المحتوى الرئيسى

حكايات جزائرية قديمة.. بقرة اليتامى

06/10 00:07

من بين القصص "الحصرية" والشائقة التي تقدمها "العين الإخبارية" هذه المرة، قصة "بقرة اليتامى" ضمن سلسلة "حكايا وأساطير التراث الشعبي الجزائري"، التي تعد من أكثر القصص المشهورة المستمدة من التراث الشعبي لمختلف المناطق الجزائرية. 

كانا وحيدين في هذا العالم بعد أن توفيت أمهما وعاود والدهما الزواج ثانية.. فاطمة وحسين يفتقدان والدتهما كثيراً، هما يدركان أنها في عالم آخر، لكنها تشعر بهما، ولا تزال تحبهما كما كانت دائما، والدهما أيضا يحبهما في الماضي، لكنه الآن يؤثر عليهما أختهما الصغرى عائشة، رغم أنها ليست يتيمة مثلهما.

في البيت بقرة مُسنة هادئة شهدت ولادة الصغار ورأتهم يكبرون، كانت فرداً من العائلة، ولم يكن ينقصها غير النطق، فقد كانت تفهم كل ما يدور حولها، حضرت آخر لحظات الأم في هذه الحياة، رأت في نظراتها الأخيرة الحزن العميق لأم تُنتزع من فلذات أكبادها، رأت كل الأسى وتمزق القلب الذي يأبى أن يتوقف عن الحب، كل المعاناة الإنسانية التي قبل أن تختفي ترفض أن تُخلِّف وراءها معاناة أخرى، رأت البقرة كل هذه الآلام في وجه الأم المحتضرة، لكنها لا تستطيع أن تخبر الصغار أو أي أحد آخر، كان هذا سرها.

كان الصغيران يُخرجان البقرة كل صباح ويسيران بها إلى الحقل، في الحقيقة كانا يتبعانها، فقد كانت تعرف كل الدروب والمسالك، كانت تُشعر الطفلين أنها بطريقة ما عوض لهما عن أمهما الراحلة، وكانا في المقابل يشعران بذلك، فقلب الطفل دليله إلى من يحبه.

عندما ينتصف النهار يكون فاطمة وحسين قد بلغا نبع الماء، فيجلسان عنده ليقتسما قرصاً من خبز الشعير صُنع من النُّخالة والقليل من الطحين، هناك تقترب البقرة منهما وبنظرة ذكية منها يفهم الولدان ما تريد، فيشطر حسين القرص وتضعه عائشة على طرف ثوبها وهي تدعو البقرة إلى الغداء.

منذ أن قاسم الولدان البقرة طعامهما، أصبح ضرعها لهما فكانا يرضعان حتى الشبع ولم يكن يهمهما بعدها أن يجدا الكسكس الرديء، الذي تحضره زوجة الأب على العشاء، وعندما تطلب عائشة الحليب وتقصد أمها البقرة لتحلبها يجف الضرع ولا ينزل منه سوى قطرات لا تملأ كأساً.

لم تكن زوجة الأب راضية بهذا الحال، فهي تكره البقرة التي تذكرها بمنافستها! ولا تلبث أن تكرر على مسمع زوجها قولها:

"بقرتك لا تساوي شيئاً، لقد أكل عليها الدهر وشرب، يجب بيعها".

يرد الزوج: "مستحيل يا امرأة، لقد قطعت وعداً للمرحومة بأن أحتفظ بها للصغار، إنه قسم مقدس أقسمته".

كان هذا جواب الزوج في كل مرة، ولم تكن امرأته تُلح في الطلب، بل كانت تكتم غيظها وتصمت، غير أن غيظها أخذ يشتعل أكثر فأكثر وهي ترى الصبيين يزدادان صحة وإشراقاً رغم منع الطعام عنهما، بينما ابنتها عائشة تزداد نحولاً وشحوباً كل يوم، فقررت أن تكتشف السر، قالت: 

"عائشة يا ابنتي، رافقي أخاك وأختك ولا تفارقيهما واحرصي على أن تفعلي ما يفعلان".

عندما وصل الصبية إلى النبع، أخرج حسين وفاطمة قرص الشعير كعادتهما، وأخرجت عائشة قرص خبز مصنوعا من القمح أخذت تلتهمه وحدها، ثم حاولت تقليد أختها وقدمت قطعة للبقرة، إلا أنها أشاحت برأسها عنها فاعتبرت عائشة ذلك غباءً منها.

ولما أخذ حسين وفاطمة يرضعان وشاهدت عائشة ذلك صرخت فيهما:

"حسناً"، أجاب الأخوان: "تقدمي سنترك لك المكان".

تقدمت الصغيرة دون خوف وما إن اقتربت كثيراً من الضرع حتى وجهت البقرة إلى وجهها ضربة بحافرها أصابتها بعينها، صرخت عائشة بشدة وسقطت مغمى عليها، أسرع إليها أخواها وأخذا يرشانها بالماء فاستفاقت وأخذت تبكي وتبكي من الألم، فحملاها في عجلة إلى البيت والبقرة تتبعهما بخطى متروية في غير تأثر!

عندما وصلوا إلى البيت تفحص الوالدان ابنتهما، فوجداها قد فقدت عينها، كان وجهها منتفخاً بالكامل وجفناها سوداوان، أسعف الأبوان ابنتهما وقاما بمداواة الكدمة لمدة أيام.

لم يكن اليتيمان ليُلاما على ما حصل، لكن مصير البقرة أضحى مجهولاً، ماذا سيحل بها وقد صارت عائشة بعين واحدة أكثر قبحاً من ذي قبل.

"إنه يوم تسوق فأسرع يا رجل"، قالت الزوجة الغاضبة وهي تشير إلى البقرة، نهض الزوج مطرقاً رأسه ومذعناً لها في الحال، وسارت البقرة أمامه إلى السوق، عندما بلغ نهاية القرية ومدخل السوق مرَّر يده عليها وهو يداعبها فشعر بغتة بقشعريرة مرت تحت يديه، وطرق أذنيه صوت حزين، ولكنه واضح: "عُد إلى بيتك، فبقرة اليتامى ليس لها شارٍ"!

سحب الرجل يده في فزع، نظر يميناً فشمالاً، أدخل أصابعه في أذنيه، ومكث بعض الوقت لا يدري ما يفعل، ثم قرر أخيراً أن يتابع طريقه.

وصل إلى مكان بيع الماشية، وهناك لم ينتظر طويلاً حتى أتاه شارٍ، غير أن القادم ما إن فتح فمه ليسأل ويفاوض عن السعر حتى عاد الهاتف من جديد يصيح بصوت أوضح من ذي قبل: "ابتعدوا يا ذوي الإحسان فلا يمكن أن يكون لبقرة اليتامى شارٍ".

ابتعد الرجل مذهولاً و هو يردد أدعية، وكذلك كان الأمر مع كل من قصد البقرة، الثاني والثالث فالرابع والخامس، كان الصوت الغريب يعلو في كل مرة، ومع آخر زبون صاح الهاتف في نبرة قاطعة تدل على نفاد الصبر: "ابتعدوا أيها المحسنون، فبقرة اليتامى لن يكون لها شارٍ أبدا" .

ابتعد الناس عن البقرة في خوف، وعمَّ الخبر السوق بأكمله، فراح الجميع يتهامسون ويتحدثون عن إحضار أحد الأولياء أو حتى رجم الرجل، وما إن سمعهم والد اليتامى يقولون ذلك حتى فر والعار و الندم يعتريانه.

ما إن رأت زوجته البقرة تعود معه حتى علا صوتها بالشجار والصراخ، وتوعدت البقرة بالعقاب الشديد:

"سيكون حسابك معي من اليوم فصاعداً، أنا أم عائشة التي صيّرتها عوراء والتي لن يرغب بها أحد بعد الذي فعلته بها".

غير أن البقرة لامبالية، عادت إلى مكانها وجثت لتجتر.

بعد أيام قليلة حضر إلى البيت رجل ضخم أسود اللون، قبيح الخلقة، يحمل معه ساطوراً وفأساً، وكان هذا الرجل جزار القرية المجاورة، أرسلت أم عائشة في طلبه دون علم زوجها.

بعد أن قدمت له الطعام، فكَّت رباط البقرة وأخرجتها إلى الفناء وهي تجرها وتوسعها ضرباً بالعصا، فرَّ الزوج لرؤية ذلك، أما حسين وفاطمة فقد شحب لونهما وتجمدا بمكانهما، بينما راحت عائشة تحضر الحبل لأمها في سعادة، كانت البقرة تنتظر في حيرة ما سيقدم عليه الرجل الضخم الواقف أمامها، ودون حراك تركته يربط قوائمها ثم اندفع بكل قوة، أسقطها أرضاً وشد على عنقها ثم طلب خنجره، عندها أدركت البقرة أنها ستذبح فأطلقت خواراً مرعباً خالطه يأس مُرٌّ دوّى بأرجاء البيت سرعان ما قطعه الجزار بحركة خاطفة منه.

هرب حسين وفاطمة فزعاً من هول ما شاهدا وركضا حتى بلغا المقبرة حيث ترقد أمهما، وجلسا عند قبرها مجهشين ببكاء حار، لم يفكر الطفلان في العودة إلى البيت بعد الذي حصل، فتابعا المسير عبر القبائل والقرى وكانا يبيتان الليالي في المساجد.

ظلا كذلك سبعة أيام، وفي الصباح التالي بينما هما سائران على غير هدى إذ وجدا أنهما قد أصبحا قريبين من قريتهما بعد أن عبرا مسلكاً قليلاً ما يتردد عليه المارة، كان يجران الخطى في ثياب رثة وهما متعبان وقد نحل جسداهما، وعند منعطف الطريق شاهدا أباهما وبالكاد تعرفا إليه، اقترب الأب منهما وهو يهمهم بكلمات غير مفهومة، كانت ثيابه بالية وشعره أشعت وعيناه ذاهلتان، أخذ يضرب الأرض بقدميه وهو يدور حول نفسه ويحرك ذراعيه ويصيح ساخرا:

"انظروا إلى أبناء المجنون، ها هم، هاها! الخنجر الكبير الأحمر.. هاها، الجزار الأسود"، ثم اندفع نحوهما فركضا خوفاً قبالة سياج الحقل وأغمضا عينيهما، وبعد هنيهة نظرا حولهما،فوجدا الأب قد ابتعد واختفى بين أشجار التين عند منحدر التل، كانت تلك آخر مرة يريانه بها.

لم يجد الصبيان الشجاعة الكافية للعودة إلى البيت، وفضلا أن يعرجا على الحقل، حيث كانا يصطحبان البقرة كل صباح، ليشربا من ماء النبع ويستريحا من عناء الطريق.

لم يبق من أثر البقرة إلا الفضلات ومخلفات الذبح الذي تركته زوجة الأب هناك نكاية بهما، وقد أيقظت رؤيتهما عند الطفلين مشاعر الحزن، فانحنت فاطمة إلى ما تبقى من صديقتها البقرة تريد تقبيلها، لكنها رفعت رأسها فجأة في تعجب ونادت أخاها، اقترب الأخوان وبلطف أخذا يبعدان البقايا، فانكشف لها ضرعان نبتا من الأرض كما ينبت الفطر في البراري، جثا حسين على ركبتيه بالقرب من أخته وأخذا يرضعان بنهم ودون تردد، ومنذ ذلك اليوم قررا العودة ثانية إلى بيت أبويهما الذي لم يجرؤ أحد على طردهما منه.

كانا يخرجان كل صباح إلى الحقل كما اعتادا ويعودان ليلاً ليناما، ويوماً بعد آخر كانا يستردان قوتهما وزوجة أبيهما تلحظ ذلك، فراقبتهما، واكتشفت سرهما رغم حرصهما على إخفاء الضرعين بعناية كل ليلة، وأعادت الكرة بإرسال ابنتها معهما، لكن عائشة كانت كلما حاولت أن ترضع كأخويها ملئ فمها دم وقيح بدل الحليب، فتبصقه وتتقيأ من شدة التقزز، ثم تعود مريضة إلى أمها التي تحلف بأن الكلمة الأخيرة ستعود إليها.

حاولت أم عائشة التخلص من الضرع بالقطع عدة مرات، لكنها كانت تفشل في كل مرة، فكانت إذا قطعتهما بالنهار ينموان قبل حلول اليل، وإذا قطعتهما ليلاً ظهرا في الصباح من جديد.

وفي الأخير اهتدت إلى أن الحل هو حرق الضرعين، فنزلت إلى الحقل وفي يدها دلو أحمر:

"أريد حليبك وإلا أحرقتك"، قالت زوجة الأب.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل