المحتوى الرئيسى

في عيد حصاده.. "دهب الفلاح مش جايب همه" (معايشة بالصور)

05/09 03:12

في السابعة صباحًا، انطلقت "رِضا" برفقة زوجها "محمد" ضمن عشرات من مزارعي القمح الذين شقوا طريقهم إلى الحقول وهم يدقون طبول الاستعداد لـ"حصاد القمح"، الذي بدأ موسمه مُبكرًا هذا العام عن المعتاد. استقبل الفلاحون الموسم بترقبٍ شديد لعدم تحديد سعر التوريد في بدايته، ولكن ذلك لم يمنعهم من الخروج بفرحة لحصد ما بذلوه من جهد على مدار ستة أشهر.

داخل الأراضي التي فرض القمح على خضرتها لونه الذهبي كانت رضا وزوجها يستعدون للحصاد ضمن الفلاحين الذين تشاركوا جميعًا بهجة جنى ثمار شقاهم. "هو اللي معيشنا، أكلنا وأكل ولادنا" تقولها رِضا، وهى تستقبل "الجرادل" التي ينقل فيها الأولاد القمح - من أمام ماكينة "الدَرس"- لجمعه في الأجولة التي يقومون بتخييطها وإغلاقها استعدادًا للتوريد.

"منعرفش غير إننا نزرعه ونحصده، والعِمالة بقت غالية لو مكناش هنحصد بنفسنا هنتدين عشان نلم الزرع من الأرض" بتلك الكلمات القليلة فسرت رِضا سبب نزولها للعمل مع زوجها، فقبل حوالي 5 سنوات لم تكن السيدة الثلاثينية تفارق البيت والأبناء إلا أن ارتفاع الأسعار وزيادة أجرة العمالة الموسمية التي تقوم بالعمل في مواسم الحصاد؛ دفعها لمعاونة زوجها في محاولة منهما لتقليل النفقات.

حوالي 10 عمال، يتم استئجار كُل منهم بمبلغ يتراوح بين الـ100 والـ150 جنيها؛ ذلك هو إجمالي العدد المطلوب لحصاد الأرض التي يمتلكها محمد زوج رضا، والتي تؤكد بدورها أن لكل مرحلة من مراحل الزراعة والحصاد سٍعر مختلف للعمالة "حرث الأرض وتخطيطها له سعر غير الحصاد، أو الدَرس.. الموضوع هيقف علينا بخسارة في الآخر لو مشتغلناش بإيدينا عشان نقلل عدد العمال".

ويمر محصول القمح بالعديد من المراحل بداية من زراعته وحتى حصاده، أولها حرث الأرض وتخطيطها، وتستلزم تلك المرحلة استئجار آلة الحرث، وتبلغ تكلفة تأجيرها في الساعة الواحدة 150 جنيها، ويحتاج تشغيل تلك الآلة لعاملين يتم تأجير كل منهم بـ100 جنيه"، بحسب رضا وزوجها. أما المرحلة الثانية فهى "التخطيط"، ويقوم بها الفلاح وحده أو برفقة أطفاله وزوجته فيبذرون التقاوي، ويروون الأرض وفق مواقيت لا يخالفونها.

"الحصيدة" هي المرحلة الثالثة التي يمر بها القمح بعد نموه واكتمال سنابله، حيث يقوم مُلاك الأراضي باستئجار العمالة الموسمية التي تجمع سنابل القمح - بعد حصدها بآلة حادة تسمى (الشرشرة) - في مجموعات يتم ربط كُل مجموعة منها بالخيوط الغليظة لتترك على الأرض مدة عشرة أيام حتى تنشف تمامًا وتذهب عنها النضارة التي يحل محلها صلابة تنذر بوجوب "الدَرس".

والدرس هو المرحلة الرابعة والأخيرة في حصاد القمح حيث يتم استئجار ماكينة خاصة به تبلغ تكلفة إيجارها 150 جنيها في الساعة الواحدة. توضع في تلك الماكينة حزم القمح واحدة تلو الأخرى، لتخرج من الجانب الآخر حبوبًا يتم تعبئتها في الأجولة.

إلى جوار رضا، وقف "أحمد" الثلاثيني، أحد زارعي القمح، يساعدها في خياطة وإغلاق الأجولة وهو يتباهى بجودة المحصول الذي يمرر أصابعه على حباته بفخر وهو يردد "مفيش قمح زي القمح المصري، المحصول ده ميطلعش غير من أرض عفية زى أرضنا".

غلاء أسعار المستلزمات الزراعية، تأجير الماكينات، وارتفاع أجرة العمالة الموسمية؛ كُلها أسباب أدت إلى ضيق رزق "أحمد" وأسرته، فأخذ يبحث عن وظيفة بشهادته: "اتعلمت وخدت ليسانس دراسات إسلامية، بس معرفتش ألاقي أي وظيفة، ورجعت لأصلي وأرضي أفلحها، لكن الموضوع مبقاش جايب همه وأوقات ما بنلاقيش ناكل".

ورغم أن الشاب (الثلاثيني) لا يدفع ثمنًا لاستئجار الأراضي كالكثير من المزارعين، إلا أنه يظل يعاني من قلة الدخل: "زمان كانت زراعة القمح بتكسب، دلوقتي مبقتش جايبه همها، ولو وردناه للحكومة مناخدش الفلوس إلا بعد خمس شهور، طب نأكل العيال منين؟!".

أسئلة عديدة تدور بذهن الشاب، منها ما يمنعه من بيع أرضه ومنها ما يدفعه إليه دفعًا، فامتلاكه لفدانين وزراعته للقمح ليسوا كافيين ليحيا "مستورًا" فهو يزرع أحدهما قمحًا، ويؤجر النصف الآخر بينما يزرع النصف المتبقي بعض الخضراوات التي تبيعها والدته في السوق أثناء موسم زراعة القمح ليقتات هو وأسرته بالكامل من عائد بيعها.

"عرضوا عليَّ يشتروا القيراط الواحد بـ250 ألف جنيه عشان يبنوا عليه، يعني الـ10 قراريط بـ2 مليون ونص" كان ذلك هو العرض الذي استهلك أيامًا من تفكير الشاب فنظيره يجب عليه التخلي عن زراعة القمح، والتنازل عن السعادة التي يلقاها وقت الحصاد، على أن توفر له ولأسرته تلك الأموال حياة مسقرة "أبويا كان دايمًا يقول الأرض عرض، والغَلة أمَلة.. مش قادر أبيع الأرض وأبطل أزرع قمح، بس مش لاقي أعيش أنا وعيالي ومش عارف الحل فين؟".

في منتصف اليوم، كانت ثياب الجميع قد غطاها تمامًا غبار قش القمح، وبدأ الإنهاك يصيبهم ويبطئ من عملهم، وينتظرون ساعة الراحة بفروغ الصبر، ليتناولوا مأكلهم ومشربهم ثم يعودون للعمل.

إلى جانب إحدى الأشجار جلس أحمد الثلاثيني ورفاقه، فيما أخدت رِضا تمدهم وزوجها "محمد" بالجبن والعيش وبعض الخضراوات. لم ترحمهم الشمس حتى حين استظلوا ليطلق أحمد ضحكة مدوية: "تروح فين الشمس من على قفا الفلاح يعني؟!"، بينما التقط أحد الجالسين منه طرف الحديث مُذكرًا إياه "زِمال بكرة عند أبومحمود".

والـ"زِمال" هي إحدى الطرق التي عمل الفلاحون على تطبيقها توفيرًا لنفقات العمالة الموسمية -كما يشرح أحمد - فيجمع الفلاحون بعضهم البعض ليحصدوا ويدرسوا بأرض أحدهم على أن يحصد ويدرس في أرضهم بالتناوب عقب تقسيم المواقيت "معندناش أي حلول تانية عشان نوفر قرشين ناكل بيهم، يعني الواحد عشان يحصد ويدرس أرضه يعمل مقابلها 10 أيام شغال في حصيدة أرض جيرانه وحبايبه عشان يساعدوه".

انطلق آذان العصر مدويًا، ليرتفع عقبها صوت أحد الرجال "شدوا حيلكوا يا رجالة، كلها كام ساعة والشمس تغرب".بين هؤلاء، بجانب ماكينة درس القمح؛ وقف "محمد"، أحد أبناء زارعي القمح، وهو يناول الجالس على الماكينة أكوام الحصيدة التي ما إن تمر بفوهة تلك الماكينة حتى تنطلق من الجانب الآخر حبات ذهبية تسر الناظرين.

لم يكمل محمد عامه الثامن عشر بعد، وبرغم التحاقه بالجامعة هذا العام إلا أنه لا زال يصر على مساعده والده في حصاد القمح كُل عام حتى في وقت أدائه لامتحاناته السنوية "اتربينا من زراعة القمح ولحم كتافنا من خيره.. وأنا لو مساعدتش أبويا مين هيساعده في الغَلا ده!".

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل