المحتوى الرئيسى

آفة التفكير «الصفري»

04/22 05:55

من المنطقي والطبيعي ألا تكون مع الضربة الأمريكية، أو مع غيرها. ومن الطبيعي أن تشعر بالغضب لتحليق الطائرات، أو الصواريخ الأمريكية في سماء وطن عربي حبيب (حتى لو كان الروس قد سبقوا إلى ذلك مرارا وتكرارا) ولكن ألا تقف مما فعله ويفعله الأسد مع شعبه الموقف (القومي / الإنساني) ذاته، فهذا كيل بمكيالين. الإنسانية هي الإنسانية.. والمبادئ لا تتجزأ. 

أي «حرب» أو عدوان مدانٌ بلا شك. ولكن حرب الأنظمة السلطوية على شعوبها تستحق الإدانة أيضا. الحقائق لا تنفي بعضها.. بل (تتكامل)

لا جديد فيما كشفت عنه الأضواء التي لمعت في سماء دمشق في هذا الصباح المبكر الذي استيقظ فيه العالم قبل أسبوع على صوت صواريخ ترامب «الذكية» التي كان قد توعد بها الروس في تغريدة قرأها البعض في حينه إعلانا لحرب عالمية، في حين أدرك من يعرفون الرجل (الذي لا يطيق الحياة بلا صخب) أن لا شيء هناك. أو بالأحرى لا حرب هناك «وإن دقت طبولها عاليا».

أيا ما كان صفير الصواريخ «الذكية» يومها، أو دوي الطبول «الصاخبة» قبلها، فعلى الأرض لا جديد ذا دلالة: الروس باقون (بقواعدهم.. وطائراتهم)، والإيرانيون (برجالهم.. وعتادهم)، والأمريكيون يحتفظون بموطئ قدم، والأتراك يدعمون تواجدهم عسكريا في الأراضي (السورية) المجاورة. والميليشيات التي تغذت على تربة سنوات القمع والتهميش والتمييز والفساد، صارت تعمل لصالح ألف طرف وطرف. كلهم هناك؛ من نعرف.. ومن لا نعرف. ورغم حقائق ذلك كله، يخرج علينا إعلام بشار (الذى نحاه مساعدو بوتين يوما حتى لا ينال شرف السير إلى جانب الزعيم الروسي على أرض هي سورية بحكم حقائق الجغرافيا) يهلل للانتصار، ومقاومة العدوان والتبعية والاحتلال (!)

لم تكشف «تظاهرة» الصواريخ الذكية عن حمق وعدوانية الرئيس الأمريكي فقط، ولا عن حقيقة القوة (المبالغ فيها) للدب الروسي، الذي اكتفى بإطلاق التصريحات (لا الصواريخ) مهددا، على لسان سفيره في بيروت ليس فقط باعتراض الصواريخ الأمريكية، بل بـ«استهداف منصات إطلاقها». 

لم يكن «الانكشاف»؛ أمريكيا وروسيا في الضوء الساطع للصواريخ التي أضاءت سماء دمشق في هذا الصباح المبكر، انكشافا فريدا، كما لا مفاجأة فيه لأي متابع لحقائق البيت الأبيض (الترامبي) والكرملين (اللاسوفيتي).

كما لم يكن انكشاف الديماجوجية السورية الرسمية التي تبدت في تظاهرات «رسمية» ترفع الأعلام الروسية والإيرانية في حين تتحدث هكذا عن الانتصار، ومقاومة «التبعية» والاحتلال مفاجئا.

بالضبط كما لم يكن الانكشاف العربي (الرسمي) الذي تبدى في ارتباك (قمة عربية) عقدت غداة الضربة، وبدت قراراتها صامتة، أو (محكومة) بموازين القوى الجديدة للنظام العربي مفاجئا هو الآخر.

ما كان مفاجئا، أو بالأحرى صادما بحق هو ما تبدى من «أمراض فكرية» بدا أنها تسللت إلى عقلنا العربي في «زمن اللايقين» هذا الذي خطونا خطواتنا الأولى إليه مع طرقات جنود صدام حسين (الغازية) لأبواب الكويت العاصمة في هذا اليوم الحار من أغسطس ١٩٩٠.

في زمن الاستقطاب الحاكم هذا، بدا بعض المستدرجين إلى فخ الصراعات «الطائفية» البديلة في «شرق أوسط جديد»، وقد وضعوا كل رهاناتهم في سلة ترامب، فصار كل قرار له «حكيما»، يستدعي التصفيق والترحيب «بلا ضابط ولا رابط». غير آبهين بحقيقة أن الرجل لم يتحرك لصالحهم، أو لصالح الشعب السوري. بل للخروج «دعائيا» من مائة أزمة داخلية، إن نجحت إحداها أن تعصف به، فستعصف في الوقت ذاته بأحلام كل المراهنين هنا؛ سواء على «الكيمياء»، أو على رشى «آلاف الوظائف» وصفقات السلاح.

على الضفة المقابلة للاستقطاب الصفري، كان مثيرا «ودعائيا» أيضا أن يستدعي البعض «عناوين» خمسينيات القرن الماضي، في غير زمانها، ولغير رجالها فطاب لهم استعارة تعبير «العدوان الثلاثي»، غافلين عن حقيقة أن ما كان «عدوانا ثلاثيا» في ١٩٥٦ كان قد جاء لعقاب «ثورة» يطمح زعيمها لاستقلال اقتصادي (بتأميم القناة في حينه). 

يظلم هؤلاء، وإن عن غير قصد عبدالناصر، وثورة يوليو، وفدائيي مدن القناة. 

في ١٩٥٦ كانت هناك «ثورة». وكانت هناك قوى دولية حاولت وأد تلك الثورة، حفاظا على مكتسباتها الاستعمارية التي هددتها ثورات النصف الثاني من القرن الفائت. أما في ٢٠١٨ فنحن (على العكس تماما) أمام نظام سلطوي ضد الثورة، لم يتردد في استخدام كل قوة غاشمة لوأد «ثورة» شعبه التي بدأت سلمية في تلك الأيام النبيلة من ٢٠١١، قبل أن ينجح هو في خلط كل الأوراق، مستغلا حمق أطراف إقليمية، وجماعات دينية، فيتمكن من فتح أبواب الجحيم الذي مازال مستعرا لا يجد من يطفئه.

في خضم الأحداث المتلاطمة التي لم تعد تهدأ يوما في منطقتنا تلك «المضرجة بالدماء»، والصاخبة «بديماجوجية» الدعاية الممنهجة، يصبح من الطبيعي أن ننسى، أو تسقط من ذاكرتنا التفاصيل، كما قد يصبح من الطبيعي وسط صور الدمار والدماء اليومية، أن لا تستوقفنا ذكريات التعذيب والقمع والاغتصاب (اليومية أيضا)، والتي لم تتوقف إلى اليوم بالمناسبة. 

دعونا نتذكر، واسمحوا لي أن أعود إلى ما سبق وأشرت إليه في هذا المكان غير مرة على مدى السنوات السبع الماضية.

قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نسأل أولا: ماذا «جرى» فى سوريا؟ 

كيف يمكن أن نصف «موضوعيا» ما يجري (أو جرى) فى سوريا، والذي استدعى «واقعيا» قوى العالم القديم، والجديد إلى ساحته؟ هل لا يعدو الأمر كله أن يكون معركة بين النظام والإرهاب؟ أم أن هناك خلف لافتة «الحرب على الإرهاب» التي يلوح بها هذا وذاك كثيرا من التفاصيل والتاريخ المضرج بالدماء؟

رغم قرائن. وشواهد عدة، فربما ليس لدي من الأدلة (القاطعة) ما يمكنني أن أقطع بصحة ما سمعته مرارا من مثقفين سوريين «يساريين» عن إقدام استخبارات «الدولة» السورية على إطلاق سراح السجناء المنتمين لتنظيم القاعدة في منتصف ٢٠١١ (رغبة في إرباك المشهد)، ولكنني أعرف كغيري أن الإرهاب هو الذي قدم طوق النجاة إلى أنظمة قمعية بدا أنها كادت تحتضر بعد أن عرتها رياح الربيع العربي. وأعرف كغيري أن الاحتجاجات في سوريا بدأت، كما في غيرها «سلمية». فلم يكن أطفال درعا على سبيل المثال يحملون غير «الطباشير الملون» يكتبون به على الحائط. ثم كان أن جرى في سوريا بالضبط مثل ما جرى في ليبيا. أن استدعى رصاص النظام رصاص معارضيه، وكان من الطبيعي (كما هي طبيعة الحروب المسلحة) أن يحتل الأكثر عنفا وتسليحا مكان الأكثر سلمية أو اعتدالا.

«الطغاة يأتون بالغزاة» درس التاريخ الذي قرأناه ألف مرة.. ولم نتعلم

أيا ما كان الأمر، ففي التفاصيل، التي ربما نسينا أن النظام السوري لم يوفر وسيلة لتأكيد أنه كما هو لم يتغير. فالرئيس الذي ورث ثلاثة عقود من حكم والده، وبعد ١٤ عاما إضافية في السلطة جرى انتخابه في يونيو ٢٠١٤ لمدة سبع سنوات أخرى بنسبة تقترب من التسعين في المائة (بعد أن ذهب ربع مليون من شعبه إلى المقابر، وأكثر من خمسه  إلى الملاجئ). والسلطة التي لم تتغير، لم تتردد في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبها أكثر من مرة. إحداها تأكدت (الغوطة -أغسطس ٢٠١٣). 

وفي التفاصيل أيضا أن على الذين صدقوا أكذوبة «اختزال» ما جرى أو يجري في سوريا على أنه حرب بين النظام والإرهاب، أن يطالعوا اللائحة «الطويلة جدا» للمعارضين السوريين، والتي تضم أسماء مثل الأكاديمى برهان غليون والحقوقي هيثم مناع والقاضي هيثم المالح والساسة محمد صبرا وهشام مروة ورياض الترك، والناشطين ميشيل كيلو وبسمة قضمانى … إلى آخر قائمة طويلة جدا من الاشتراكيين والقوميين والليبراليين والإسلاميين المعارضين لقمع النظام واستبداده. ثم ربما كان عليهم أن يشاهدوا رسوم على فرزات رسام الكاريكاتير المبدع الذي كسر بلطجية النظام عظامه عقابا له على رسومه.

والخلاصة: أنه مع الإقرار بخطر غير مسبوق لإرهاب يحرق الأرض، كما يغسل العقول، علينا أن نقر بأنه من الحمق أن نصدق أن كل معارضي النظام إرهابيون. أو أن مقاومة الإرهاب ستكون عبر إعادة إنتاج الأنظمة «الإرهابية» ذاتها التي أوجدت بيئته الحاضنة، باستبدادها وقمعها وتحيزاتها وفسادها وفشلها في إدارة التنوع بين مواطنيها تمييزا وإقصاء، أيا كان معيارُ التمييز؛ الانتماء إلى حزب سياسي أو طائفة أو قبيلة حاكمة، أو الانخراط في دوائر «الأوليجاركيا»؛ واسعة كانت أو ضيقة، والتي مركزها دائما «الرئيس».

كشفت ضربة «الخمسين دقيقة» الدعائية تلك عن ما أصاب الفكر العربي من استقطاب مرضي، وتفكير «صفري»، وشيخوخة لم تدرك أن الزمان تغير

فلأسبوع كامل عكفت على مطالعة ردود فعل المثقفين والسياسيين العرب على ضربة ترامب (الدعائية) لمواقع سورية خالية فجر هذا اليوم الرابع عشر من أبريل. 

كان طبيعيا ألا تسفر (حرب الخمسين دقيقة)، التي بدا أن أصحابها قد أبلغوا مستهدفيها المفترضين مسبقا بتفاصيلها عن ثمة ضحايا، ولكنها كشفت الغطاء عن ما بدا أنه أصاب الفكر العربي من استقطاب مرضي، وتفكير «صفري»، وشيخوخة لم تدرك أن الزمان تغير، وأن مياه كل نهر ليست أبدا ما كانت تجري فيه بالأمس القريب، فما بالك بذلك الذي صار بعيدا. 

انظر حولك جيدا، وتابع تلك السجالات (لا الحوارات) الدائرة هنا وهناك. مبتلون نحن بآفة التفكير «الصفري». يطالبك الزاعقون؛ المتمترسون في مربعاتهم «الصفرية» بأن تقف قسرا في هذا المربع أو ذاك. وكأنك لا تملك ترف «الإنصاف»، فتدين هذا، وتدين ذاك. جربنا ذلك مرارا على مدى سنوات الاستقطاب السبع الماضية. لا يقبل منك هؤلاء مثلا أن لا تمنعك إدانتك للفاشية الدينية، من إدانة مماثلة للفاشية العسكرية. كما لا يسمح لك هؤلاء بأن تدين الإرهاب؛ أيا كان مبرره (وسواء قامت به جماعة أو أجهزة دولة)، وفي الوقت ذاته تقف أمام القمع والاستبداد؛ سواء تدثر بثياب دينية أو بشعارات وطنية. واليوم يرفض هؤلاء أيضا أن تقف ضد كل عدوان أو حرب، ولكنك في الوقت ذاته تقف أمام كل حرب يمارسها الطغاة على شعوبهم.

على الهامش، بدا حال السجالات الدائرة على مدى الأسبوع المنصرم وكأن بعض اليساريين يعتقد أن بوتين (الأوليجاركى) مازال شيوعيا. وبعض الليبراليين يتصرفون وكأن ترامب (العنصرى) ليبراليا (!!)

يبقى أن علينا أن نقول لكل البسطاء الذين أربكتهم صور الصواريخ «الغربية» تحلق في سماء دمشق العربية الفيحاء، كما آلمتهم صور ضحايا صواريخ «النظام» وبراميله المتفجرة في حلب، والغوطة ودير الزور. إن أي «حرب» أو عدوان مدانٌ بلا شك. ولكن حرب الأنظمة السلطوية على شعوبها تستحق الإدانة أيضا. 

الحقائق لا تنفي بعضها.. بل (تتكامل).

كما أن من الحقائق الثابتة أيضا أن «الطغاة يأتون بالغزاة».

وقانا الله شر هذا.. وشر ذاك.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل