المحتوى الرئيسى

فقه المباح.. جناية السلفيين على الإسلام

06/05 11:35

- عبدالجواد ياسين: الإسلام الحالى إسلام تاريخى من صنع السلفيين

- ابن حزم: ما أمرنا الدين به فهو واجب وما نهينا عنه حرام وما سوى ذلك مباح

- ابن رشد ترك رؤية فريدة للإسلام تعتنق العقل ولا تفترض الخصومة معه

تُجمع كل الأدلة العقلية والنقلية والأخبار والروايات أن «فقه المباح» هو الذى ساد الإسلام طيلة القرنين الأولين منذ وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وحتى بدأ تدوين الحديث فى العام ١٨٠ هـ، ففى ذلك الوقت لم يكن الإسلام يسمح بتدخل الرواة فى صلب حياة المسلمين، وكانت الفتوحات تتوسع ويحتاج الفكر إلى المرونة وتوسيع الإباحة ليتسنى له الاندماج مع مجتمعات وجغرافيات جديدة، فضلًا عن أن ذلك العصر من عمر الإسلام كان لا يجرؤ أحد فيه أن يتقول على النبى أو يروى عنه موقفا أو يحكى عنه قولا يدعى أنه سمعه، فكل الذين كانوا يعيشون هذه الحقبة، صحابة أو تابعين، عاشوا مع النبى ولازموه وحفظوا كل حركة وقول منه وسمعوا منه وصيته التاريخية «لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه»، وفى خطبة الوداع أعلم الصحابة وجموع الحجيج أن ما حرم حرم وما أحل أحل «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا».

لكن ومثل كثير من موروث عصر النبى وصحابته اختفى فقه المباح وحل مكانه فقه التحريم والتضييق، ومع هيستريا التدوين التى ملأت القرنين الثالث والرابع الهجريين أصبح للمسلمين فقه آخر غير الذى ورثوه عن النبى وعصره.

ابن تيمية اعترف بأن الأصل فى جميع الأشياء أن تكون حلالًا مطلقًا للآدميين

يختلف فقه المباح عن كل المذاهب والمشارب الفقهية الأخرى، وهو الأصل وجوهر التفكير الذى ينطلق منه أى مصنف فقهى، لأنه يعتمد قاعدة الإسلام الأساسية التى ترى أن الأصل فى الأشياء الحلال والإباحة، ولا يمكن لأى فقيه مهما بلغ من العلم أو المرتبة التاريخية، قديما وحديثا، أن ينكر انطلاق كل الفكر الإسلامى من هذه القاعدة. ابن تيمية نفسه رائد العقل السلفى ومؤسسه اعترف فى كتابه «مجموع الفتاوى» بما نصه: «أعلم أن الأصل فى جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها أن تكون حلالا مطلقا للآدميين، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها، وممارستها، وهذه كلمة جامعة، ومقالة عامة، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة، واسعة البركة، يفزع إليها حملة الشريعة، فيما لا يُحصى من الأعمال، وحوادث الناس». وهناك إجماع بين القاصى والدانى من فقهاء القدم والحداثة على أن كل ما على الأرض من منافع وما استخلصه الإنسان منها مباح ما لم يرد بتحريمه نص قرآنى، لكن بفعل الزمن وتدخل السلطة واقتصار تدوين الفقه والحديث على علماء يعتمدون المنهج السلفى فى التفكير، اُستبعد فقه المباح من الذاكرة الإسلامية، وجرت مطاردته بكل ما أوتيت سلطة الخلافة من مال ونفوذ- حيث المباح لا يسمح بتنظيرات الحكم التى أسس لها الفقه السلفى بعد ذلك ومكنها من العقل الإسلامى- وبالتدريج طغى خطاب يتبنى التحريم والنهى عوضا عن الإباحة والترغيب. اختفى «فقه المباح» وحرقت كتبه وكُفر رموزه وعلماؤه حتى يومنا هذا، فلا يمكن لأى مسلم الآن الوصول إلى أى معلومة على الإنترنت لما يُعرف بفقه المباح وأساتذته وقواعده وأحكامه تماما مثلما أحرقت فى الماضى كتب ابن حزم الأندلسى، المؤسس الحقيقى لفقه المباح وصاحب الحجة الأقوى فى الدفاع عنه أمام جميع الفقهاء مهما ذاع سيطهم أو زاد قربهم من الممالك والسلاطين.

ولأن فقه المباح هو أصل الشريعة الإسلامية الذى لا يمكن إنكاره أو التغاضى عنه فلا يمر على العقل الإسلامى عشر سنوات دون أن يستعيد حنينه إلى عصره الذهبى، وأى مسلم غيور على دينه يعيش الآن يعى جيدا أن مئات الآلاف من كتب الفقه السلفى كبلت الإسلام وضيقت كل مساحات القرب والألفة مع روحه وجوهره المتسامح، حتى تجمّد تحرك الدين وقلت فرص اندماجه مع المتغيرات الاجتماعية والإنسانية التى يفرضها التحرك التاريخى من زمن إلى آخر، وأمام هذا الجمود الذى تسببت فيه المنظومة السلفية وحدها أصبح العقل الإسلامى المتأنى منبوذا مكفرا تتصدى له ماكينة العقل السلفى التى دائما وفى كل عصر ما تكون مدعومة بكل ما أوتيت السلطة من نفوذ وتدوين، وأى قراءة سريعة فى التراث الإسلامى وعلاقته مع «فقه المباح» سينكشف اضطهاد ممنهج ومتعمد يتمدد بطول عمر الأمة مطاردا أى محاولة علمية وعقلية تريد استعادة روح الدين الأصلية، وفك قيود التحريم التى قيدنا بها فقهاء السلفية.

عبدالجواد ياسين: الإسلام الموجود الآن ليس مقتبسًا من القرآن والسنة

من رحمة الله بالأمة الإسلامية طيلة الخمسة عشر قرنا الماضية أن جعل فى كل حقبها مئات الأصوات التى تتبنى «فقه المباح» وتعيد إليه مكانته فى العقل الإسلامى بعد كل مرة يحرق أو يطارد فيها، ففى كتابه «السلطة فى الاسلام» الصادر منذ ٣ سنوات يقول القاضى والمفكر المصرى الإسلامى عبدالجواد ياسين: نحسب أننا لم نكن مغالين حين اختزلنا مضمون الرؤية السلفية- للمباح- فى عبارة موجزة هى «مرجعية الماضى» فما من إشكالية افتقدت حلها إلا فى هذه المرجعية وما من إشكالية افتقدت حلها إلا بسببها، وإذا كانت مشكلة الحرية، داخل الفكر الإسلامى، باقية حتى اليوم بغير حل، فما ذلك إلا لأن أول سلف تركها بغير حل حين اتخذ حيالها موقفا سلبيا مترددا يخفى جنوحه إلى الجبر، مضيفا: «إن الإسلام المعروض على العالم اليوم ليس إسلاما نصيا- مقتبسا من القرآن وروح السنة النبوية- بقدر ما هوإسلام تاريخى من صنع المنظومة السلفية، ونرى فى ذلك تفسيرًا لتلك الفجوة الفاصلة بين الإسلام والعالم، وأن من اللازم، إحقاقًا لحقيقة الدين، أن يعاد عرض الإسلام، كما هو فى النص الخالص، وليس كما هو فى المنظومة التاريخية، وأن ذلك لن يتم إلا بغير خطوتين أساسيتين:

الأولى: أن تتنحى كل المصادر اللانصية التى اعتمدتها المنظومة السلفية، أى إعادة قراءة ثم كتابة علم «أصول الفقه».

الثانية: أن تحذف كل الإضافات التى حملت على نص السنة من جراء المنهج الإسنادى فى جميع الروايات والأخبار وهو ما يعنى إعادة قراءة ثم كتابة علم الحديث، وليس لشىء من ذلك أن يتم بغير استعادة الحاسة النقدية فى التفكير الإسلامى والتى هى أساسا «بنت العقل والحرية» أى بنت الإسلام الحقيقى الأصيل، الذى نقرأه فى النص الإلهى الخالص قبل أن يحمل بأوزار التاريخ والجغرافيا الإقليمية الذى نما وكتب فيه، إن شرعية «الحاسة النقدية» تستمد أساسها وبريقها من داخل النص الإسلامى ذاته من حيث إنها: أحد التداعيات الضرورية والمباشرة للمبدأ القرآنى الأصيل فى «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» وهو المبدأ الذى تعرض (عبر تفسيرات المنظومة السلفية الخاضعة دوما لضرورات الواقع السياسى) لسلسلة من التنازلات المقننة، أفقدته الكثير من عذريته النصية. وحين نقرأ القرآن قراءة حرة، أعنى- والكلام لعبدالجواد ياسين- خالصة من وصاية المنظومة السلفية، فسوف نرى العقل حاضرا- وفى وضوح شديد- من خلال مبادئه الكلية والتى فى ذاتها جزء من ناموس الفطرة». لأن القرآن أنزل أصلا ليكون بمثابة نص ذاتى لكل مسلم على حدة متصل الإسناد بشكل مباشر إلى الله وحده القادر على مخاطبة بواطن المؤمنين ولمس النور الفطرى داخل كل واحد منهم، كما يؤكد فى أكثر من آية: «اَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَىءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» وقوله «وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (١٣) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (١٤) من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (١٥)» وهذه الآية بالتحديد واضحة المعنى فى اتجاه النور الفطرى الباطنى الذى يكتسبه أى مسلم فور إيمانه بالإسلام، فتلقائيا ينبنى بينه وبين الله وكتابه علاقة خاصة جديدة لا تسمح بأحكام الفقهاء المعممة على جميع الأمة فى أى زمان ومكان؛ ويتوجب تطبيقها على الجميع بقدسية وإلزام تصل بمن يعصيها إلى حد التكفير والخروج من الملة، الآية تؤكد ذاتية الثواب والعقاب وقت حساب الله للخلق-كل إنسان ملزم بطائره فى عنقه- أى أن الله تعالى لن يحاسب الفقهاء على فعل الأفراد، بل حذر من اتباع الجموع للسادات والكبار فى قوله تعالى «إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا» وكأن القرآن يحذر المسلمين مما وقع فيه المشركون حين قدسوا شخوصا وسادات ومقولات لا تقبل المراجعة أو التدقيق، ثم إنه كيف يتعامل الله وقت الحساب مع كل مسلم بشكل شخصى وعلى حدة ثم يجىء فقهاء ومنظرون يضعون أحكاما عامة يأمرون الناس بالسير عليها فى مجاميع دون حيد أو مناقشة؟ كيف يحاسب الله كل إنسان بذاتية ويطلب منا الفقهاء اتباع الجماعة والانصياع للإجماع؟

الحرية الإنسانية أصل فى جوهر الدين وتمتلك أساسًا نصيا قرآنيا على شتى مستويات النظر إليها: فلسفيا وسياسيًا وتشريعيًا فالإسلام ينكر الجبر ويحرم الاستبداد ويُثبّت على سبيل الأصالة حق الإنسان المسلم فى الحركة بحرية خارج دائرة «الإلزام»، فدائرة المباح التى يعترف كل فقهاء الإسلام القدامى بانطلاق جميع الأصول الفقهية منها لا تعنى شيئا غير إطلاق الحرية الإنسانية؛ ليتسنى للإنسان المسلم، بناء علاقة فردية ذاتية جدا مع الله وقرآنه وأقداره اليومية.

ابن حزم: السلفية ترفض العقل وتغيّب الحرية

هذا الكلام ليس جديدا على العقل الإسلامى وقيل من قبل آلاف المرات عبر كل حقب التاريخ منذ وفاة النبى وحتى الآن، فابن حزم الأندلسى على سبيل المثال لا الحصر اختزل نقده كله للمنظومة السلفية بفقهها ورواياتها فى أنها ترفض العقل وتغيب الحرية، كان لا يرى الإجماع السلفى يصلح مصدرا للتشريع فى الإسلام، ففى الجزء الرابع من كتابه الأهم «الإحكام فى أصول الأحكام» يقول ما نصه: «علينا طلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: إذ ليس الدين فى سواهما أصلا»، وبعد ذلك بصفحات قليلة يُسهب قائلا: «إن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون فى همهم واختياراتهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، متباينون فى ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا، فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسى القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس، ومنهم قوى على العمل، ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف، ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه، ومنهم مائل إلى الخشونة.. ومن المحال اتفاق هؤلاء على رأى أصلا لاختلاف دعواتهم ومذاهبهم»، ثم يشرع فى تفنيد مفهوم الإجماع والقياس الذى استعمله الفقهاء فى الأصول الفقهية كبديل عن القرآن والسنة فى كثير من المسائل بقوله: يقول عز وجل «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء» فالله تعالى يأمرنا أن نتبع ما أنزله ونهانا عن أن نتبع أحدا دونه، فبطل بهذا أن يكون إجماع على غير نص، وقد ذكرنا قوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم» فصح أنه لا يحدث بعد النبى شىء من الدين وبذلك يبطل أن يُجْمَع على شىء من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة». لقد أبطل ابن حزم أدلة الإجماع ليعيد رونق الإباحة إلى أصول الفقه الإسلامى فهو يقول بصراحة ووضوح: «إن الدين ليس فيه إلا واجب أو حرام أو مباح ولا سبيل إلى قسم رابع البتة فما أُمرنا به واجب وما نهينا عنه فهو حرام وما سوى ذلك فهو مباح مطلق» أى أن سكوت القرآن والسنة نص بالإحالة إلى دائرة المباح، وأكثر ما كان يزعج ابن حزم وكثيرًا ما علق عليه فى معظم مؤلفاته جملة تكررت آلاف المرات فى الفقه السلفى دائما ما تكون مقدمة لتحريم أو نهى هى: «هذه مسألة لا نص فيها» كان يعتبرها قولا باطلا وتدليسا فى الدين، لأن كل ما لم يحرمه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات فقد حلله بقوله: (خلق لكم ما فى الأرض جميعا) وقوله: (قد فصل لكم ما حرم عليكم).

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل