المحتوى الرئيسى

«قيل لهم أن يستريحوا».. أمهات «شهداء العَور» يودّعن سنوات الانتظار (ملف خاص) | المصري اليوم

05/22 08:21

بينما كان الفجر الفضيّ يهبط على طرقات القاهرة، بدأنا رحلتنا إلى المنيا، عدة ساعات فصلت بيننا وبين «عروس الصعيد»، غادرنا المدينة ذات الحوائط الأسمنتية، فإذا بالصحراء تتكشف أمامنا قطعة قطعة، حتى وصلنا إلى المساحات الزراعيّة. من هُنا بدأنا نسأل عن قرية «العَور»، القرية التي فقدَت 20 من أبنائها على أيدي تنظيم داعش الإرهابي، فبراير 2015.

على بُعد 15 كيلو متر غرب مركز سمالوط، تقع قرية «العَور» على مساحة لا تتعدّى 2 كيلو متر مربع، تستطيع أن تصل إليها بسهولة، الكُل هنا يعرِف أن الغرباء يأتون إلى قرية «الشهداء/ القديسين»، حسبْ تسمية الأهالي، كي يطمئنوا على أهالي الشهداء مُنذ وقوع الحادث الأليم، فيما يأتون الآن للتبرُك بمزار الشهداء داخل كنيسة «شهداء الوطن والإيمان»، عقب وصول رفاتهم فجر الثلاثاء الماضي.

كانت القرية نائمة عندما وصلنا إليها، استقبلتنا الشمس التي انصبَت مثل إكليل نحاسي فوق البُقعة التي تضم كاتدرائية «شهداء الوطن والإيمان»، سلّمتنا بعدها إلى حارس الكنيسة، عم عبيد، الذي استقبلنا بابتسامة هادئة: «الفرح اختلط بالحُزن هنا امبارح، كُنا بنزّف جثامين الشهداء، من ساعة ما وصلوا لحد الفجر».

تتوسّط الكاتدرائية المساحة الزراعية، بيضاء، تراها بمجرد دخول القرية، إذ تتكون من طابقين، يضُم الطابق الأول مزار الشهداء ويحوي مقصورة خشبيّة صُنعت خصيصا لوضع رفات الشهداء بها، ومكتبة وقاعة لاستقبال الزوار المصريين والأجانب، فيما يضمّ الطابق الثاني المذبح ومكان مُخصص للصلوات.

آلام الانتظار، صورٌ مبعثرة هنا وهناك، رائحة الفقَد العالقة في ملابس قديمة، هكذا كانت تُهدئ الأمهات حزنها بتلك الأشياء، إذ جمعها البعض داخل غُرفة في المنزل، سُميت بـ«مزار الشهيد»، لكن أهالي الشهداء انتظروا عودة رُفات أبنائهم، رغم انقطاع الأمل، بظهور دمائهم تذوب في مياة البحر. لكنهم عادوا عقب 3 سنوات، ليقولوا «هُنا رُفات من كتب اسمه بماء».

مزَار الشهداء.. «هُنا رُفَات من كتب اسمه بماء»

مع حلول الظهيرة، تصدّرت شمس الصعيد الحامية المشهد، لا ظل هُنا ولا هُناك، الأجواء تفرض صمتًا مقدسًا، لكن كان الأمر مختلفًا داخل مزار الشهداء، تشعُر للحظة وكأنك قرب السماء، تمتزج الزغاريد بأصوات البكاء، الكُل يقف حول صندوق كبير مُغطى بزجاج شفاف يسمح بالرؤية، يهرع إليه الزائرون يحاولون لمسه والتبرك بهِ، يوشوشون الأمنيات، أملاً في شفاعة من القديسين الذين سبقوهم إلى السماء.

قبل 7 أشهر، تم تجهيز المقصورة لاستقبال الشهداء، حسبمّا يقول عم عبيد، حارس المزار: «من أول ما قالوا الرُفات ظهرت، وإحنا بنجهز مكان للشهداء»، يُشير أيضًا إلى أن الأهالي يأتون للمزار يوميًا مُنذ الانتهاء من بنائه، وقبل وصول الرُفات، لمجرد شعورههم أن أجساد أبنائهم الطاهرة سترقُد هُنا.

«هُم اللى حارسني مش أنا اللى حارسُهم»، يقولها عم عبيد بإبتسامة تمتِزج بالحُزن، ثم يضيف «كلهم أصحابي، اشتغلنا مع بعض في الفِلاحة».

أمام مزار الشهداء، الدموع مازالت تجري، فإذا سألت إحدى السيدات المتشحّات بالسواد «تقربي للشهداء؟»، تُجيب «جيراني. اتوجعت عليهم»، تصمتْ السيدة للحظات، ثم تكمل «مصر كلها اتوجعت عليهم»، فيما تُشير بيداها إلى طوابير المحبّون الذين أتوا من كل حدب وصوب، ليلتفوا حول المزار، فتجد على يمينك أحدهُم يكتب أمنيته ويضعها فوق الصندوق، فيما تُسند شابة ظهرها إلى الحائط المقابل كي تبثّ حُزنها إلى السماء.

«سمعت إن في بركة هنا، قُلت أجي أزور»، ببساطة شديدة يُعبر وجدي، الرجل الستيني، ومدير إحدى المدارس الفندقية في أسوان، عن سبب مجيئه من أسوان إلى المنيا، رغم درجات الحرارة المرتفعة، إذ رأى أن بركة عودة رُفات الشهداء تستحق شدّ الرحال.

رأسًا من أسيوط، جاء رسمي، 75 سنة، موظف بالمعاش، إلى قرية العَور، مصطحبًا أبنائه وأحفاده، الذين قطعوا 3 ساعات متواصلة أملاً في التبرك برُفات الشهداء، كما قال: «أنا عُمري ما جيت هنا، ولا أعرف القرية. لكن من ساعة ما سمعت الحادثة عارف أنهم هيرجعوا».

بيقين فطري، شعُر الرجل السبعيني، أن رُفات الشهداء سترجع يومًا ما، فعهد على نفسه أن يزور القرية عقب وصول الرُفات «جيت ليهم مخصوص، عشان أخُد البركة، بقول ربنا اللى أداهم بركة قادر يديني زيهم»، ورغم كِبر سنه، حرص على الوقوف بجانب أحفاده أمام المزار، لينظروا إلى الرُفات التي تظهر أسفل الصندوق الخشبي، إذ وضعت داخل أنابيب كُتب عليها اسم كل شهيد.

رحيل.. رحلة سماويّة من جَبل الطير إلى مزار الشهداء

يا عتبة العدرا يا محلا عتبها

يا عتبة العدرا يا محلا هواها

داخل دائرة صغيرة، جلست السيدات الأسبوع الماضي، يُغنين للعذراء في مولدها بجبل الطير، وعلى طَرف الدائرة. وقفَت «رحيل»، 28 سنة، تبتسم لهنْ، يدعونها للجلوس والغناء «يا عتبة العدرا يا محلا عتبها»، تهمّ بالجلوس معهنْ لكنها تتذكر حزنها ودموعها التي لم تجفّ منذ 3 سنوات، عقب مقتل 5 من أقاربها في مذبحة قتل 20 مصريًا على أيدي داعش.

تخيّلت «رحيل» مثل أبناء قريتها، أن جثث الشهداء بعد ذبحهم، طفت على الماء، وتحولت مع الأيام مثل زبَد البحر، لكنها عندما كانت تستلقي على فراشها مساءً، ترى وجوههم تسبح أمامهم على هيئة سحابة بيضاء في السماء، وإذ بهم يُرددون «إحنا راجعين.. راجعين».

أمام مزَار الشهداء، وجدنَا «رحيل» ترتدي جلبابًا منقوشًا بالورد، على صدرها سلسلة نُحاسية تحوي صور تذكاريّة لأقاربها الخمسة، فيما يُزين وجهها ابتسامة مطمئنة، كما تقول: «أنا تركت مولد العدرا، وجيت لأجل أشوف الشهداء، كُنت عارفة أنهم راجعين». تُردد الجملة الأخيرة بيقين العارفين دون ملل، كما كانت تفعل السنوات السابقة، ولم يصدقها أحد.

تحمِل «رحيل» سيرة الشهداء في قلبها، كما أبناء قرية «العَور» جميعًا، تحفظ تفاصيل رحلة الموت عن ظهر قلب، مُنذ بدايتها كما تقول: «مكتوب أنهم يموتوا. دول كلهم أول مرة يسافروا، وجوازات السفر رجعت أكتر من مرة»، ثم تُعدد أسباب سفر أبناء القرية المغلوبين على أمرهم «كلهم سافروا عشان لقمة العيش، اللى سافر عشان خاطر يصرف على أهله، أو ولاده، أو عشان يتجوز».

تُعد قرية «العَور» إحدى قرى مجلس قروي أسطال التابع لمركز سمالوط، شمال المنيا، يبلغ عدد سكانها أكثر من 5 آلاف نسمة تقريبًا، ينقسمون ما بين أقباط ومسلمين، وتفتقر القرية للخدمات الأساسية، عدم وجود صرف صحي، نقص مياه الشرب، وقلة فرص العمل التي دفعت أبنائها إلى السفر خارج مصر، بحثًا عن لقمة العيش.

«أعطوا كل واحد ثيابًا بيضا، وقيل لهم أنْ يستريحُوا»، تتذكّر «رحيل»، بما أنها جزءًا من الذاكرة الجمعية للقرية ما حدث ليلة رأس السنة، قبل اختطاف أقاربها: «كلمونا قالولنا هيلموا شنطهم ويرجعوا بس ملحقوش»، انتظرت القرية عودة أبنائها، حتى جاءت ليلة 15 فبراير 2015، «سمعنا صراخ وعويل طالِع من كل بيت.. عرفنا أنهم استشهدوا».

حزِنت البيوت على أبنائها الذين سقطوا، كما ذويهم، فبعد الانتهاء من زيارة المزار، اصطحبتنا رحيل لزيارة أهالي الشهداء، ظهرت الدروب إلى بيوت الأمهات على جانبي الأرض الزراعية، وكأنّها جروح لم تلتئم بعد. هكذا كان حال الأمهات في الداخل أيضًا.

أبانوب ويوسف.. «المحبوبان في حياتهُما لم يفترقا في موتهُما»

عبّر عطفة جانبيّة، تتفرع من الطريق الرئيسي، دلفنا إلى منزل الشهيد أبانوب، أصغر شهداء المذبحة، إذ كُتب على لافتة ظهرت أعلى بوابته «المحبوبان والحلوان في حياتهُما لم يفترقا في موتهُما»، فيما جاء أسفل اللافتة اسم الشهيدين، «أبانوب» و«يوسف»، فهم الذين كانوا رِفقة حتى الموت.

فتحت لنا بوابة المنزل، سيدة تتشّح بالسواد، وكأن سرادق العزاء انفضّ أمس. وفي الداخل، كانت تجلس والدة الشهيد أبانوب على أريكة خشبيّة، وبجانبها والدة الشهيد يوسف، مثلما كان يفعل أبنائهما «أبانوب ويوسف مكنوش مجرّد أصحاب أو ولاد عم، دول كأنهم تؤام، يروحوا الكنيسة مع بعض، المدرسة مع بعض، حتى في إجازات المدارس كانوا يسافروا إسكندرية يشتغلوا مع بعض».

ربمّا إذا دخلت المنزل، لن تعرف إذا كان منزل أبانوب أم يوسف، إذ تتزيّن الجدران بصور الرفيقين معًا، تُشير والدة أحدهم إلى صور الثٌنائي خلال أدائهم فترة التجنيد، قائلة: «حتى في الجيش كانوا مع بعض، قضوا المدة سوا». تلتقط والدة أبانوب طرف الحديث، لتروي ذكريات لم تغب عن ذاكرتها أبدًا «لما كانوا يقولوا لهم يا رب متتحرموش من بعض. كانوا يردوّا حتى في الموت هنفضل مع بعض».

«قولنالهُم متسافروش ليبيا»، تقولها والدة يوسف، بعدما «دابت» آمالها، حاولت حينها منع ابنها من السفر، لكن بلا فائدة، بالرغم من ضيق الحال، أراد يوسف الهرب من قلة فرص العمل، وشجعهُ على ذلك رِفقة صديق عُمره، كما تقول والدته «كل واحد دفع أكثر من 5 آلاف، هاخُد لك سلفة وربنا هيسدّدها».

«كانوا بيضحكوا ويقولولنا هنكلّل (هنتجوز) 2015، الخطوة نصيب والفرح قريب»، تتذكّر أمهات الشهيدين ما حدث: «ليلة ما ماتوا، كُنت حاطه صورة ابني قدام صورة العذراء، وأقول يا رب تحافظ على ابني، كانوا مخطوفين 45 يوم، كل الأمهات دابِت، كنت أقول حافظ على أجساد ولادنا، ومكُنتش أعرف أنهم اتدبحوا».

«أعطوا كل واحد ثيابًا بيضاء، وقيل لهُم أن يستريحوا»، جلست الأمهات ينتظرن عودة الصديقين معًا، مُرددين «هنبيع البيوت اللى قاعدين فيها بس يرجعوا»، لكن بلا فائدة فالتزموا البُكاء والدعاء: «يا رب تحافظ على أجسادهم وترجع لنا، أكتر من 5 شهور، قالولنا الأجساد هترجع وكُنا بنتمنى يرجعوا».

«شرفونا في السما وطمنّوا قلبنا»، جملةٌ قالتها والدة أبانوب، وأكملتها بزغاريد، تقطّع صوتها للحظات «كان نفسي بس أخده هو في حضني. مش رُفاته»، تُطمئنها والدة يوسف، تُربت على كتفيها، كما كان عهد الصديقين، أبانوب ويوسف، طوال سنوات معًا.

ماجد شحاتة.. «الأبّ الملاك الشهيد»

بين عدد من بيوت القرية البسيطة، وقف في المُنتصف، بيت ذو ساحة واسعة نسبيًا، استقر على حائطه المُرتفع لافتة ضخمة، كُتب عليها «شهداء الدين والوطن.. هُنا منزل الملاك ماجد شحاتة».

فتحَت الباب سيدة يكسو وجهها ملامح الحزن، وبصحبتها فتاة لم تصل إلى منتصف العشرينيات، تُشير إلى كرسي خالي غاب عنهُ صاحبه، الرجل الذي كان بمثابة الأخ والوالد والصديق لأبنائه، ولكثير من أهالي القرية، فهو أكبر الشهداء سنَا، تجاوز الأربعين ربيعًا.

غاب ماجد شحاتة عن نظر أبنائه، لكنهم يشعرون أنه لازال هُنا، ملاك يحرسهم في ليالي البرد القارسة، فيما تُسانده زوجته في تربية الأبناء التي تستقبِل الزائرين قائلة: «هذا بيت الشهيد الراحل ماجد شحاتة. لديه من الأبناء، أميرة، ليسانس آداب إعلام، صموئيل، يدرس بكلية التجارة، الشعبة الإنجليزية، فيما تُعرفك على الابنة الصُغرى، ميرنا في الصف الثالث الإعدادي».

«الربّ جرحنا ودوانا»، هكذا تصف زوجة الشهيد ماجد عودة رُفاته إلى الوطن بعد أكثر من 8 أشهر على إعلان العثور عليها «كان عندنا أمل ورجاء في ربنا إنه هيرجعهم، وهيحفظ جُثمانهم لحد ما يجوا بالسلامة».

أكثر من أي وقت مضى، تفتقد أسرة ماجد وجوده حولهم بالمنزل، يروون لك حكايات عن كفاح الشهيد لتعليم أبنائه، داخل قرية لم يُكمل أغلب أبنائها تعليمهم، نظرًا لضيق الحال، أما ماجد، فأصرّ عل تعليم أولاده، رغم أن اليومية التي كان يتقاضها لم تتعدّ 40 جنيهًا.

«الشهيد ماجد سافر عشان كان حلمه أولاده يتعلموا ويدخلوا الجامعة كلهم، كان بيقول أنا هكافح معاهم للآخر، مش عاوزهم يتعبوا زيي كدا في شغل الفلاحة».

تحكي أميرة، ابنة الشهيد ماجد، أن ابن أخيه الشهيد، أبانوب، توقّع سيناريو الوفاة قبلها بعدة أشهر، إذ قال لأبناء ماجد «هنموت كلنا في ليبيا، وهتنقل القنوات والصحف خبر وفاتنا».

يرى أهالي القرية ماجد شحاتة، الشهيد والبطل، أما أسرته فتراه ماجد «الأب والملاك الحنّون»، تُمحى صورته أحيانًا من ذاكرتهم، فيتذكرونه بمشاهدة فيديو ذبحه، رغم الألم الذي يتضمنه «فيديو القتل معايا أنا وأخواتي على الموبايل، مدتُه 5 دقائق، لكن بيعدوا علينا كأنهم 5 سنين، وبيأثروا في النفسية كأنهم 10 سنين قدام».

تحتفظ ذاكرة أسرة ماجد أيضًا، بلحظات الرعب والقهر التي استمرت بعد انتشار خبر اختطاف 13 مواطنًا مسيحيًا بين أهالي قرية العور، مرورًا بخبر مقتلهم، وأخيرًا وصول الرفات قبل بضعة ساعات، كما تقول أميرة، الابنة الكبرى: «كان نفسي استقبله في المطار»، تضيف «لكن لم يُبلغنا أحد بشكل رسمي بوصول الرفات. لقد قرأت الخبر منذ يوم 6 أكتوبر 2017».

معاش شهري قيمته ألفي جنيه هو مبلغ التعويض الذي قُدم لكل أسر الشهداء، موزعين على الأم والأب والزوجة، وذلك بجانب ماكينة تفريخ الدواجن التي تبرع بها رجل الأعمال، نجيب ساويرس، لكل أسرة، لكن زوجة الشهيد لم تشهد أي تطور أو تغيير في القرية من أجل وقف هجرة الشباب إلى ليبيا لمواجهة نفس مصير زوجها.

تشعر الزوجة أن فقدان زوجها الحنون «قسم روحها»، لكنها ترفض الاستسلام، «ماجد كان مش مخليهم عاوزين حاجة، وأنا واثقة إن ربنا مش هيسيبهم، زي ما كان ماجد معاهم».

مينا فايز .. استُشهد بدلاً من شقيقه الأكبر

في إحدى زوايا البيت المخصص بداخله حجرة مزار لرُفات الشقيق الغائب، أخذ روماني، شقيق مينا فايز الأكبر، ورفيق دربه، مقعده في الجلسة، بجانب والديه وشقيقه الأصغر، فيما يطوف حولهم من حين لآخر أهم أفراد الأسرة، «مينا الصغير»، 9 سنوات، ابن روماني، الذي سمُي على اسم عمه الشهيد، حتى لا تفارقهم ذكراه.

ربما لا تراه يبكي من ألم أو فقد، تُرك وحيدًا بين أعمدة الدخان وأصوات النحيب، يعلم «روماني» كم هو موحش طريق الوحدة، كم هي قاسية العودة بدون شقيقه الأصغر، كما يروي لنا: «مينا أخويا الصغير، كنت عايش في ليبيا لمدة سنة ونصف، وبعد ما خلص خدمته العسكرية، أنا اللي قولتله يجي ليبيا يساعدني شوية، بس هو مكانش عايز يروح ليبيا عشان المشاكل، لكن أنا قدرت أقنعُه».

يضطر الآن «روماني» للعيش مع أسرته في منزل أسسهُ بكل تفاصيله مع شقيقه الغائب، الذي رآه آخر مرة أثناء فيديو مقتله على يد التنظيم الإرهابي «داعش» بعد اختطافه من مقر إقامته في ليبيا.

يتذكّر «روماني» ما حدث بصعوبة: «إحنا كنا رايحين ناكل عيش، معندناش في القرية أقل سُبل المعيشة، كُنا بنسافر ونتهان، ونواجه العصابات التي تريد سرقة أموالنا لكن هذه المرة لم يكن هدفهم المال».

يحكي «روماني» واقعة اختطاف شقيقه الأصغر «مينا» ضمن 13 مصريًا آخرين: «كنت في اجازة في مصر، عرفت أن في 7 مصريين تم اختطافهم، أخويا كان بعيد عنهم، لكن دخلت عصابة ملثمة بعد كده عليهم في الشقة، تُشير لهجتهم بأنهم من ليبيا، لكن كان معاهم واحد مصري أرشدهم على المسيحيين المُقيمن في الشقة».

وتابع: «حاولوا استجواب المسلمين في الشقة، لكنهم رفضوا يرشدوهم على زملائهم المسيحيين، كلنا أهل، لكن تحت التهديد بالقتل، عرفوا غرف المسيحيين، اقتحموها وقالولهم (نحنُ نريدكم أنتم وليس أموالكم)، ثم وضعوهم في سيارة دفع رباعي».

انطلقَت السيارة مُسرعة نحو الظلام، 45 يوما مرَّت على غياب المُختطفين، بينما كان يحاول ذوويهم البحث عن طرف خيط يُنقذهم: «كان طعم الأكل والشرب مر، عملنا كل شئ مُتاح، لدرجة أننا خرجنا في مظاهرات، حاولنا التواصل مع كل الجهات الرسمية لكن بدون جدوى».، تعثّرت الكلمات في فمه قليلاً، ثم أضاف «مكنش في ايدينا غير نسمع ونسكت».

بعد انتهاء المهلة التي حددها التنظيم الإرهابي «داعش»، فوجئ الأهالي بفيديو الدبح الذي انتشر حينها: «فيديو مدته 5 دقائق و5 ثوان ملوا البيوت والشوارع بالصراخ».

«مثل الشوكة في الحلق» هكذا وصف «روماني» مدة الـ7 أشهر ما بين إعلان العثور على الرُفات ووصولها القاهرة، «كانوا وجع وتعب، بس كان لينا شوقة إنهم يرجعوا بأي طريقة، كنا مستنيين اللحظة دي، وكله حصل بترتيب إلهي».

قرر «روماني» بعد مقتل شقيقه، عدم العودة إلى ليبيا ثانيًا، فضّل الجلوس بجانب عائلته تعويضًا له عن غياب شقيقه، رغم عدم تغيّر أحوال القرية، التي تنافس رجال الأعمال على تقديم المساعدات المادية لأهلها بعد الحاث: «لم يتغير شيء في القرية، أوضاعنا سيئة، إحنا هدفنا نشتغل، وناكُل بعرق جيبينا، ما يدوناش فلوس ويقولوا خدوا كلوا. لازم يعملوا مشاريع للمسلمين والمسيحيين عشان يعيشوا وكفاية موت».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل