المحتوى الرئيسى

الربط بين حوادث القتل الجماعي والمرض النفسي "مجرد خيال"

05/16 18:43

هذه روابط خارجية وستفتح في نافذة جديدة

يصف البعض دائما مرتكبي جرائم القتل الجماعي بأنهم مرضى نفسيون بالضرورة، ويحتاجون لعلاج، بينما تشير دراسات إلى أن ذلك ليس صحيحا.

في رواية "البريق" (ذا شاينينغ)، للروائي الأمريكي ستيفن كينغ، جسد جاك تورانس صورة متواترة في أفلام الرعب للقاتل الذي فقد صوابه ولم يعد يفرّق بين الواقع والهلاوس.

وترصد الرواية انزلاق جاك تدريجيا إلى هاوية الجنون، إذ أصبحت الأرواح المتعطشة للدماء ملازمة له وأقنعته في النهاية بقتل زوجته وطفله، أو أن يموت وهو يحاول قتلهما.

قد يفسر البعض تدهور حالة جاك بأنه وقع فريسة لقوى غيبية شريرة كانت تسكن الفندق الشهير في القصة، لكن البعض الآخر قد يتوصل إلى تفسير مختلف، وهو أن جاك كان مريضا نفسيا، ربما مصاب بالفصام، وقد انقطعت صلته بالواقع تحت وطأة نوبة ذهان حادة.

لا شك أن رواية "البريق" من نسج خيال الكاتب، لكن عندما تثار قضية العنف والمرض النفسي، قد يجد الجمهور ووسائل الإعلام والساسة صعوبة في التمييز بين ما هو واقعي وما هو خيالي.

وتدل نتائج استطلاعات الرأي على أن غالبية البالغين في الولايات المتحدة يعتقدون أن المرضى النفسيين أكثر ميلا لارتكاب أعمال العنف مقارنة بالأصحاء.

وتترسخ هذه الفكرة في كل مرة يقع حادث قتل جماعي جديد، وتتعالى بعده الأصوات المطالبة بإصلاح قطاع الرعاية الصحية النفسية. لكن هل تؤيد الشواهد وجود علاقة بين مرتكبي القتل الجماعي وبين المرض النفسي؟ وهل المرض النفسي هو سبب مشكلة جرائم القتل الجماعي؟

إذا جاز لنا الاستدلال بعناوين الصحف المثيرة للمشاعر والآراء على مواقع التواصل الاجتماعي، فسنجد أن الخوف من ارتكاب المرضى النفسيين لأعمال العنف الوحشية أصبح أمرا شائعا.

يقول بول أبيلباوم، طبيب نفسي في كلية الأطباء والجراحين بجامعة كولومبيا: "إن فكرة فقدان القدرة على السيطرة على الأفكار أو السلوكيات مرعبة وغريبة، وتترجم إلى خوف من المرض النفسي، لا سيما في تجلياته الحادة".

ويضيف: "البشر بشكل عام ينزعون إلى الانتباه إلى الأشياء غير المألوفة في البيئة، ولهذا فإن أعمال العنف التي يرتكبها المرضى النفسيون ستجذب انتباهنا".

ويقول جيفري سوانسون، أستاذ الطب النفساني والعلوم السلوكية بكلية الطب بجامعة ديوك، إن الحوادث المأساوية غير المبررة، مثل حوادث القتل الجماعي، تثير تساؤلات وتستدعي إجابات، وحبذا لو كانت إجابات شافية.

ويضيف سوانسون: "نحن نريد أن نعيش حياة آمنة وأن يكون كل شيء متوقع ومنطقي. لذا، عندما تطرأ مشكلة يكون رد الفعل الطبيعي هو التماس مبرر بسيط لتفسير هذه الحوادث العشوائية، وفي هذه الحالة فإن الحل الجاهز الذي سيملأ هذا الفراغ هو المرض النفسي".

لكن هذا الاستنتاج الفوري والتلقائي، على حد قول سوانسون، قد يزيد من تعرّض المرضى النفسيين للنبذ، والكثير منهم يعاني الأمرّين بسبب مرضهم والتمييز ضدهم من نواحٍ عديدة، على رأسها فرص السكن والوظائف، والعلاقات العاطفية.

غير أن الدراسات أثبتت أن المرضى النفسيين أكثر عرضة للوقوع ضحايا لأعمال العنف من الأصحاء بثلاثة أضعاف.

ومع ذلك، فإننا لا ننكر أيضا أن منفذي بعض جرائم القتل الجماعي وغيرها من أعمال العنف الشنيعة كانوا مصابين بأمراض نفسية خطيرة.

ففي عام 1998، على سبيل المثال، قُتل شخصان كانا يمران بمحض الصدفة من شارع تشابل هيل بولاية نورث كارولينا، في حاث إطلاق نار نفذه وينديل ويليامسون، طالب بكلية الحقوق مصاب بالفصام البرانويدي (الاضطهادي)، بحسب تشخيص الأطباء، وادعى أنه كان يحاول إنقاذ العالم، وبرأ المحلفون ساحته لكونه مختلا عقليا.

ويقول سوانسون إن هذه الحالات تمثل نسبة محدودة من إجمالي حوادث القتل الجماعي، إذ كان القليل من منفذي هذه الحوادث يعانون من أمراض نفسية خطيرة، كالفصام والاضطراب الوجداني، والاضطرابات الذهانية بأنواعها.

وأشار تحليل لما يزيد على 60 حادثة قتل جماعي في أمريكا الشمالية عام 2004، على سبيل المثال، إلى أن ستة في المئة فقط من مرتكبي هذه الحوادث كانوا مصابين بالذهان وقت تنفيذها.

وانتهت دراسة أجريت في عام 2016 إلى أن حوادث القتل الجماعي التي ارتكبها مرضى نفسيون لا تمثل إلا أقل من واحد في المئة فقط من إجمالي حوادث القتل العمد باستخدام الأسلحة على مدار السنة.

وتشير دراسات أخرى إلى أن المصابين بالأمراض والاضطرابات النفسية لم يرتكبوا إلا ما يتراوح بين ثلاثة وخمسة في المئة من إجمالي حوادث العنف في الولايات المتحدة الأمريكية، (في حين أن المصابين بأمراض واضطرابات نفسية يشكلون ما يصل إلى 18 في المئة من إجمالي عدد البالغين الولايات المتحدة الأمريكية).

ويقول أبيلباوم: "هذا يعني أن نحو 96 في المئة من جرائم العنف غير مبررة، لو استطعنا أن نستبعد جميع المصابين باضطرابات نفسية".

وفوق ذلك، فإن أعمال العنف التي يرتكبها الكثير من المصابين بأمراض نفسية خطيرة قد لا تتعدى الاعتداء اللفظي أو الضرب، ولا تصل إلى سفك الدماء، وإن كان الانتحار يمثل إحدى المشكلات المتفشية بين المرضى النفسيين، وأغلب هذه الاعتداءات تكون موجهة لمن يعيشون معهم، وليس الغرباء، كما أنها تكون في شكل هجمات فردية وليست جماعية.

وتتطلب الهجمات الجماعية تخطيطا وتنظيما مسبقا، وهو ما يتنافى مع طبيعة الكثير من الأمراض النفسية الخطيرة. وخلُصت دراسة أجريت في عام 2014، على سبيل المثال، إلى أنه من بين 951 مريضا استكملوا علاجهم وخرجوا من مستشفى الأمراض النفسية، ارتكب اثنان في المئة منهم فقط أعمال عنف باستخدام الأسلحة، ولم يتهجم منهم على غرباء إلا ستة في المئة فقط.

واستعانت دراسة أُجريت في عام 2011 بالبيانات المجمعة من مجموعة دراسات سابقة تناولت ما يزيد على 700 جريمة قتل ارتكبها أشخاص مصابون بالذهان، وانتهت الدراسة إلى أن ما يتراوح بين 3 - 14 في المئة فقط من الضحايا كانوا غرباء عن الجناة، أما باقي الضحايا فكانوا من المحيطين بهم.

لكن سوانسون يقول إن المرض النفسي، حتى في هذه الحالات، لم يكن هو الدافع الوحيد وراء ارتكاب الجرائم، إذ ثمة عوامل أخرى قد تزيد من احتمالات ارتكاب أعمال العنف، كالتعرّض للاعتداء في الصغر، أو إدمان الكحول، أو تعاطي المخدرات.

ويضيف سوانسون: "لو استبعدنا جميع العوامل الإضافية التي تؤثر في نفسية المريض، سنجد أن المرض النفسي وحده لا يكاد يكون له علاقة بالعنف. وثمة إجماع بين الأطباء النفسيين على أن الاضطرابات النفسية بمفردها لا تزيد إلا بقدر ضئيل من احتمالات ارتكاب أعمال العنف".

إلا أن هذا الاستنتاج قد لا يرضي الكثيرين في أعقاب وقوع الحوادث المروعة. ويقول رينيه بايندر، أستاذ ومدير برنامج الطب النفسي والقانون بكلية الطب، جامعة كاليفورنيا بمدينة سان فرانسيسكو: "عندما تقع إحدى جرائم القتل الجماعي الوحشية، يقول الناس 'لا يرتكب هذه الجريمة الشنعاء إلا شخص مريض نفسيا'. لكن يجدر بنا أن نكون حذرين عند تعريف مرتكبي هذه الجرائم، فمن الواضح أنهم يعانون من مشاكل أو اضطرابات، لكنهم في أكثر الحالات، غير مصابين بأمراض نفسية خطيرة".

فضلا عن أن الربط بين المرض النفسي وأعمال العنف قد يشوش على الجدل الدائر في الولايات المتحدة بشأن وضع سياسات للحد من جرائم القتل الجماعي. فكلما تثار مسألة تقييد حيازة الأسلحة النارية، يتحدث البعض عن إصلاح نظام الرعاية الصحية النفسية في المقابل.

ويقول سوانسون: "انبرى تجار الأسلحة الذين يشكلون جماعة ضاغطة في الولايات المتحدة أو 'لوبي الأسلحة'، للمطالبة بتحسين الرعاية الصحية النفسية في أمريكا، مع العلم أن هذه الجماعة ذات سطوة كبيرة في البلاد، وبالطبع ستتأثر مصالحها لو فرضت قيود على بيع الأسلحة. إنهم يريدون فقط صرف أنظار الرأي العام عن الأسلحة".

وبينما قد يكون من الصعب الاستدلال على شخصية مرتكبي الجرائم وتشخيص حالتهم النفسية، لأنهم عادة ينتحرون أو يُقتلون أثناء تنفيذ الهجوم، فإن الأطباء والعلماء يقولون إن أكثر مرتكبي الجرائم من هذا النوع هم رجال غاضبون في سن الشباب يحاولون الانتقام من المجتمع الذي أساء معاملتهم.

والمشكلة أن هذا الوصف الذي أطلقه الأطباء قد ينسحب على عشرات الآلاف من الشباب، لكن الغالبية العظمى منهم لا يطلقون النار عشوائيا على الناس.

ويقول سوانسون: "إذا استطعنا أن نغير الصفات الذكورية، ربما نحد من أعمال العنف والجريمة، لكن لا يمكن أن تضع جميع الذكور في خانة واحدة".

ومن جهة أخرى، يقول سوانسون إنه من المستحيل الكشف عن السلوكيات والميول التي قد تجعل شخصا ما سفاحا، إذ أن بعض مرتكبي القتل الجماعي قد زاروا الأطباء النفسيين بسبب مشكلات سلوكية قبل تنفيذ الهجمات، ولم يرصد الأطباء أي علامات لمرض نفسي محدد.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل