المحتوى الرئيسى

الضابط الحر

05/19 08:42

قامت ثورة 23 يوليو عام 1952 بمجموعة من ضباط الجيش بقيادة الصاغ جمال عبدالناصر والتى أطلقت على نفسها لقب الضباط الأحرار وكان من بينهم خالد محيى الدين الذى مات أخيرا عن عمر يناهز الستة والتسعين عاما، وقد نعته رئاسة الجمهورية كما لم تنعِ أحدا من قبل سوى عبدالناصر بالقول «إن مصر ستبقى ممتنة لإسهامات الفقيد الوطنية ومسيرته الخالدة التى ستظل محفورة فى ذاكرة العمل السياسى المصرى بكل تقدير واحترام من الجميع»، ولقد بدأ اسم خالد محيى الدين يلمع مع الضباط الأحرار كرئيس لسلاح الفرسان بعد نجاح الثورة وطرد الملك فاروق الذى رفض أن يطلق حرسه الخاص فى قصر المنتزه والذى كان يقيم فيه فى الصيف أى طلقة نارية قائلا «إنه يرفض وقوع حرب أهلية أو انقسام فى الجيش المصرى» وتنازل عن عرش مصر لابنه الرضيع أحمد فؤاد ثم ترك مصر إلى إيطاليا ومات هناك.

الحقيقة أنه بعد مرور كل هذه السنوات اكتشف رجل الشارع المصرى أن الضابط الوحيد الذى يمكن أن يطلق عليه «الضابط الحر» هو خالد محيى الدين، فقد كانت معظم الشعوب العربية تنظر إلى خالد محيى الدين كأحد أنقياء العرب مدنيين كانوا أو عسكريين، فقد ظل منفردا متمسكا بمبادئ وأهداف الثورة كاملة، ووحده الذى ظل يردد أن الابتعاد عن الديمقراطية سوف يدمر الثورة، ولقد كانت مبادئ الثورة الستة على ما أتذكر:

القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الاحتكار، القضاء على الاقطاع ورأس المال، إقامة دولة مدنية حديثة، بناء جيش وطنى قوى. بناء ديمقراطية سليمة. ولقد كان وقع هذه المبادئ الستة على الشعب المصرى مذهلا فأيدوا الثورة بكل قلوبهم وقواهم إلا أن الصراع الذى قام بين عبدالناصر قائد تنظيم الضباط الأحرار ومحمد نجيب أول رئيس لمصر والذى لم يكن من الضباط الأحرار لكنهم استعانوا به كواجهة مقبولة من الشعب لأنه كان أكبر سنا منهم ثم إنه نجح باكتساح فى انتخابات نادى الضباط، وأراد محمد نجيب أن يعيد الجيش إلى ثكناته لحماية الثورة على أن تقام انتخابات بين مدنيين لكن الضباط الأحرار رفضوا ولم يعضد نجيب سوى خالد محيى الدين فما كان من عبدالناصر إلا أن قام بعزل نجيب من منصبه، وهكذا خرجت تظاهرات ضخمة تؤيد محمد نجيب وقيل إن الإخوان المسلمين هم الذين حشدوا لهذه المظاهرات فأعاده عبدالناصر للسلطة انتظارا لفرصة أخرى والتى جاءت عام 1954 وتم عزله واعتقاله. ولقد أطلق الإعلام العربى على خالد محيى الدين لقب «اليسارى الأخلاقى». بلا شك كان عبدالناصر من أنقى هؤلاء الضباط أخلاقا وكان مع ثروت عكاشة من أكثرهم ثقافة مدركا لاحتياجات المرحلة إلا أنه كان عنيفا فى مواجهة أعدائه. وعندما بدأت الاختلافات بين الضباط الأحرار تستشرى، قام خالد محيى الدين بتقديم استقالته بسبب رفض طلبه عودة الجيش إلى ثكناته وتطبيق الديمقراطية وهنا تفرق الضباط الأحرار شيئا فشيئا بسبب انفراد عبدالناصر بالسلطة فمنهم من قبل منصب دبلوماسى خارج البلاد مثل خالد محيى الدين ومنهم من تم التنكيل به. والذى بقى منهم أبعده السادات فى ضربة ما أطلق عليه «مراكز القوى»، وهكذا ظل خالد محيى الدين منفردا مع مبادئه و «أهداف الثورة». ابتعد عن كرة النار وقدم نفسه إلى الشعب المصرى كمدافع عن الإنسان العادى وقضاياه تمسك بيساريته، وعندما عاد إلى مصر أوحى للنظام أنه لا يريد لنفسه شيئا، ولا يريد أن ينافس أحدا وهكذا ظل بذكائه وطيبة قلبه ومهارته فى السياسة بعيدا عن الشبهات، تجنب اختلاف أجنحة الضباط الأحرار وتجنب مراكز القوى فى جميع العهود. فى ذات الوقت لم يتردد فى الإعراب عن وطنيته ومحبته لتراب مصر.

أثار خالد محيى الدين جدلا لم يزل مستمرا حتى اليوم بسبب ما ذكره فى مذكراته الشخصية «والآن أتكلم» والذى صدر عام 1992 عن انضمامه قبل الثورة مع جمال عبدالناصر إلى التنظيم السرى للإخوان المسلمين بترتيب من حسن البنا مؤسس الجماعة المعروف وقد أكد على أنه وجمال عبدالناصر أقسما على مصحف ومسدس يمين الطاعة للمرشد وأعلنا له البيعة التامة الكاملة والشاملة، وقد ذكر وحيد حامد المؤلف المبدع هذا الحدث فى كتاباته لمسلسل الجماعة إلا أن باقى الضباط الأحرار الذين بقوا كذبوا هذه الواقعة بشدة. ربما يبرز سؤال فى ذهنك ــ عزيزى القارئ ــ لماذا ذكرت أن محيى الدين هو الضابط الوحيد الذى بقى حرا؟ وماذا عن عبدالناصر؟ والحقيقة إن جمال عبدالناصر كان حرا فعلا أمينا على أموال الدولة، صادقا مع نفسه والناس وطنيا حقيقيا مخلصا صاحب مشروع كمحمد على «تحديث مصر» منحازا للفقراء إلا أن هناك ما ذكره خالد محيى وكان صادقا فيه لأنه كان واقعيا وجميعنا كنا نعلمه، وذلك عندما وصف المشير عبدالحكيم عامر قائد القوات المسلحة المصرية بأنه رجل طيب القلب محب للحياة يطيل السهر ويكره أن يستيقظ مبكرا، وأردف لذلك لم يكن يجب أن يكون على رأس قيادة القوات المسلحة. وهو ذات ما قاله عبدالناصر بالحرف لمحمد حسنين هيكل بعد وقوع كارثة 1967. ويذكر خالد محيى الدين هذه الواقعة فى مذكراته إن عبدالناصر كان يدرك طبيعة شخصية عامر تجاه السهر والصداقات لكنه كان يريده قائدا للجيش صديقا وفيا مخلصا يثق به ويحميه من المؤامرات والانقلابات. من هنا رأيت أن عبدالناصر لم يكن ضابطا حرا لأنه وضع مصير مصر فى يد شخص مثل عامر حتى لا ينقلب الجيش عليه. عندما وضع عبدالناصر كل من عارضه فى السجون كنت وغيرى من جيلى نؤيده لأننا كنا نرى فيه الأمل لمصر، وعندما وقعت هزيمة 1967 وخرج ليتنحى عن السلطة بكينا وخرجنا مع جموع المصريين فى مظاهرات حتى استعدناه وسعدنا أننا فعلنا ذلك لأننا كنا نثق فى أمانته ووطنيته وأنه رجل حر، لكننا اكتشفنا أنه كان أسيرا للسلطة وشهوة الحكم، وهكذا وقع انفصال سورية عام 1961عن مصر وهزيمة الجيش فى اليمن عام 1962، والنتيجة الحتمية لكل ذلك أن استولت إسرائيل على أرض مصر (شبه جزيرة سيناء) وقطاع غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية لنهر الأردن عام 1967من هنا فقط اكتشف الشعب المصرى أن زعيمه كان أسيرا للسلطة ولم يكن حرا بأى معنى من المعانى. أما السادات صاحب الرؤية المستقبلية الثاقبة فلم يكن أيضا حرا لأنه فضل البقاء بجوار عبدالناصر كشخص غير واضح المعالم لا مواقف جادة تجاه ما يرفضه ولا ترحيب مبرر لما يقبله، لقد كان داهية سياسيا على حساب الصدق والحقيقة والمواجهة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل