المحتوى الرئيسى

أيام كشك وعدوية (4).. محمد الباز يكتب: «الشهرة تفتح أبوابها.. لو الباب يخبط نعرف بره مين»

05/20 00:56

- «السح الدح إمبو» كانت مولد أحمد عدوية فى عالم الفن على يد مأمون الشناوى

- أول موعظة لـ«كشك» كانت فى مسجد قريته وكان عمره ١٦ عامًا

- كشك لم يتردد فى الحديث عن فقره بينما اختار عدوية أن ينسج صورة لحياته قبل الغنى

فتح الله أبوابه كلها لكشك وعدوية، وكان لهذه الأبواب حراس.

باب عدوية وقف أمامه مأمون الشناوى ليفسحه له عن آخره، وتخيل أنت أن الشاعر الغنائى الذى كتب لأم كلثوم «بعيد عنك» و«دارت الأيام» و«كل ليلة وكل يوم»، وكتب لعبدالوهاب «كل ده كان ليه»، وكتب لليلى مراد «ليه خلتنى أحبك»، وكتب لفريد الأطرش «حبيب العمر» و«الربيع» و«أول همسة»، وكتب لعبدالحليم حافظ «صدفة» و«نعم يا حبيبى نعم» و«حلو وكداب».. هو نفسه الذى كان وراء أغنية «السح الدح إمبو»، وتخيل أكثر أنه فعل ذلك باقتناع كامل، وحماس مكتمل.

مأمون نفسه تحدث عما جرى.

يقول: كانت أصوات شادية وفايزة وحليم هى المسيطرة على الساحة أيامها، هى القمة، هى الطرب الأصيل، وهى كل شىء فى دنيا الغناء ليس فى مصر فقط، ولكن فى العالم العربى كله، وكانت وجهة نظر عاطف منتصر- صاحب شركة «صوت الحب» التى كانت تنتج لكبار المطربين والمطربات مثل شادية وفايزة أحمد - فى رفض عدوية بحسابات السوق، وكانت وجهة نظرى مستقبلية، وأنا لا أدعى العلم بالغيب، ولكن قرأت فيما يشبه النبوءة، أن أحداثا غنائية قادمة، وأن زمن التطريب سوف يتراجع قليلا، ليحل محله زمن الأداء الذى ما زال موجودًا للآن، نزلت أغنية «السح الدح أمبو» السوق، وعينك ما تشوف إلا النور، نجاح إيه، وضجة إيه، قلت سبحان مغير الأحوال.

ما الذى جرى على وجه التحديد؟

قبل «السح الدح أمبو» كانت أغنيات المطربين والمطربات المشاهير لا تجد من يشتريها، لكن عندما نزل عدوية بأغنيته انقلبت الموازين فى شركة صوت الحب، فالشركة التى كانت مهجورة، أصبحت مثل خلية النحل، كان مكتب الشركة فى الدور الرابع، وكان التجار الذين يريدون الشريط يقفون طابورا بطول السلم وممتدا حتى الشارع.

هل كان هذا هو مولد أحمد عدوية؟

كان هذا هو مولده الحقيقى بالفعل.. يمكنك أن تقول إن صدفة قادته إلى مصيره، وأقول لك، الصدفة لا تأتى إلا لمن يستحقونها.

كيف كانت بداية الشيخ كشك إذن؟، وهل كانت صدفة أيضا؟.

يقول الشيخ كشك: «عندما كنت فى السنة الثالثة الابتدائية، وقد بلغت من العمر ستة عشر عاما، لأننى التحقت بالمعهد بعد حفظ القرآن، وكان عندى ما يقرب من ثلاثة عشر عاما، أذكر بعد ما أديت امتحان السنة الثالثة الابتدائية وعدت إلى بلدتى لقضاء عطلة الصيف، جلست مع بعض الإخوة والزملاء بعد ما صلينا العصر، وأخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، طرح أحدنا سؤالا قال فيه: من منكم يستطيع أن يلقى درسا على المصلين فى أحد مساجد البلدة؟».

أجاب كشك دون تفكير، قال: أنا أستطيع ذلك بمشيئة الله تعالى.

كان بالبلدة الصغيرة ثلاثة مساجد، البحرى والوسطانى ومسجد الجمعية.

اختار كشك المسجد البحرى لإلقاء أول موعظة فيه، وحدد الزمان بعد صلاة الفجر، وسأل الله أن يلهمه ما يقول.

كان ما جرى على هذ النحو، والقصة يستكملها الشيخ: صلينا الفجر وما إن سلم الإمام التسليمتين حتى انتفضت واقفا دون تردد، وكسرت حاجز الخوف الذى كان بينى وبين مخاطبة الناس، لم يكن عندنا فى المعهد الابتدائى من الزاد العلمى ما يمكننا من إرشاد الناس ووعظهم، فقد كانت العلوم تدور بين النحو والصرف والفقه والتاريخ والجغرافيا والقراءات السبع للقرآن الكريم، لذا وقفت أتجول بخاطرى فى أى علم أتكلم، وما إن ذكرت المقدمة التى اشتملت على البسملة والشهادتين حتى خطر بذهنى هذا الحديث الجامع «سبعة يظلهم الله تحت ظله» مع شىء من السيرة النبوية التى كنا ندرسها فى السنتين الأولى والثانية من القسم الابتدائى.

استغرقت موعظة كشك الأولى ما يقرب من ثلث ساعة، تلقى بعدها التهانى الطيبة من المصلين، والتشجيع وعبارات الثناء والقبول.

كان هذا الموقف دافعا للشيخ الصغير لأن يخطو خطوات أخرى أوسع فى طريق الوعظ، فبدأ فى قراءة التفسير لبعض الآيات، والشرح لبعض الأحاديث، وبعد أن كان يعظ الناس فى الفجر فى المسجد البحرى فقط، قدم درسا بعد صلاة العصر فى المسجد الوسطانى.

لم يكن ما فعله كشك طبيعيا، فقد فاق أقرانه الصغار، وهو ما جعلهم يناصبونه العداء حسدا- وهذا تعبيره هو- لكنه استعان بالله عليهم.

لم يصعد كشك المنبر إلى هذه اللحظة.

كانت هناك مأساة تنتظره قبل أن يفعلها.

فبعد أن أنهى الابتدائية الأزهرية، مات والده، انهدم الجدار الذى كان يمثل فى حياته حاجزا منيعا ضد عوامل التعرية، كان هذا إحساسه، وكانت هذه كلماته.

بعد أيام من وفاة والده زارهم خاله، وهو الخال الذى سلب الأم ميراثها من أبيها، أشار على شقيق كشك الأكبر وكان يومها طالبا بالسنة الثالثة فى كلية الحقوق أن يترك كليته ويعمل كاتبا فى إحدى المحاكم، وطلب من كشك أن يجتهد ويعمل مؤذنا فى أحد المساجد مقابل ثلاثة جنيهات، واختار للشقيق الثالث وكان طالبا فى المدرسة الثانوية أن يعمل فى محل البقالة الذى تركه والدهم، وكان المحل يومها خاويا على عروشه، ليس به ما يسد رمق أهله.. أما الشقيق الأخير والأصغر سنا، فقد اقترح عليه الخال أن يلتحق بإحدى الصناعات ليتعلم ويأكل لقمة عيشه من يده.. وكأن الخال الذى بدد ميراث أمهم يريد أن يبدد مستقبلهم أيضا.

الإنقاذ جاء لكشك ومستقبله من شقيقه الأكبر.

أشار عليه أن يلتحق بمعهد القاهرة الدينى ليواصل مسيرة التعليم بالأزهر، وهو ما جرى فى أكتوبر ١٩٥٢، اصطحبه شقيقه إلى مدينة دمنهور ومنها إلى القاهرة، التى سكن بها فى غرفة صغيرة كان شقيقه الأكبر قد استأجرها ليقيم فيها أثناء دراسته بكلية الحقوق.

فى المعهد الأزهرى بالقاهرة عانى كشك كثيرا، ويكفى هذا المشهد لتعرف المأساة التى عاشها حتى أنهى دراسته.

لن أتدخل بينه وبين معاناته، سأتركه هو يحكيها.

يقول: كانت الغرفة التى أقطنها أنا وشقيقى فى حى شبين بدير الملاك، وكان المعهد الذى أقصده بحى الدراسة بالقرب من الأزهر، وكان ذلك يمثل عبئا ثقيلا على نفسى، ويكلف أخى الكثير من وقته وجهده، فكنا نركب من دير الملاك وننزل بالعتبة، ثم نقطع شارع الأزهر والسير فيه صعب لازدحامه وطوله، كنا نقطعه مشيا على الأقدام، فأصل إلى قاعة الدرس وقد بلغ الإعياء منى مبلغه عندما أجمع أنفاسى المبعثرة، ثم يأخذ أخى طريقه إلى كلية الحقوق بجامعة عين شمس، على أن يعود إلىّ بالمعهد ليصحبنى إلى المسكن، وكثيرا ما كنت أنتظره طويلا حيث كان مرتبطا بمواعيد الدراسة، وكم كان يحز فى نفسى أن ينصرف الطلاب فرحين بانقضاء يوم ملىء بالعلوم، فرحين لأنهم ذاهبون إلى مساكنهم ليأخذوا نصيبهم من الراحة، وأقف أنا وحدى تمر علىّ اللحظات كأنها سلسلة من الجبال، وتساورنى الظنون، وتشد الأوهام أذنى: لماذا تأخر أخى؟، وهكذا إلى أن يقطع هذا السكون الرهيب صوت أخى يلقى علىّ السلام، فينزل سلامه على قلبى كما تنزل قطرات الندى على الزهرة الظمأى فنزرع الطريق إيابا.

الفقر كان غالبا.. أراد كشك وأخوه أن يجمعا شتات الأسرة، وبالفعل جاءت الأم والإخوة إلى القاهرة، باعوا محل والدهم، لكن سرعان ما تبخرت قيمته القليلة، ويحكى كشك موقفا كان له أثر بالغ فى تأكيد المعاناة التى عاشها.. وهى معاناة تضاعفت عليه، فأسرته كانت رهينة الفقر، أما هو فقد كان رهين المحبسين الفقر والعمى.

يقول: ذهب أخى إلى أحد أقاربنا، وكان يملك المال الكثير، كان يملك ثمانين فدانا من الأرض الجيدة، وما إن علم ذلك الثرى بمقدم أخى حتى ولى هاربا، فكلم أخى زوجة ذلك الثرى، وكانت على صلة قرابة بنا، وأنه جاء ليقترض ثلاثين جنيها، ويضع أوراق بيتهم فى البلد تحت يدى زوجها ليكون فى ذلك استيثاق برد الدين، ولكن جاء ذلك الكلام كله دون جدوى، وعاد أخى إلى القاهرة والحزن يعتصره، فقد عاد بخفى حنين، وباتت الأسرة كئيبة كثيفة البال، فبعنا بعض ما تبقى من الأثاث، ولم نجد بدا من أن نبيع البيت الذى ورثناه عن أبينا وعرضناه للبيع، وكانت المأساة بل الملهاة فى موقف الناس منا، إذا عُرض ثمنٌ مشرفٌ همس أهل الشر فى آذان المشترين بأنه لا يساوى هذ الثمن، حتى بعناه بيع المضطر بثمن بخس دراهم معدودة.

أين المنبر من كل ذلك؟

الشيخ الآن فى السنة الثالثة من القسم الثانوى.

على ما يقوله هو جرى له تحول فى حياته، فقد أشار عليه أحد الأصدقاء اسمه عبدالعزيز ندا، أن يلتحقا سويا بالجمعية الشرعية ليقوما بخطبة الجمعة فى مساجدها، وجدت الفكرة صدى فى نفس كشك.

سأل: هل لذلك من شروط؟

أجاب أحد العالمين بالجمعية الشرعية: حفظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية والقدرة على الخطابة.

كتب كشك طلب الالتحاق بالجمعية، وتم تحديد موعد للاختبار، وكانت اللجنة مكونة من عضوين من علماء الجمعية.

سأله أحد الشيخين: هل سبق لك أن خطبت الجمعة؟، قال: نعم فى مسجد بلدتى.

عاود السؤال: كم كان سنك يومها؟، قال: ستة عشر عاما.

قال له الشيخ: تصور نفسك على المنبر وقد اجتمع المسلمون لصلاة الجمعة وقمت فيهم خطيبا، فماذا عساك أن تقول؟

حمد كشك الله وأثنى عليه، ونطق بالشهادتين، وانطلق فى الحديث، وكان موضوع الخطبة دعوة المسلمين إلى وحدة الصف والهدف والأخوة فى الله.

رسم كشك صورة لما يمكن أن يفعله فى مستمعيه مبكرا جدا.

يقول: وأنا ألقى خطبة الاختبار أمام العالمين الجليلين، ما زلت أذكرهما وهما يبكيان بقلب مفعم بالخشوع والخشية أثناء سماعهما الخطبة مما جعل مفتى الجمعية يأخذ بيدى إلى السكرتير ويقول له: أعطه أكبر المساجد ليقوم فيه بخطبة الجمعة.

كانت هذه هى البداية التى تلتها بدايات كثيرة.

ظل الشيخ كشك بعد هذا اليوم ولمدة ثمانى سنوات – أنهى خلالها دراسته الجامعية فى كلية أصول الدين بالأزهر - يتنقل من مسجد إلى مسجد ومن حى إلى حى داخل القاهرة وخارجها من المحافظات، وكان عمله – كما يرى هو – بتلك المحافظات بمثابة التمحيص والإعداد الجيد للمهمة التى نذر نفسه من أجلها، فقد عاشر الناس وخبرهم وشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وزارهم فى بيوتهم وزاروه فى بيته.

هل لنا أن نتوقف هنا وقفات سريعة وعابرة لا تضر سياقنا العام فى شىء؟

أعتقد أن هذا مهم الآن.

أولا: هناك فارق مهم جدا بين كشك وعدوية، يقف وراءه المجال الذى يعمل فيه كل منهما، ففى حديث الشيخ عن حياته لم يتردد لحظة فى الحديث عن فقره ومعاناته ومآسيه، وهو الحديث الذى ظل ملازما له طوال حياته، لم يتبرأ منه ولم ينكره، ولم يضق صدره بمن تحدث عن حاله وماله وبيته.. أما عدوية فقد تحدث قليلا عن معاناته، وهو حديث أراد منه التأكيد على أنه عصامى، عمل بذراعه حتى وصل إلى المجد، لكنه كان ينكر أن يتحدث الآخرون عن هذا الفقر، بل كان يتدخل ويصحح، فلم يكن يرحب بحديث الآخرين عن معاناته، لأنه كان قد قرر أن يتحدث هو، فيقول ما يريده هو، ويحجب ما يشاؤه هو.

قد ترى فى الشيخ كشك فضيلة فى هذا الأمر.

وقد ترى فى عدوية نقيصة.

لكن الإنصاف يقول إنه لا فضيلة للشيخ، ولا نقيصة فى المطرب، فكل منهما كان يبيع بضاعته، التى تعود عليه بالخير دون أن يشعر بأن هناك شيئا ينقصه أو يخجل منه، فالفقر يقرب الناس من الشيخ الواعظ، لأنه بكلامه عن حاجته وفقره، يكون متسقا مع نفسه، ومع ما يدعو إليه، أما المطرب فهو يعرف أن متابعيه لن يسعدهم كثيرا حديثه عن فقره، إنهم يحلمون بأن يعيشوا مثله، يصلوا إلى ما وصل إليه.. ولذلك فعليه أن يقدم لهم مثلا.. والفقر لا يمكن أن يكون مثلا أبدا.

ثانيا: اكتمال الصورة للواعظ عند نفسه وعند الناس جعل كشك يكتفى فى سرده لبداياته فى الخطابة بتوثيق ما جرى، فهو يرى أنه أسطورة فى حد ذاته، يكفى أن يقول فيصدقه الناس.

لكن من كتبوا قصته بعد وفاته، حاولوا أن يجعلوا منه بطلا من اللحظة الأولى التى ركب فيها المنبر.

فى سيرته التى يتداولها محبوه يمكن أن تقرأ الآتى: عين عبدالحميد كشك معيدا بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة عام ١٩٥٧، ولكنه لم يقم بإعطاء إلا محاضرة واحدة للطلاب، بعدها رغب عن مهنة التدريس فى الجامعة، حيث كانت روحه معلقة بالمنابر، التى كان يرتقيها منذ الثانية عشرة من عمره، ولا ينسى تلك الخطبة التى ارتقى فيها منبر المسجد فى قريته فى هذه السن الصغيرة عندما تغيب خطيب المسجد، وكيف كان شجاعا فوق مستوى عمره الصغير، وكيف طالب بالمساواة والتراحم بين الناس، بل كيف طالب بالدواء والكساء لكل أبناء القرى، الأمر الذى أثار انتباه الناس إليه والتفافهم حوله.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل