المحتوى الرئيسى

شبراخيت.. مدينة العلماء والسحَرة و«البيضة والحجر»

04/22 10:02

ممر ضيق مملوء بالحفر والالتواءات، يشطر الزراعات نصفين، يضج بعربات قديمة ومتهالكة تعود صناعتها لعقود مضت، تنقل الأهالى بين القرى المختلفة، فى نهايته تستقر مدينة «شبراخيت» وقراها المنتشرة شرق محافظة البحيرة، هنا المدينة التى شهدت مولد الإمام المجدد محمد عبده، ومسقط رأس الإمام محمد الخراشى، أول شيخ للأزهر، وملتقى الدجالين والسحرة والمشعوذين، هنا سقطت دولتا العثمانيين والمماليك فى مصر، وانتصر نابليون بونابرت وحملته فى موقعة دارت رحاها على تلك الأرض، وهنا أيضاً قِبلة التائهين المعلقة قلوبهم بالعالم الآخر، والقدرات الخارقة لتنفيذ أحلامهم، هنا سقطت عن الكبار عباءة السلطة، حيث استقبلت تلك المدينة الفقيرة التى تضج بالأزمات، وزراء وأثرياء وشخصيات عامة ولاعبى كرة قدم، انحنوا أمام شيبة رجل عجوز يزعم امتلاكه لسر ذلك العالم الخفى.

«شبراخيت» الاسم الذى سطر فى كتب التاريخ ملتصقاً بمعركة حربية كبرى، ومولد عدد كبير من مشايخ الأزهر وعلمائه، ومسقط رأس إمام التجديد فى عصره، ذاع صيتها كمقر للاعبين «بالبيضة والحجر»، بعدما تحولت قبل عقود لمستقر لهم، وأصبحت قبلة لكل راغب فى حل أزمته ومشكلته بالطريق السهل عن طريق السحر والشعوذة.. «الوطن» زارت مدينة شبراخيت لترصد تاريخ انتشار السحر فى المدينة ومنبعه. وسط الزراعات منزل أنيق يليق باسم عمدة قرية «أبوالسحماء» التابعة لشبراخيت، وفى ساحة المنزل الكبيرة، التى افترشت بالكنب الإسطنبولى، يجلس الرجل العجوز ذو الجسد الضخم يستقبل ضيوفه، وأمامه كراسة يدون فيها حساباته البسيطة لأرضه وما يستجد من مطالب أهل القرية، المهندس أحمد ممدوح زقزوق، الذى ترك القاهرة وأتى ليجلس على كرسى والده وأجداده بعد وفاة شقيقه، لا يؤمن بالسحر وقدرته على حل كل أزمات البشر، ولا تستقيم له تلك السمعة التى أخذتها مدينة شبراخيت التابعة لها قريته الصغيرة.

مسقط رأس إمام التجديد محمد عبده وتوفيق الحكيم وأول شيوخ الأزهر.. وقبلة الدجالين والمشعوذين أيضاً

الرجل العجوز، الذى يجلس على كرسى العُمدية منذ عشر سنوات، يحاول استعادة ما تبقى من ذاكرته عمن كان مسقط رأسهم فى مدينته، ويحصى «زقزوق» على يده العلماء والمشايخ الذين خرجوا من شبراخيت بحماس مفرط، ويقول إن الإمام محمد عبده المجدد من شبراخيت، وليس وحده، الشيخ محمد الخراشى، أول شيخ للأزهر، من قرية أبوخراش التابعة لمركز ومدينة شبراخيت، والشيخ عبدالحميد كشك، والشيخ شلتوت والإمام الغزالى، وتوفيق الحكيم، بخلاف الكثير من العلماء الأفاضل.

يقول العمدة إن المدينة بها رابع أقدم معهد أزهرى على مستوى الجمهورية، معهد شبراخيت، بعد الجامع الأزهر بالقاهرة ثم الأحمدى بطنطا، ثم معهد دمنهور، ورابعهم من حيث تاريخ التأسيس يستقر فى شبراخيت.

«زقزوق» الذى عمل 30 عاماً خبيراً هندسياً فى إحدى المحاكم بالإسكندرية، قبل أن يجلس على كرسى العُمدية، ظل طيلة الحوار يقول إنه لا يقتنع بفاعلية السحرة، ويروى أنه وقع فى براثن «ساحرة» بلدياته، سيدة ذاع صيتها داخل القرية بأنها تشفى «المس الشيطانى».

العمدة «زقزوق»: أميّة الناس سبب انتشار الدجالين هنا.. ولو شاب هيتجوز لازم يروح لـ«شيخ من دول» يأكَّله ويديه فلوس لاحسن فرحه يبوظ

أحضرها العمدة لعلاج فتاة من عائلته بالإسكندرية، حيث رضخ لمطالبة أسرته وقناعتهم بجدوى السحر، ولم يجد مفراً من طلب تلك السيدة ليلتقيها ويقص عليها أزمة قريبته، كانت قناعة عائلته أنها مصابة بمس من جان، وبالفعل جاءت السيدة ولكنها خرت أمامه معترفة: «أنت العمدة أنا ماقدرش أضحك عليك ده أكل عيش وضحك على الدقون».

ولكن إيمان الناس فى قرى مدينة شبراخيت بذلك كان كبيراً، يلتصق بحياتهم اليومية، ولا يستقيم لهم أمر حسب قناعتهم دون رضاء الشيخ، فعلى سبيل المثال «لو شاب هيتجوز لازم يروح لشيخ من دول يأكَّله ويديه فلوس لاحسن فرحه يبوظ، حتى لا يفسد عليه فرحته وعرسه».. يروى العمدة «زقزوق».

يقطع حديث العمدة دخول شيخ بجبة وقفطان وكولة حمراء، حلة أزهرية أنيقة، يعرفه العمدة بأنه الشيخ شرنوبى عبدالجواد، شيخ المعهد الأزهرى بالقرية، يشارك العمدة الحديث، ويقول إن هناك بالفعل سحرة، خاصة فى القرى الفقيرة مثل «محلة بشر»، وإن هناك قناعة لدى الغرباء، خاصة المقبلين من القاهرة والقرى الأخرى، بجدوى السحر فى شبراخيت، مما حولها إلى مركز لاستقبال كل من لديه قناعة أن لاعبى البيضة والحجر بين أيديهم حل الأمور المعقدة.

يقول الشيخ الأزهرى إن السحرة بدأوا فى الظهور فى القرية التى تعدادها نحو 30 ألفاً، منذ ستينات القرن الماضى على يد شخص يدعى «أبوعيشة»، وهو أساس ظهور السحرة والمشعوذين فى شبراخيت، ومن بعده امتهن تلك الوظيفة طلابه ومريدوه، فى قرية محلة بشر، ورغم القبض عليه أكثر من مرة فى عهد «عبدالناصر» لكن لم يصدر بحقه أى حكم قضائى، ليخرج ويعاود العمل من جديد.

العصبية القبلية والعائلية تسيطر على الموقف.. كان هذا هو السبب الذى ساقه الشيخ الأزهرى لعدم وقوف العائلات وكبار قرية «محلة بشر» للدجالين والسحرة واقتلاعهم من المكان، ويقول إن أهل قرية محلة بشر ليس لديهم قناعة بهؤلاء السحرة، ولكن عائلات السحرة عائلات كبرى لا يستهان بها، ولا يمكن اقتلاعها بالكامل من القرية: «مين يقدر يطرد عائلة كبيرة من أرضها وأملاكها؟!»، مشيراً إلى أن تلك العائلات التى يقوم عملها على السحر شيدت بيوتاً كبرى أنيقة واشترت الكثير من الأراضى واتخذت من التجارة عملاً لها، بعدما جنوا الكثير من الأموال من أعمال السحر والدجل.

«محلة بشر»، اسم ظل يتردد كثيراً على ألسنة كل من قابلتهم «الوطن» فى شبراخيت، والتى وصفوها بـ«المنبع»، وسبب انتشار السحرة فى مدينتهم، إنها قرية لا تبعد عن المركز سوى كيلومترات معدودة.

أبراج الحمام تعلو فى الأفق، وسط شواشى النخل، تظهر قرية «محلة بشر»، التى لا يفصلها عن مركز شبراخيت سوى طريق ضيق يكفى بالكاد لعبور سيارة واحدة، كوبرى يمر من فوق المصرف الزراعى الذى يشطرها، مزين بالسيراميك بألوان علم مصر، تظهر القرية هادئة، بيوت فقيرة تطلع بينها بنايات أنيقة ضخمة، يتابع المارة الغرباء بنظرات متفحصة، يرمقونهم دون حديث فى توجس.

يوسف على ناصر، يعمل مدرساً، فى العقد الرابع من عمره، ابن عمة العمدة، يقول إن أول ساحر فى القرية كان الشيخ خليفة هيبة فى الثمانينات، وعرف عنه أنه أنهى سحراً لابنة الخديو عباس حلمى فأهداه آلاف الأفدنة، وهو نسيب الشيخ المشهور عبدالحميد كشك، تلك العلاقة من النسب كانت سبباً فى شهرة القرية بالسحر والسحرة، وخلال إحدى خطب الشيخ «كشك» عن السحر، ذكر على الملأ محلة بشر، ومن هنا بدأ انتشار سمعة «محلة بشر» أنهم «سحرة موسى»: «كانت شهرتها فى البداية لا تتعدى مركز شبراخيت.. ولكن من وقتها أصبحت مهنة وسمعة ويقبل عليها الجميع من جميع أنحاء الوطن العربى».

فى أحد الأزقة الضيقة وسط الزراعات يظهر منزل عمدة القرية، لا يختلف كثيراً عن عمدة قرية «أبوالسحماء»، ولكن كان الأمر مختلفاً، حيث بدا العمدة على عكس الصورة السائدة عن عمد الإقليم، بدا شاباً يافعاً، جلس على مقعد العمدية بعدما ورثها أباً عن جد، وعلق صور أسلافه فى العمدية على الحائط بالأبيض والأسود، يرتدى ملابس إفرنجية، ويجلس ينفث دخان سيجارته، حلمى ناصر، عمدة قرية محلة بشر، يعيش أزمة أن قريته الصغيرة تعيش أسيرة تلك السمعة، يقول إن القرية كان بها 12 ساحراً ودجالاً، ولكن الآن يعدون على أصابع اليد الواحدة، حسب قوله. العمدة الشاب، يتذكر جيداً حينما وقف والده لهؤلاء الدجالين وحاول اقتلاع تلك المهنة الخبيثة من بلدته، فأغلق القرية لمدة أسبوع كامل بالغفر والسلاح، ومنع دخول أى غرباء للقرية من المعلقة قلوبهم بأصحاب البيضة والحجر، ويصف «ناصر» الأمر بأنه كان أشبه بفرض حصار على الدجالين والمشعوذين، والذين كان يتوافد عليهم وزراء وأثرياء عرب وكبار رجال الدولة منذ عصر جمال عبدالناصر، كانوا يقبلون للتبرك بمشايخ السحر وحل أزماتهم على عتبات منازلهم، ولكن تلك السيارات وما بها من جاه وقف أمامها العمدة القوى، منع أى شخص من العبور إلى منازل الدجالين، ولكن كان الأمر لأجل مسمى، لم يستطع الاستمرار فى ذلك سوى أسبوع، ثم فك الحصار وعادت الأمور لما كانت عليه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل