المحتوى الرئيسى

"سيبيه يمسكها".. يا فوزية!

04/21 22:52

توقفت بنا السيارة، التي تحمل طاقم التصوير التليفزيوني، أمام العمارة التي يسكن فيها الفنان الكوميدي محمد أبوالحسن (1937ـ 2014)، حيث كان يعيش في منطقة أقرب للعشوائية، على أطراف مدينة نصر شرق القاهرة. أسفل العمارة مجموعة من الأطفال يلهون بملابسهم البالية، ووجوههم العابثة، ربما بسبب درجة الحرارة المرتفعة جداً، حيث كنا في شهر أغسطس من عام 2009. السائق المصاحب لنا، ظل طول المسافة التى قطعناها من وسط القاهرة حتى الوصول إليه، يضحك وهو يتذكر دور العريس "حنفي" في مسرحية "سك على بناتك" ذائعة الصيت.. خاصةً كلمات الراحل فؤاد المهندس للراحلة سناء يونس، وهو يقول لها (كنتِ سبيه يمسكها يا فوزية) بعدما رفضت- من حسن الأخلاق والتربية- أن يمسك يدها "حنفي" الذي لعب دوره الفنان محمد أبوالحسن، ما دام لم يتم الزواج!

السائق ونحن في الطريق نظر لي مبتسماً وسألني: هل تذكر هذه المسرحية الجميلة. قلت: نعم.. هي من تأليف الكاتب المبدع لينين الرملي، وعرضت للمرة الأولى على خشبة المسرح عام 1980 وقام بإخراجهاـ بجانب بطولتهاـ الراحل فؤاد المهندس.

هز رأسه متمتماً بكلمات مسموعة، قائلاً: كان زمناً جميلاً بنجومه وفنه. وأثناء وقوفنا في إشارة مرور شارع عباس العقاد عاد يسألني بدهشة عن سر اختفاء الفنان محمد أبوالحسن وعدم ظهوره في أي أعمال مسرحية أو تليفزيونية منذ سنوات؟ قلت: دقائق وسنكون معه ونعرف السبب! في النهاية، لاحظ غضبي من كثرة أسئلته، فقام بإشعال سيجارة يتيمة كانت في علبة سجائره، وبدأ من خلالها ينفث دخانها المتطاير في غضب مكتوم.

فور وصولنا هاتفت الفنان محمد أبوالحسن، وفريق العمل بجواري يستعد بكاميراته لتسجيل تقريراً تليفزيونياً معه. رد معتذراً عن أن شقته لن تستطيع استقبال فريق العمل للتصوير؛ لأسباب شرحها لي ولا داعي لذكرها. تفهمت وجهة نظره، وطلبت من فريق العمل البحث عن مكان آخر للتصوير. واتفقنا على أن يكون ذلك في كافيه بشارع عباس العقاد. بعد دقائق ونحن في انتظاره بالشارع، لمحته يخرج من وراء باب العمارة بهدوء. جسده هزيل. خطواته بطيئة. ونظره ضعيف بعض الشيء. اندفع إليه السائق مهرولاً وهو يضحك، قائلاً: "كنتِ سبتيه يمسكها يا فوزية"! ثم احتضنه، وهو يقول بكلمات صادقة: "وحشتنا يا فنان". فرد مبتسماً: "كويس إن فيه حد لسه فاكرنى..راح زمنا وزمن فوزية!".

سلم على باقي فريق العمل، واستقل معنا السيارة، وبعد 30 دقيقة تقريباً وصلنا إلى الكافيه. رواد المكان استقبلوه بسعادة وحفاوة شديدة أسعدته كثيراً. بدأ يسلم على كل من في المكان، فيداعب هذا. ويضحك مع هذا. ويرد على أسئلة هذا، إلى أن توقف أمام ترابيزة تجلس عليها سيدة تبدو ملامحها حزينة، وأمامها فتاة توشك على البكاء. استغل هو الفاصل الزمني الذي يستعد فيه طاقم العمل لتجهيز"اللوكيشن" للتصوير، واقترب منهما وجلس بجوارهما، ليعرف سر الحزن الذي يسيطر عليهما.

بصعوبة تحدثت الأم معه قائلة: تركني زوجى وأنا حامل بهذه الفتاة التي تجلس أمامك، وتزوج بأخرى كانت صديقة لي. وطردني من شقة الزوجية، بألاعيب قانونية شائعة هذه الأيام؛ فذهبت إلى بيت أمي حيث كانت تعيش في شقة متواضعة في منطقة العباسية. وضعت طفلتي عندها، ثم واجهت الحياة بمفردي بعد رحيلها المفاجئ وتخلي زوجى- بعد الطلاق- تماماً عن مسئولياته تجاه ابنته، ما جعلني أعمل خادمة في شقق حي مدينة نصر، لسنوات طويلة حتى أستطيع تربيتها وتعليمها إلى أن التحقت بكلية التجارة جامعة عين شمس، وهي الآن بالفرقة الثالثة. وكانت الأم تحكي والابنة تحبس دموعها بصعوبة، وهو يهز رأسه باهتمام وطاقم العمل يشير لي: "جاهزين للتصوير"! سألها مندهشاً ؟ كل هذا جميل.. أين المشكلة إذن؟ قالت: بل قل الكارثة وليست المشكلة. لقد أساءت الآنسة الحرية التى أعطيتها لها، وقام زميل لها باستدراجها، وتزوجها عرفياً دون علمي. ونحن هنا ننتظره- حسب الموعد المتفق عليه بيننا- في محاولة للوصول إلى حل معه في تلك الكارثة، التي حلت على رأسي، وأضاعت سنوات تعبي وسهري وكفاحي وحرماني ورفضي للزواج من أجلها منذ طلاقي. تمتم أبوالحسن بكلمات مسموعة، وهو يحتضن الفتاة محاولاً انتزاع منها وعداً بإنهاء هذه الأزمة من أجل أمها وحياتها، فهزت رأسها وفي دموعها استجابة واضحة لكلامه، ثم ودعهما بحرارة، بعدما لاحظ حالة من الضيق أصابت فريق العمل بسبب تأخر التصوير. أمام الكاميرا تحدث لمدة 40 دقيقة عن مشواره الفني والإنساني، وعن أبرز المحطات الفنية والشخصيات التي أثرت في حياته. بعد التسجيل جلست معه نتجاذب أطراف الحديث.

سألته عن غيابه عن الساحة الفنية؟ قال: دعني أقل لك ما رفضت قوله أمام الكاميرا.. فأنا كنت فناناً أحب الفن. أما اليوم فأنا فنان أتسول الفن، بعدما حولوه إلى تجارة تتحكم فيها عصابة؛ هذه العصابة تسيطر على مفاتيح الإنتاج الفني كله. هل تتصور أن يصاب قلبي بالمرض ويحتاج لتغيير عدة شرايين؛ فلا أجد لديّ المال الذي يتيح لى إجراء العملية، ولولا تدخل الزميلة العزيزة الفنانة "سهير رمزي" وقتها وتحملها نفقاتها، لكنت رحلت عن الدنيا وأرحت واسترحت؟ لقد أعطيت حياتى كلها للفن، خاصةً المسرح بعدما اكتشفنى وقدمنى للجمهور الفنان الجميل جورج سيدهم- أتم الله شفاه- وقدمت عشرات الأعمال المسرحية والدرامية والإذاعية منذ الستينات. واليوم تمر السنوات دون أن يعرض عليَّ أي دور في أي عمل، وكأنني رحلت عن الدنيا. أحياناً يرسلون لي حلقة أو حلقتين، لا يتجاوز أجري في الحلقة ستة آلاف جنيه. أناـ وغيري- أجرنا ملاليم. وهم- وغيرهم- أجورهم بالملايين. ثم سكت قليلاً، وقال بتأثر واضح: لقد ساعدت الكثيرين من مخرجين وفنانين- هم كبار الآن ولهم أسماؤهم المعروفة في الوسط- في بداية عملهم، عندما كنت أعمل مخرجاً وممثلاً في بداية ظهور التليفزيون، واليوم لا يردون على هاتفي؛ إذا ما اتصلت بهم، ويتهربون مني!

يأتي على رأسهم الفنانة "إسعاد يونس" التي ساعدتها كثيراً في بداية مشوارها، والآن- رغم أن لديها شركة إنتاج سينمائي- ترفض حتى الرد على هاتفي! قال ذلك بمرارة واضحة في نبرات صوته، وحزن معلق على أهداب حروف الكلمات التى تخرج من حلقه. حاولت أن أهرب من حالة الكآبة التى سيطرت على أجواء المكان. لذلك قلت له: دعنا نترك الحاضر ونعُد للماضى.. حدثنا عن مسرحية "سك على بناتك" التى كشفت عن قدرتك التمثيلية؟ رد: بصراحة..أنا فنان سيئ الحظ.. أقول ذلك وأنا مؤمن بأن الشهرة والنجومية في الحياة نصيب. وأنا لم يكن نصيبي في الشهرة والنجومية جيداً؛ فمن سوء حظي أننى اعتذرت عن مسرحية "المتزوجون" أمام الفنان سمير غانم والفنان جورج سيدهم.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل