المحتوى الرئيسى

موفدنا من الدوحة: عام قطري، حلو ومرّ

06/06 21:57

هذه روابط خارجية وستفتح في نافذة جديدة

في الطريق من بيروت إلى الدوحة تبدأ القصة، خيار ما بين درب قصير عبر خط طيران لبناني أو درب طويل يأخذك فيه الطيران القطري.

اخترنا الأطول لاختبار المسار الذي يأخذنا من لبنان عبر تركيا وإيران حتى الوصول إلى الإمارة الخليجية التي تتعامل معها ثلاث من جاراتها الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي على أنها متمردة.

آخر زيارة لي إلى الدوحة كانت في منتصف عام 2011، هذه المرة لم استطع التعرف على المكان، العاصمة القطرية أشبه ما تكون بورشة بناء كبيرة، أحياء وأبنية وشوارع جديدة، مشروع قطار أنفاق ومراكز تجارية ضخمة.

كل هذا جزء من البنية التحتية لاستضافة كأس العالم في كرة القدم عام 2022، وكل هذا وسط أزمة سياسية قطعت أوصال الدولة عن اليابسة المحيطة بها من خلال إغلاق المملكة العربية السعودية، أكبر جيران قطر، للمعبر الحدودي الوحيد في منطقة سلوى جنوب غربي البلاد.

الأزمة التي وصلت ذروتها بقطع العلاقات الدبلوماسية في الخامس من يونيو/ حزيران 2017، وتبني إجراءات وصفتها السعودية والإمارات والبحرين ومعهم مصر بالمقاطعة، فيما تبنت قطر مصطلح الحصار للتعبير عنها، شكلت تحديا ضخما للدولة الغنية بالغاز والتي كانت حتى تلك اللحظة تستورد معظم احتياجاتها الغذائية عبر الشريان الحدودي.

فجأة بات على قطر التي توسع تأثيرها السياسي والأمني خلال "الربيع العربي" إلى المغرب العربي أن تفكر في مائدة طعامها، لحومها ولبنها وحليبها وثومها وعدسها وخضارها، فضلا عن احتياجات أخرى أساسية لا تبدأ بالأدوية ولا تنتهي بأمنها.

ولأن الجغرافيا التي وضعت قطر على حدود السعودية أوجدتها أيضا على مرمى الخليج من إيران، تحولت الأخيرة فجأة إلى رئة قطرية أمنت لها مباشرة كل ما سبق من احتياجات مباشرة أو كنقطة عبور لبضائع أرسلتها تركيا على وجه السرعة.

هكذا وفِي أقل من أسبوع استبدلت قوارير الحليب واللبن واحتياجات الخضار والفواكه المستوردة من السعودية وحلفائها في الأسواق القطرية ببديلاتها التركية والإيرانية‪.‬‬

يقول السفير التركي في الدوحة فكرت أوزر لبي بي سي إن بلاده عندما بدأت الأزمة بادرت فورا إلى فتح جسر جوي مع قطر لملء الفراغ الذي تسبب فيه إغلاق الحدود، مشيرا إلى أن التبادل التجاري بين البلدين ارتفع خلال عام بنسبة 64 في المئة، فقد "كانت قيمته 850 مليون دولار في العام السابق وهذا العام وصل حجم التجارة بين البلدين إلى مليار و300 مليون دولار أميركي سنويا".

الخطوة التركية مترافقة مع خطوات إيرانية شبيهة عززت قلق السعودية والدول المساندة لها في المقاطعة والتي حذرت بشكل دائم من أن الدوحة تخالف الإجماع الخليجي، أولا من خلال التطبيع مع إيران، وثانيا من خلال إعطاء تركيا حق إقامة قاعدة عسكرية على أراضيها.

النقطتان الآنفتان على لائحة المطالب الثلاثة عشر التي قدمتها الدول الأربع إلى الدوحة والتي كان منها: تخفيض مستوى العلاقات مع طهران، وإغلاق القاعدة التركية، وإغلاق قناة الجزيرة وبقية وسائل الإعلام التي تدعمها قطر بشكل مباشر أو غير مباشر، وقطع العلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين وحزب الله وتنظيم الدولة الإسلامية.

يُنقل عن نابليون بونابرت أنه قال يوما إن سياسات الدول سليلة جغرافيتها، وفي حالة قطر يجوز القول إنها أسيرة هذه الجغرافيا بين طرفين متناقضين في صراع مرير على القوة في المنطقة، إيران والسعودية.

قبل الأزمة كانت الدوحة تدور في فلك الرياض في مواجهة طهران، على الأقل في الظاهر. لذا فهي التزمت بقرارات المقاطعة الخليجية وسحب السفراء وقطع العلاقات الدبلوماسية عندما جرى تبنيها بعد هجوم متظاهرين إيرانيين على السفارة السعودية في طهران أوائل عام 2016 احتجاجا على إعدام السعودية رجل الدين الشيعي السعودي المعارض نمر باقر النمر.

في هذا الإطار، يقول الأكاديمي القطري، علي الهيل، لبي بي سي إن دولة قطر كانت متماشية مع السعودية في العلاقة مع إيران "رغم وجود مصالح اقتصادية مشتركة مع طهران، لكن بعد الحصار لجأت قطر إلى إيران وتركيا وغيرها من الدول التي لا تروق للسعودية وحلفائها".

لكن قطر، وإن احتفظت بشعرة معاوية مع إيران خلال السنوات الماضية، كانت في مواجهة بالوكالة مع إيران في سوريا، وهذا الأمر انعكس في الإعلام كما في السياسة بشكل كبير، وهو مجددا ما يأخذنا إلى الجغرافيا وكيف تميل الكفة في الدوحة يمينا أو يسارا بحسب العلاقة مع أحد الجارين اللدوين.

للمزيد سألنا الدكتور مروان قبلان، الأكاديمي السوري المعارض والذي يعمل في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، عن التأثيرات الإقليمية للأزمة على الدوحة وعلى جيرانها، فقال "تقليديا، منذ عقدين من الزمن، والضغوط على قطر تأتي من السعودية لأسباب متعلقة بخلاف على الأجندات أو السياسات أو الأولويات أو خلاف بعلاقات البلدين الخارجية، وليس مستبعدا أن تلعب الجغرافيا دورا في هذه الأزمة".

ويوضح قبلان أن وقع الإجراءات التي اتخذت كان واضحا لأن دول الجوار الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين، قامت بفرض حصار بري بحري جوي على قطر، و"بالتالي عندما يفرض الجيران في الجغرافيا هذا الحصار تكون التداعيات كبيرة، فمعبر قطر البري الوحيد مع السعودية وحدودها البحرية مع السعودية والإمارات والبحرين".

ويستدرك بالقول "لكن الجغرافيا لعبت في المقابل دورا إيجابيا عندما فتحت إيران أجواءها الجوية ومياءها الإقليمية لقطر لكسر هذا الحصار لأن الإيرانيين، وأيضا هنا بتأثير الجغرافيا، وجدوا أن أي نوع من أنواع الهيمنة السعودية على قطر سوف يؤدي إلى تمركز جزء كبير من القوة والثروة بيد المعسكر الخصم، لذلك كانت مساعدة إيران لقطر خدمة لمصلحة إيرانية قبل أن تكون خدمة لمصلحة قطرية".

المركز الذي يعمل فيه قبلان يديره الكاتب الفلسطيني عزمي بشارة والذي أسس مؤسسات أخرى تربوية وأكاديمية وإعلامية في قطر. وبشارة الذي يعد أحد مستشاري أمير قطر، ويحكى أنه أشرف على تثقيفه سياسيا في السنوات التي سبقت توليه السلطة، هو من الشخصيات التي يُنظر إلى دورها بريبة في السعودية والإمارات بشكل رئيسي، ومؤسساته من ضمن التي ألمحت إليها القائمة التي قُدمت لقطر دون أن تسمى بشكل مباشر.

يغمز البعض إلى أن بشارة هو محفز الطموحات القطرية العابرة للحدود، ولذا فإن استمرار فتح الدوحة أبوابها له ولمشاريعه مؤشر على أن الأزمة لن تنتهي عما قريب.

قطريا هناك نظرة أخرى لدور بشارة في البلاد. ويقول إعلامي مقرّب من العائلة الحاكمة طلب عدم ذكر اسمه إن بشارة يحظى بأذن الأسرة الحاكمة وأن أفكاره القومية وعلمانيته تؤمن التوازن مع الاتجاه الإسلامي الذي يمثله عدد من الكتاب الآخرين ضمن فريق المستشارين المحيطين بالديوان الأميري. وهو عينه الأمر الذي دفع الدولة لتمويل المشروع الذي يضم صحيفة "العربي الجديد" وموقعها وتلفزيون "العربي" الذي يتخذ من لندن مقرا له، إذ أنه لا يشكل منافسا لقناة الجزيرة القطرية، بل عامل توازن معها أو مكمل للدور الذي تقوم به.

قبل أعوام شبّه الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك خلال زيارته لقطر قناة الجزيرة بعلبة الكبريت، وكان حينها يشير إلى شكل المبنى الذي كانت تشغله والذي كان عبارة عن هنغار جاهز مستطيل، لكنه في ذات الوقت كان يلمح إلى نظرته للدور المنوط بها.

في الأزمة الخليجية كانت الجزيرة حاضرة على لائحة المطالب بشكل لم يسبق أن حضرت فيه مؤسسة إعلامية في الأزمات العربية السابقة. بدا وكأن نصف الأزمة حول إيران ونصفها الآخر حول القناة الإخبارية القطرية التي أطلقت في عام 1996، بعد عام فقط من انقلاب الأمير حمد بن خليفة على والده وتنصيب نفسه حاكما لشبه الجزيرة.

وشكلت الجزيرة رافعة رئيسية للحاكم الجديد، وحفرت لقطر مكانا غير مسبوق على الخارطة العربية، حيث أثارت القناة الجدل منذ اللحظة الأولى لتأسيسها وبقيت كذلك بينما كانت تتوسع إلى شبكة قنوات عربية وإنجليزية ولغات أخرى.

رغم أن واحدة هي أم الأخرى، بدت قطر والجزيرة كتوأم ملتصق وإن سعت القناة في مناسبات عديدة لإظهار تميز تكتيكي عن سياسة البلاد، لكن الأمر لم يكن ممكنا في المفاصل الرئيسية، تماما كما الحال في "الربيع العربي"، والحرب على اليمن، قبل الأزمة الخليجية وبعدها.

خلال وجودي في الدوحة زرت قناة الجزيرة للحديث إلى المسؤولين فيها عن الاتهامات الخليجية للقناة. لم يبد على المكان أنه يستعد بأي شكل من الأشكال للإقفال عما قريب، فأعمال البناء والصيانة كانت جارية على قدم وساق، لكن خلال وجودي هناك كانت الأخبار عن موجة إقالات تصل إلى أسماع الموظفين.

الكلام داخل الجزيرة عن عملية إعادة هيكلة واتجاه نحو تعزيز القطاع الرقمي الذي أصبح الآن أكبر من قناة، وهذه العملية تتطلب رصد موازنات لن توفر إلا من خلال الاستغناء عن عشرات الموظفين.

سألت جمال الشيال، الصحفي في القناة الإنجليزية، والذي اختارته إدارة الشبكة للجواب على تساؤلات بي بي سي عربي حول الاتهامات الموجهة لها من قبل الدول الخليجية ومصر بأنها تتدخل في شؤون الدول وتحرض على العنف، فقال "القناة ليست المشكلة إنما الدول التي تسببت بالأزمة، لأنها لا تريد تعدد الآراء والأفكار لأنهم يخافون من التعددية، المهم في هذه الأزمة من ذكراها الأولى، الجزيرة نجحت في البقاء على مسارها كمؤسسة إعلامية رغم محاولات محاصرتها وإغلاقها".

لكن تغطية الجزيرة تغيّرت للحرب في اليمن بمجرد تغيّر الموقف القطري من السعودية، ألا يشير هذا إلى تسييس واضح؟

أجاب الشيال بأن هذا التغيير لم يكن بسبب عدم رغبة الجزيرة في التغطية من الأساس إنما لأنها كانت مكبلة، قائلا إن "شخصيات كبيرة في أبو ظبي والرياض لم تكتف بطلب غلق الجزيرة بل بقصفها وقتل موظفيها. هذه التهديدات قد تحد من مساحة الحرية. لكن السؤال لا يجب أن يوجه إلينا بل إلى الدول التي تحاصرنا."

يد في الماء ويد في النار

المشهد في الدوحة لا يشي كثيرا بأن للحصار انعكاسا حقيقيا على حياة المواطنين. ففي الأسواق الغذائية والمحلات الكبرى كل شيء متوفر. الاختلاف الوحيد بين ما قبل الأزمة واليوم هو أن مصادر البضاعة اختلفت. وبدل أن تكون المواد الغذائية ومشتقات الحليب ذات مصدر سعودي كما في السابق، أضحت اليوم إما قطرية الإنتاج أو من تركيا أو إيران أو أذربيجان أو تونس أو لبنان أو غيرها من الدول التي ملأت الفراغ.

يشرح الدكتور خالد الخاطر المتخصص في الاقتصاد السياسي أن الحكومة القطرية عمدت منذ بداية الأزمة إلى تنويع مصادر ووسائط الاستيراد وفتح ميناء حمد والوصول إلى المصادر الأصلية بدل أن تصل البضائع عبر موانئ أو جهات وسيطة.

ويقول "هذه العوامل مجتمعة بالإضافة إلى نقاط الضعف في الاقتصادي الخليجي أدت إلى فشل الحصار. كانت هناك حرب اقتصادية تستهدف زعزعة استقرار العملة وضرب الاقتصاد وتهجير رؤوس الأموال وتبعات ذلك المدمرة على الاقتصاد القطري بما في ذلك انهيار وزعزعة استقرار النظام تمهيدا لسقوطه، لكن هذا لم ينجح فالاقتصاد قوي بموارده القوية، والسياسات الحكومية الاقتصادية ساهمت في ذلك من خلال الاستثمار في بنى إنتاجية وتحتية وبنى استثمارية قوية وصلبة أتت أكلها الآن وتشكل موارد في دعم استقرار واستمرارية الاقتصاد القطري في مواجهة الأزمة".

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل