المحتوى الرئيسى

كيف تشكل الحياة خلف القضبان شخصية السجناء؟

05/10 02:18

هذه روابط خارجية وستفتح في نافذة جديدة

يقول كريستيان جاريت إن الحياة خلف القضبان، إذا طالت مدتها وزادت قسوتها، قد تؤدي إلى تغيير شخصية السجناء على نحو تعيق إعادة إدماجهم في المجتمع بعد إطلاق سراحهم.

تخيل أنك حكم عليك بالعيش لسنوات في مكان لا تتاح لك فيه مساحة من الخصوصية، ولا تختار فيه الجليس ولا المأكل، ولا حتى الوجهة. تشعر أنك محاط بالمخاطر والشكوك، وقلما تجد من يترفق بك، أو يربت على كتفك. وتعيش معزولا عن أهلك وأصدقائك.

في هذا المناخ، لا يجد السجناء أمامهم خيارا سوى التغير والتكيف للتعامل مع ظروف الحياة داخل السجن، ولا سيما إن كانوا يقضون فترات عقوبة طويلة. إذ تشير الإحصاءات إلى أن 43 في المئة من السجناء في إنجلترا وويلز يقضون فترات عقوبة تزيد على أربعة سنوات.

وقد ذكر كريغ هاني، عالم النفس الاجتماعي (الذي شارك في تجربة سجون ستانفورد التي أثارت انتقادات واسعة بسبب أساليب التعذيب النفسي التي استخدمت فيها)، في أحد التقارير عن الأثر النفسي للاعتقال بتكليف من الحكومة الأمريكية: "تجربة السجن تغير السجناء كليا وتؤذيهم، ولا يسلم من أذاها إلا القليلون".

وأجرى باحثون من معهد علم الجريمة بجامعة كامبريدج حوارات مع مئات السجناء، وانتهوا إلى أن عقوبة السجن الطويلة "تغير شخصية السجناء إلى أبعد حد". وقال أحد نزلاء السجون في مقابلة أجريت معه في إطار بحث نشر في الثمانينيات: "لم أعد كما كنت"، بعد السنين الطويلة التي قضاها في السجون.

وكان علماء نفس الشخصية يعتقدون فيما مضى أن شخصياتنا لا تتغير إلى حد كبير في فترة البلوغ، ولكن بحثا أجري مؤخرا وتوصل إلي أن عادات تفكيرنا وسلوكياتنا وعواطفنا، بالرغم من بعض الثبات النسبي، تتغير بشكل كبير استجابة لمؤثرات خارجية، تماشيا مع الأدوار المختلفة التي نتخذها على مدار حياتنا.

ولهذا فإن الحياة في بيئة السجن التي تحكمها ضوابط وقواعد مشددة ولكنها مليئة بالمخاطر الاجتماعية، ستؤدي حتما إلى تغيير شخصية السجين كليا.

وأثارت هذه التغيرات في شخصية السجين مخاوف جميع المعنيين بسلامة السجناء وإعادة تأهيل مرتكبي الجرائم المفرج عنهم، الذين رأوا أنها بقدر ما كانت تعينهم على التأقلم مع الأوضاع داخل السجن، قد تقف حائلا أمام إعادة إدماجهم في المجتمع بعد إطلاق سراحهم.

وهناك بعض السمات الأساسية لبيئة السجن التي من المرجح أن تؤدي إلى تغيير الشخصية، على رأسها، مصادرة حق السجناء في اتخاذ القرارات، وانعدام الخصوصية، والوصم اليومي، والخوف المتكرر، والتظاهر دائما بالبأس والقوة وجمود المشاعر (حتى لا يستغل الأخرون ضعفهم)، والالتزام اليومي بقواعد وواجبات يومية رتيبة وصارمة فرضت عليهم من الخارج.

التأقلم مع الحياة داخل السجن ثقافيا واجتماعيا

والغريب أنه لم يستعن سوى القليل من الأبحاث بنموذج العوامل الخمسة الكبرى للشخصية لقياس مدى تأثير هذه السمات الراسخة في بيئة السجن على شخصيات السجناء، رغم أنه يستخدم في معظم الأبحاث الحديثة التي تجرى على المجتمعات خارج أسوار السجون (استنادا إلى مقاييس السمات الأساسية للشخصية مثل الانبساطية ويقظة الضمير).

ويتفق الكثير من علماء النفس وعلماء الجريمة، على أن السجناء يتكيفون تدريجيا مع البيئة خلف القضبان، فيما يسمى بعملية التأقلم مع الحياة داخل السجن اجتماعيا وثقافيا. وهذا يسهم في نشوء "متلازمة ما بعد الحبس"، وهي مجموعة من الأعراض التي تظهر على المفرج عنهم.

وهذا يتطابق مع نتائج مقابلات أجريت مع 25 سجينا صدر بحقهم حكم بالسجن مدى الحياة في ولاية بوستن، بينهم سيدتان، وكانوا قد أمضوا في المتوسط 19 عاما في السجن.

وبتحليل ردود السجناء، توصلت عالمة النفس ماريك ليما وعالم الجريمة مارتن كونست، إلى أن هؤلاء السجناء قد اكتسبوا "سمات شخصية جديدة تتماشى مع متطلبات البيئة القمعية في المؤسسات الإصلاحية"، منها على سبيل المثال، "تخوين الآخرين، وصعوبة إقامة علاقات، والتردد في اتخاذ القرارات".

وقال سجين سابق تجاوز الأربعين: "أتعامل الآن (خارج السجن) كما لو كنت لا أزال خلف القضبان، وأعني أنني بشر ولست آلة، فلا يمكنك أن توقف شيئا ما بضغطة زر. فإذا واظبت على عادات معينة لوقت محدد، ستصبح جزءا منك".

وكانت السمة الشخصية الغالبة على هؤلاء السجناء وفقا لرواياتهم هي عدم القدرة على الثقة بالآخرين، وهو نوع من جنون الارتياب الدائم.

ويقول سجين آخر يبلغ من العمر الآن 52 عاما: "لا يمكنك أن تثق بأحد في السجن. وأعاني من مشكلة إساءة الظن، فأنا لا أثق في أحد على الإطلاق".

ورسمت سوزي هالي وزملاؤها بمعهد علم الجريمة صورة مماثلة لحال السجناء، بعد أن أجروا حوارات مع مئات السجناء في المملكة المتحدة. وكتب الباحثون في عام 2015: "الكثير من السجناء قالوا لنا إن تغيرات كبيرة طرأت على شخصياتهم، وفي بعض الأحيان تغيرت شخصياتهم كليا".

وذكر السجناء عملية "تبلد الحسّ"، وقالوا: "إن تجربة الحبس تقسّي القلب، وتعمّق مشاعر الفتور والجفاء حيال الأخرين"

وقال سجين آخر، مفسرا كيف يتعمد نزلاء السجن إخفاء مشاعرهم وكبتها: "مع الوقت تزاد المشاعر التي اكتسبتها رسوخا، فإذا أصبحت قاسي القلب منذ البداية ستزداد قساوة، وفتورا، وانزواء عن الأخرين".

وقال سجين آخر: "لم أعد أتعاطف مع أحد" على الإطلاق.

ووفقا لنموذج العوامل الخمسة الكبرى للشخصية، فهذا يعني حصولهم على درجات متدنية في العصابية، (وهذا يعني أنهم يتميزون بالثبات الانفعالي أو جمود المشاعر)، ودرجات منخفضة في الانبساطية والوداعة. وإيجازا فإن هذا التغير في الشخصية لن يساعدهم في العودة إلى المجتمع الخارجي.

وقد حذرت هالي وزملاؤها من أنه: "كلما طالت مدة الحبس، 'يتكيف' السجين، بأدق معاني الكلمة، مع مقتضيات الحياة في السجن الممتدة لفترة طويلة، ومن ثم يصبح أكثر تبلدا ولامبالاة وأشد انعزالا وتقوقعا، وربما تقل قدرته على الانسجام مع المجتمع بعد الإفراج عنه".

وبينما ركزت الدراسات التي تستند إلى الحوارات على السجناء المحكوم عليهم بعقوبات لسنوات طويلة، فإن ورقة بحثية نشرت في فبراير/ شباط 2018، أثبتت، عن طريق اختبارات نفسية وعصبية، أن فترة العقوبة القصيرة أيضا تترك بصمة على شخصية السجين.

وأجرى الباحثون بقيادة جيس مييرز بالجامعة الحرة بالعاصمة الهولندية أمستردام اختبارين، يفصل بينهما ثلاثة أشهر، على 37 سجينا وفي الاختبار الثاني لاحظ الباحثون ميلا إلى الاندفاع في اتخاذ القرارات وضعف القدرة على الانتباه.

وتدل هذه التغيرات المعرفية على تراجع درجاتهم في عامل يقظة الضمير، وهي إحدى السمات المربتطة بضبط النفس والتنظيم والطموح، وفقا لمقياس العوامل الخمسة الكبرى.

ويرى الباحثون أن التغيرات التي لاحظوها قد تكون نتيجة للبقاء في بيئة مجدبة وعديمة الإمكانات، لا يواجهون فيها تحديات معرفية ويعيشون مسلوبي الإرادة.

وذكر الباحثون في نهاية البحث: "هذه النتائج مهمة ومفيدة للمجتمع، لأن السجناء قد يصبحون بعد الخروج من السجن أقل استعدادا للعيش كمواطنين صالحين في المجتمع منهم قبل دخوله".

إلا أن ورقة بحثية أخرى توصلت إلى بعض النتائج المبشرة، وهي من الدراسات القلائل التي طبقت نموذج العوامل الخمسة الكبرى على التغيرات الشخصية للسجناء. إذ قارن الباحثون بين السمات الشخصية لمجموعة من النزلاء في سجون خاضعة للرقابة الأمنية المشددة في السويد، مع السمات الشخصية لمجموعات من غير النزلاء في السجون، بما فيهم طلاب جامعة وحراس السجن.

وتوصلوا إلى أن السجناء أحرزوا درجات أقل في الانبساطية والانفتاح على الخبرات والوداعة، ولكنهم أحرزوا درجات أعلى في يقظة الضمير، ولا سيما في التنظيم وضبط النفس.

واستبعد الباحثون، بقيادة جوهانا ماش-نو من جامعة كريستيانستاد أن يكون السجناء أدلوا بهذه الإجابات من باب تحسين صورتهم أمام الفريق الذي يطرح الأسئلة، لأن النتائج كانت سرية.

وفي المقابل، يرى الباحثون أن هذه النتائج تعكس أحد أشكال التأقلم الإيجابي مع الوضع في السجن، وذكروا في نهاية البحث أن: "البيئة في السجن تحكمها قواعد ومعايير صارمة، فضلا عن أن الخصوصية فيها محدودة، وتحتم هذه البيئة الالتزام بالنظام لتفادي العقاب الرسمي وردود الفعل السلبية من سائر النزلاء في الزنزانة".

وإجمالا، فإن يقظة الضمير، وما تنطوي عليه من تأنٍ وحرص، تساعد السجناء في الابتعاد عن المشاكل.

ربما تبدو هذه النتائج متناقضة مع البحث الهولندي، ولكن هذا البحث، رغم أنه أظهر أن السجناء الهولنديين أصبحوا أكثر ميلا للاندفاع وأقل قدرة على الانتباه، قد كشف عن تحسن قدرات السجناء على التخطيط المكاني، الذي ينعكس في المحافظة على الترتيب والنظام.

وربما يعود هذا التناقض إلى أن الدرجات المرتفعة التي أحزرها السجناء السويديون في مقياس يقظة الضمير قد تكون ظاهرة خاصة بنظام السجون في السويد دون سواه، لأن السجون السويدية أكثر اهتماما بالعلاج وإعادة التأهيل من السجون في البلدان الأخرى.

وأجريت دراستان مؤخرا اشترك فيهما السجناء في ألعاب مالية، تستخدم عادة لقياس التعاون والمجازفة والعقاب. وأظهرت الدراستان أن السجناء يتعاونون معا بمستويات معتادة أو ربما أعلى من المعتاد.

وهذه النتائج قد تؤثر على الجدل الدائر حول إندماج مرتكبي الجرائم في المجتمع. ويقول سيغجورن بيركلاند من الكلية النرويجية للاقتصاد، والذي شارك في إجراء إحدى الدراستين: "ثمة اعتقاد شائع أن الجناة والمجرمين أشخاص فاسدون ليس لديهم رغبة في الانخراط الإيجابي في المجتمع، وهذا التصور قد يتخذ ذريعة لتغليظ العقوبات بحق المدانين".

وانتهت الدراسة إلى أن "مرتكبي الجرائم قد لا يقلون استعدادا ورغبة في التعاون من أجل مصلحة الآخرين عن أي فرد عادي في المجتمع".

وبالرغم من قلة الأبحاث التي تتناول هذا الموضوع، تدل جميع الشواهد على أن التغيرات التي تطرأ على شخصيات السجناء داخل جدران السجون ربما تعيق إعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع.

ولعل هذه التغيرات لا مفر منها، نظرا لفقدان الخصوصية ومصادرة الحريات.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل