية واجتماعية اقتصادية وتكنولوجية هائلة (شكل رقم 1).

ليس هذا فحسب، بل أنه كلما تزايد معدل النمو السكاني تزايد معه معدل النمو في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بشكل أكبر من معدل النمو السكاني! وهو ما يؤكد أن الزيادة السكانية لم تكن سبباً في إعاقة النمو الاقتصادي؛ بل ربما كانت دافعاً رئيسياً له. كما أن هذا التزايد الحاد الذي شهده العالم في النمو السكاني والنمو الاقتصادي لا يُظهر أي مؤشر للتراجع، وهو ما يعني أن القول بوجود نقص في الموارد يمكن أن يؤثر على مستقبل التنمية في العالم، أصبح أمرأ مشكوكاً فيه، ولو على المدى القريب.

شكل رقم 1: التغير في عدد سكان العالم والمتوسط العالمي لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال الألفي سنة الأخيرة

ومن خلال ما ظهر من علاقة طردية دائمة، على مدى ألفي عام، ما بين النمو السكاني والنمو في المتوسط العالمي لنصيب الفرد من الناتج الإجمالي؛ بل أنه كلما تسارع النمو السكاني، كما هي الحال في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين من 2000-2003، تزايد معه المتوسط العالمي لنصيب الفرد من الناتج الإجمالي بمعدل أسرع، ودون أدنى إشارة نحو التباطؤ بنهاية القرن العشرين؛ يمكننا أن نقول بثقة: "إن النمو السكاني لا يمكن أن يكون إلا محفزاً للنمو الاقتصادي، وليس مقيداً له، كما يدعي البعض، وكما يُرَوَج له من قِبَل المنظمات الغربية والدولية".

السكان والنمو الاقتصادي على مستوى الدول النامية

قد يقول قائل إن ذلك النمو المرتفع في المتوسط العالمي لنصيب الفرد من الناتج الإجمالي الذي شهده العالم خلال المائتي عام الأخيرة كان بسبب النمو الاقتصادي المرتفع في دول الغرب الصناعي وليس في الدول النامية؛ وهنا ثانية تُبَين الإحصائيات الدولية خطأ تلك الحجة. فعلى الرغم من التزايد السكاني الكبير في دول العالم النامي، فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج الإجمالي في هذه الدول، وإن كان بالطبع أقل حجماً وسرعة من نظيره في العالم المتقدم؛ وعلى الرغم مما تعانيه تلك الدول من نزاعات سياسية وحروب واستغلال اقتصادي دولي وفساد داخلي. فقد تحسن نصيب الفرد من الناتج المحلي خلال الفترة 1900-2008، ليس في أوروبا وأفرعها فقط، وإنما تحسن أيضاً في إفريقيا بنسبة حوالي 300%، وفي آسيا بنسبة 880%، وفي أمريكا اللاتينية بنسبة 630%، خلال هذه الفترة. وهو ما يؤكد أن النمو السكاني ليس عائقاً، بل محفزاً للنمو الاقتصادي في الدول النامية.

أما خلال الخمسين عاماً الأخيرة، وعلى الرغم من استمرار تزايد السكان في الدول النامية، منخفضة ومتوسطة الدخل، فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول بشكل كبير جداً. فبينما تزايد السكان في هذه الدول بنسبة 172% خلال الفترة 1960-2015، وهي زيادة هائلة من السكان؛ إلا أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول قد ارتفع بنسبة أعلى بكثير، وصلت إلى 3928% خلال نفسي الفترة (شكل رقم 2). كما أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول قد ارتفع بصورة حادة خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة (2000-2015)، وذلك على الرغم من استمرار تزايد السكان بنفس الوتيرة خلال الأربعين سنة السابقة (1960-2000). وهو ما يؤكد أن النمو السكاني محفزاً للنمو الاقتصادي وليس العكس.

وحتى في الدول منخفضة الدخل، وذات معدلات النمو السكاني الأعلى بين دول العالم، فقد تزايد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي تزايداً كبيراً فيها. فبينما تزايد السكان في الدول منخفضة الدخل بحوالي 72% ما بين عامي 1995 و2015، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 171% خلال نفس الفترة (شكل رقم 3).

وبعد استعراض المقارنة بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي على المستوى العالمي، وعلى المستوى الإقليمي الدولي (الدول منخفضة ومتوسطة الدخل)، نحاول اختبار تلك العلاقة على مستوى الدول.

السكان والنمو الاقتصادي على مستوى الدول منفردة

يوضح الشكل رقم 4 أن الدول الإفريقية الأكبر سكاناً والأسرع نمواً سكانياً، كمصر ونيجيريا وأثيوبيا، وكذلك دول إفريقيا جنوب الصحراء ككل، قد شهدت ارتفاعاُ كبيرا في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال الخمسين عاماً الأخيرة. ويكفي هنا أن نشير إلى أن نيجيريا، وهي أكبر كتلة سكانية في إفريقيا، والتي قد تجاوز حجمها السكاني 177 مليوناً في 2014، قد حققت نمواً في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 3350% خلال الفترة 1960-2014، ذلك بينما ارتفع نموها السكاني بنسبة 390 % فقط خلال نفس الفترة. كما قد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، خلال نفس الفترة في إفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 1278%؛ وفي مصر بنسبة 1350% (1970-2014(، وفي إثيوبيا بنسبة 123% (1990-2014).

كل هذه التحليلات الإحصائية تثبت بشكل قاطع أن النمو السكاني معزز للنمو الاقتصادي وليس معوقاً له، كما يدعي البعض، وكما يُرَوَج له من قِبَل المنظمات الغربية والدولية"

وهنا يبرز سؤال مهم: إذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا لم يشعر المواطن في هذه الدول بتحسن في ظروفه الاقتصادية والمعيشية؟، وهنا لابد أن نشير إلى الفرق الكبير ما بين النمو والتنمية (Development - Growth). فما أشرنا إليه هنا هو نمو في الناتج الاقتصادي، بينما التنمية هي أن تستغل عوائد النمو الاقتصادي في رفع مستوى المعيشة في المجتمع ككل؛ وهو ما لم يتحقق في كل هذه الدول، إما بسبب الفساد أو سوء الإدارة أو الحروب والنزعات السياسية، وهو ما ليس له علاقة له بزيادة السكان.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل