المحتوى الرئيسى

المجزرة والكلب

05/18 03:31

قتلتْ إسرائيل الاثنين الماضى 58 متظاهرًا من الفلسطينيين العُزّل، وأصابت 2500 آخرين على الأقل، بالرصاص الحى والغازات الدخانية، معظمهم من الشباب والأطفال. ارتكبت إسرائيل المذبحة فى حق الفلسطينيين المتظاهرين ضد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة. وهو القرار الذى اتخذته إدارة الرئيس ترامب، فى تحدٍ صريح لقرارات الأمم المتحدة التى تَعُدُّ القدس أرضًا واقعة تحت الاحتلال. وعقد البيت الأبيض مؤتمرًا صحفيًا فى اليوم نفسه، بشأن نقل السفارة الإسرائيلية. وفى سؤال عن المجزرة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين المسالمين، قال المتحدث باسم البيت الأبيض إن: «المسئولية عن الميتين تتحملها بصراحة حماس... انظر، هذه محاولة للبروباجندا، أعنى هذه محاولة بشعة سيئة الحظ لعمل بروباجندا،... وإسرائيل لها الحق فى الدفاع عن نفسها». وحول هذا التصريح الموجز يدور هذا المقال.

شهد القرن العشرون تطوير أشد الأسلحة فتكًا فى تاريخ البشرية، لا أعنى الأسلحة النووية والصواريخ وغيرها التى تفتك بالأجساد، بل أعنى بالأساس أسلحة التلاعب والكذب التى تفتك بالحقيقة. فقد أدركتْ قوى الاستعمار، التى تحكم العالم الآن، أن قصف العقول، وقتل الحقيقة، أهم بكثير من قصف القواعد العسكرية، وقتل الجنود. وحشدتْ كل طاقات التلاعب، والتزوير، والكذب، والادعاء؛ لتحقيق هذا الهدف. واستعملتْ كل السبل غير الأخلاقية، وغير الإنسانية؛ لتحقيق هذا الهدف، على نحو ما نرى فى تصريح البيت الأبيض الذى استعمل ثلاثة أسلحة لقتل الحقيقة، والتهرب من مسئولياتها.

أول هذه الأسلحة هو إخفاء المذبحة أصلا. فلم يشر البيت الأبيض إلى القتلى أو الجرحى الفلسطينيين، لم يذكر عددهم، ولا صفاتهم، ولا أعمارهم، لم يُشر إلى الأطفال والفتيات الذين اختلطت دماؤهم بالتراب. لم يصف المظاهرات السلمية التى قُتِلوا أثناءها، ولا الوقائع التى دفعتهم إلى التظاهر أساسًا. فى الحقيقة لم يشر إلى أى شىء بشأن المذبحة، بل إنه لم يستعمل حتى تسمية «قتلى» فى وصف الشهداء، واستعمل تسمية «ميتين»، وكأننا أمام موت طبيعى، قدرى، إلهى. وكأن الثمانية وخمسين شهيدًا فلسطينيًا ماتوا على أسرتهم فى بيوتهم، ولم يُقتلوا فى عرض الطريق بوسائل قتل وحشية، صورتها كاميرات العالم. بالطبع يدرك أساتذة قتل الحقيقة، أن لكل كلمة معانى متضمنة فيها، وأن استعمال كلمة «موتى» سيؤدى وظيفة أخرى هى إخفاء الفاعل. فيموت السؤال عن القاتل الفعلى، لكن المتحدث باسم البيت الأبيض قرر أن يستعمل سلاحًا آخر من أسلحة قتل الحقيقة هو اتهام الفلسطينيين بأنهم هم من قتلوا أنفسهم.

استعملتْ كثيرٌ من وسائل الإعلام الغربى سلاح «اتهام الضحية» فى تعاملها مع القضية الفلسطينية. فكلما ارتكبتْ إسرائيل مجزرة فى حق الفلسطينيين سارع أساتذة التلاعب بالرأى العام الغربى إلى قلب الحقيقة، ولوم الضحية، وتقديم الجانى بمظهر الضحية، والضحية بمظهر الجانى. وهذا هو نفسه ما نراه فى تصريح البيت الأبيض، الذى حمّل الفلسطينيين المسئولية عن المذبحة.

يهدف لوم الضحية إلى إخفاء الأسباب الحقيقية وراء المجزرة، والتمويه على القاتل، وسلب المقتول حق المطالبة بالعدل، بل حق الشكوى. وبذلك يُدان القتيل، ويبرّأ القاتل، وتُخفى حقيقة أن أمريكا نفسها شريك فى المجزرة. فهى التى خلقتْ الظروف المفجرة لها، حين انتهكت القوانين الدولية ونقلت سفارتها إلى بلد محتل، وقدمتْ حمايتها غير المشروطة لإسرائيل ضد مساعى المجتمع الدولى لحماية الأبرياء العزل، أو القيام بتحقيق محايد فى الأحداث. فلو علمتْ إسرائيل أنها ستخضع لتحقيقات عادلة، أو مساءلة دولية نزيهة، لما أقدمتْ على ارتكاب مذبحتها. لكنها تعلم أن أمريكا ستحميها من المساءلة القانونية، وستستخدم حق الفيتو لعرقلة أى خطوة نحو العدالة، وهو ما حدث بالفعل.

يعرف عصرنا الراهن مفارقة ملفتة، فعلى الرغم من تعدد وسائل الإعلام، وتنوعها، يتزايد إحكام قبضة الدول وجماعات الضغط، وأصحاب المصالح على تداول المعلومات فى العالم. وتتيح هذه المفارقة إخفاء الواقع، وقلب الحقائق، وخلق عالم مزيف، على نحو ما رأينا فى حالة مذبحة نقل السفارة الأمريكية. لكن هذا الإخفاء قد يواجهه بعض النقد، لذا يلجأ أساتذة التلاعب بعقول البشر إلى سلاح آخر، أكثر دهاءً وأقل صفاقة، هو سلاح التبرير.

اختتم البيت الأبيض تعليقه على مذبحة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بعبارة إن (إسرائيل لها حق الدفاع عن نفسها). لم يذكر المتحدث الدفاع عن نفسها ضد ماذا أو فى مواجهة مَنْ، تاركًا العبارة عامة مبهمة. ولا شك فى أن كل إنسان، وكل دولة لها حق الدفاع عن نفسه. فهذا حق إنسانى وقانونى أساسى. لكن ما علاقة هذه العبارة بقتل متظاهرين سلميين، فى بلد واقع تحت الاحتلال؟ لا يمكن لأى متابع للأحداث أن يجد لهذه العبارة صلة بما يحدث. فالفلسطينيون العزل هم ضحايا القصف الجوى، والقنص بالرصاص الحى. هم من يدافعون عن أرضهم المحتلة، باعتراف القوانين الدولية، ضد اغتصاب مدعوم بالسلاح. فلماذا إذن قيلت هذه العبارة؟ الإجابة بالطبع واضحة، وهى محاولة تبرير جريمة ضد الإنسانية بواسطة مبدأ إنسانى. المبدأ هو الحق فى الدفاع عن النفس، والجريمة هى قتل المدنيين العُزل الواقعين تحت الاحتلال، ووسيلة التبرير هى إرباك العقول، والخلط بين الأمور، بواسطة عبارات عامة مبهمة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل