المحتوى الرئيسى

الأمان والطمأنينة استثمار فى الطفل يمتد فى الكبر

05/25 01:16

تخيل نفسك فى بلد ذات قانون يطبق على الجميع حتى لو فيه ما لا يعجبك، ثم تخيل نفسك فى بلد بلا قانون أو بلا جدية فى تطبيقه، بلد أنت وغيرك لا يحكمكم قواعد للتعايش.

القانون وجدية تطبيقه يعطينا الإحساس بالأمان، وعدم وجوده أو التهاون فى تطبيقه يهز إحساسنا بالطمأنينة، ويجعلنا أقل ثقة فى الغد. هذا بالضبط ما يحدث للطفل منذ ولادته عندما نضع قواعد لأسرنا تسرى على الكل، فالتربية الإيجابية المبنية على فكرة تقبل فردية الطفل، وتنوعه وحقه فى أن يكون مختلفا وحقه فى أن نترك له الفرصة ليكون نفسه، يكتشفها وينميها ويتميز بطريقته، لا تتعارض مع -بل يشترط فيها- أن يحس الطفل بوجود مرجعية قوية وظهر يستند إليه لدى الأبوين.

الجنين ثم الرضيع ثم الطفل وحتى المراهق يستمد الطمأنينة من أبويه، وهو شديد الحساسية للرسائل التى تصله من تصرفات الأم والأب سواء كانت موجهة إليه أو متبادلة داخل البيت. فقلق الأبوين أو توترهم أو تغيير مزاجهم هو إشارة للطفل أن عالمه مهدد، وأول سؤال يجب أن نسأله لأنفسنا إذا لاحظنا علامات مثل «عصبية الطفل، تغيير فى المزاج وفقدان الشهية أو النهم غير المبرر، قدم الأظافر أو الجز على الأسنان، الشكوى من آلام البطن المتكررة، الصداع المتكرر، الصعوبة فى الدخول فى النوم، أو الكوابيس….»، يجب أن يكون «هل أنا كأب أو أم عندى نفس الأعراض؟»، هل أنا أعانى قلقا أو توترا أو نوبات غضب؟ هل تصرفاتى وردود أفعالى متزنة أم فيها عصبية، والأهم: هل أنا أوفر بيئة مستقرة لطفلى؟

إرساء نظام عام بالبيت يجمع الأسرة على مواعيد نوم مناسبة لسنهم، مواعيد أكل تجمع الأسرة ومكان مناسب للوجبات، قواعد عامة لكيفية التفاهم بين أفراد الأسرة واتخاذ القرار داخلها، توزيع واجبات منزلية على أفراد الأسرة حسب سنهم وقدراتهم ومتابعة تنفيذها فى جو من التشجيع والمساواة، والأهم القدوة فى كل ما سبق، كلها أمور هامة لا تجور على حرية الطفل فى التفكير والتصرف إذا ما صاحبها قدر من التفاهم. فالحرية فى إبداء الرأى والاختيار والتصرف لدى الطفل لا تعنى العشوائية، وإنما تحتاج إلى التشجيع فى إطار من النظام ويجب أن تتم بالتوازى مع تعليم الطفل مهارات التواصل والتفاوض وقبول الحلول الوسط. فالطفل الذى يأكل وينام فى مواعيد تتغير يوميا، والذى يتهاون معه أبواه فى الالتزام بقواعد المدرسة من ملابس أو آداب عامة أو التهاون فى الذهاب بانتظام إلى المدرسة والالتزام بمواعيدها كلها أمور ستنعكس عليه فى مستقبله المهنى واحترامه لقوانين بلده أو قواعد ناديه أو مكان عمله.

من المهم أن تكون ردود أفعالنا لطلبات الطفل موحدة ومكررة، فلا نتمادى فى الممنوعات والأوامر الموجهة له خاصة إذا لم تندرج تحت بنود «سوء الخلق، مثل أن يستخدم الضرب أو الألفاظ الخارجة أو أن يرمى بالأشياء فى الأرض.. إلخ» أو بند المخاطر «مثل اللعب بالقرب من الشباك أو الكهرباء.. إلخ» والسماح باللعب والجرى والشقاوة عموما مع الالتزام بممنوعات قليلة لكنها مهمة وموحدة بين الأب والأم وتطبق بصرامة مع تكرارها، وعدم الرضوخ للإلحاح والصراخ وذلك بدون عنف فقط بتطبيق مبدأ «لا أراك ولا أسمعك عندما تتصرف هكذا» (أى نتجاهله تماما أو نترك المكان) ثم عندما يهدأ نتحدث إليه بهدوء عما فعله ولماذا هذه الأمور غير مقبولة، كلها طرق لإيصال قواعد عامة فى التعامل بينه وبين الآخرين ستمتد فى الكبر إلى بناء مجتمع أكثر احتراما للآخر، ومن المهم جدا أن نكون نحن أيضا كأبوين أول من يطبقها، فلا نخضع للتوتر أو الغضب فى التعامل معه فنفقد أعصابنا معه أو فيما بيننا، أو نستخدم أيدينا أو الألفاظ أو الصوت العالى فى التعامل، لأن فى الآخر أى شىء نفعله نحن الآباء لابد أن نسمح لأبنائنا أن يفعلوه إذا ما كنا نرغب فى أن نحتفظ بوضعنا كمثل أعلى لهم.

عند اتخاذ قرار الإنجاب لابد أن نتقبل أن مقابل المتعة التى تعطيها لنا الإنجاب، لا بد أن نضحى بأسلوب حياتنا الذى اعتدناه قبل الإنجاب، فالسهر والاستيقاظ المتأخر، اليوم المشحون بالانتقال من مكان إلى مكان والأكل خارج المنزل أو الاعتماد على الأكل الجاهز يوميا، أن نسمح لأنفسنا بأن نفقد أعصابنا فى مواجهة المشكلات أو فى تعاملنا مع بعض كأبوين أو مع أبنائنا، كلها أمور هامة، وبالرغم أن الروتين يبدو أمرا مملا للكبار إلا أنه أساسى لاستقرار الطفل النفسى ولصحته الجسدية. والحقيقة أنه أيضا هام لنا كبالغين.

ألا نسمح بأن يزيد تعرض الطفل للشاشة عن ساعة واحدة يوميا بكل ما تشمله من تليفزيون وكمبيوتر وتاب وتليفون، أيضا من الأمور الهامة، لأن الشاشة ليست فقط أداة تحرم الطفل من التواصل الإنسانى، وتطوير مهاراته فى التواصل والتعبير عن مشاعره، لكنها أيضا بسبب الموجات والذبذبات التى ترسلها تتسبب فى الكثير من التوتر حتى لدى الأطفال الصغار، وكثير من أطفالنا الذين يعانون من الكوابيس أو القلق أثناء الليل يتحسنون كثيرا عندما نتوقف عن استخدام الشاشة قبل النوم حتى لو كانوا يشاهدون برامج وأفلاما مخصصة للأطفال.

استثمار ساعة ما قبل النوم فى تفاصيل بسيطة مثل تحضير العشاء معا، الأكل على سفرة واحدة مع الأسرة، الدخول إلى السرير بصحبة أحد الأبوين لقضاء نصف ساعة فى الحديث عما حدث أثناء يومهم هو استثمار هام يجب أن يستمر حتى إلى سن المراهقة، فلحظات ما قبل النوم يكون الطفل أكثر هدوء، وأكثر رغبة فى فتح قلبه والحكى، حدوتة قبل النوم سواء كانت حدوتة من كتاب نقرأه لهم، أو نرويها لهم من الذاكرة أو من خيالنا، كلها طرق هامة للتواصل الأكثر عمقا ومعرفة ما يدور فى ذهنهم ويعطيهم فرصة للأسئلة التى قد يجدون حرجا فى سؤالها وفرصة لنعطيهم تركيزنا كوننا مشغولين طوال يومنا الملىء بالتفاصيل الحياتية.

من الطبيعى أن تعيش أى أسرة فترات قلق، فقد يحدث صدام بين الأبوين لأى سبب يراه الأطفال، أو قد تدور أحداث عامة يراها الطفل فى التليفزيون أثناء متابعة الأهل لها، أو تحدث حالة وفاة مؤلمة داخل الأسرة تؤثر على الحالة النفسية للأبوين، وكلها أمور يجب أن نتحدث فيها مع أبنائنا بعد أن نهدأ، من المهم ألا نتجاهلها وكأنها لم تحدث، ولا يجب أن نبررها أو نفسرها بأكاذيب تخفف عنهم الواقع، فالطفل أذكى من أن نكذب عليه، وليس هناك أسوأ من أن نتركه لخياله ومخاوفه، أو ندفعه ليجد فى أصدقائه أو الإنترنت مصدرا ليفهم منها ما يقلقه، حفاظنا على صورتنا كمرجعية آمنة لأبنائنا للتساؤل أو الحوار أو حتى طلب المساعدة لا يأتى بالأمر ولا بوضعنا كأبوين وإنما بالاستثمار فى بناء علاقة تواصل على مدى سنوات بشكل يومى بسيط.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل