المحتوى الرئيسى

صور| بين ارتفاع أسعار القطن ومواكبة الموضة.. مهنة "التنجيد" مهددة بالانقراض - إسكندراني

04/20 15:13

“القطن فتح هنا البال، والرزق جه وصفالنا البال، اجمعوا خيره مالناش غيره، يغني البلد ويهني الحال، أبيض منور على عوده، يحيي الأمل عند وجوده، جل اللي بيديه ويعيده، ويغير الحال بعد الحال، كانت له يوم شنة ورنة، عمر بيوتنا وصهللنا، يارب يحيي لنا أملنا، وتخلي مصر في أسعد حال”، تلك الكلمات كتبها الشاعر أحمد رامي عام 1942، ولحنها الموسيقار زكريا أحمد، وغنتها أم كلثوم، كنوع من الفخر بجودة وإنتاجية واهتمام الفلاحين المصريين بزراعة “الذهب الأبيض – القطن”.

يعد القطن أحد أهم المنتجات الزراعية، التي تشتهر مصر بزراعتها منذ القدم، وبدأت زراعته في عهد القدماء المصريين الذين اكتشفوا بذوره في أحد المقابر بمدينة طيبة، ثم انتشرت زراعته في العصور البطلمية والرومانية، وكانت مصر آنذاك تقوم بتصديره إلى روما، ثم انتقلت زراعته واشتهرت في العصر الحديث، بداية من عام 1820، وأصبح القطن طويل التيلة ينافس الأقطان الأمريكية والهندية، بل تفوق عليهم، وسريعًا انتشر هذا النوع وبلغ إنتاجه في عام 1823، حوالي 30 ألف قنطار، ثم انتهت زراعة هذا النوع الذي كان معروف باسم البلدي عام 1832، بحسب المعلومات الرسمية التي ذكرها تقرير اللجنة العامة لتنظيم تجارة القطن في الداخل بمصر.

أمام أحد العقارات بشارع الرند، بمنطقة غيط العنب، في حي كرموز، تقف سيدة خمسينية العمر، طويلة القامة، ذات بشرة خمرية اللون، وعينان سوداويتين، ترتدي عباءة سوداء بنقوشات وردية، وترتدي فوق رأسها “إيشارب” صغير منقوش، تجمع به شعرها على الرغم من ظهور بعض الخصلات الصفراء المصبوغة أسفله، وتقوم بـ”الزغاريد” وتوزيع “الشربات” الأحمر، على جيرانها وتتلقى التهاني، احتفالًا بتنجيد الفرش الخاص بابنتها لاقتراب زواجها.

لم يكن المشهد السابق من فيلم أو مسلسل، بل هو مشهد حقيقي، يجسده أبطال يحرصون على عاداتهم وتقاليدهم وسماتهم الشعبية الأصيلة.

عنايات السيد، بطلة هذا المشهد، تحكي لـ “إسكندراني”، عن طقوس التنجيد في مصر، قائلة: إنها تزوجت منذ 33 عامًا، وكان الناس تقوم بعمل “شوار العروسة” من التنجيد بالقطن المصري، ولم تكن المفروشات والمراتب الجاهزة سائدة في هذا الوقت، والزواج يعني تنجيد، فلا يمكن أن تتزوج عروسة بلا تنجيد، لأنه كان له فرحة كبيرة وسط العائلة والأصحاب والجيران، الذين كانوا يقومون بعمل حفلة “تنجيد”.

وتضيف عنايات، “كنا زمان بنأجر فرقة ربابة للعزف أثناء التنجيد ونرقص”، كنوع من الهدية للعروسة صاحبة التنجيد، ويضع الناس لها “النقوط المادي” داخل مفروشاتها، لكن مع مرور الزمن اختلفت المشاهد وتبدلت الفرقة بـ “الكاسيت والدي جي”.

وتتابع السيدة السكندرية، أنها صممت على عمل “شوار” ابنتها من القطن، مثلما تزوجت هي، لأنه أحد الطقوس الشعبية والتراث الجميل، مؤكدة أن ابنتها كانت ترغب هي وخطيبها في شراء مراتب إسفنج ومخدات ولحاف “فايبر”، لسهولة التجهيزات وسرعتها، إلا أنها أصرت على التنجيد، لأن المراتب القطن صحية ولا تتعب عظام الجسم، مثلما يؤكدون الأطباء لنا، بحسب قولها.

أما الابنة العروس بوسي صلاح، 23 عامًا، فكان لها رأي أخر، حيث أبدت لـ “إسكندراني”، تذمرها من إصرار والدتها على تنجيد مفروشاتها، لكونها ترى أنه لم يكن هناك داعيًا لكل هذه الضوضاء والتعب والعناء، الذي أخذه وقت شراء القماش والقطن وحجز المنجد، وبمنتهى البساطة كنا نستطيع أن نريح أنفسنا ونوفر العناء لأشياء أخرى، ونشتري الفرش الجاهز من الفايبر، وبأسعار مناسبة.

وتتابع بوسي قائلة: على الرغم من التعب أثناء فترة التنجيد، إلا أنه بعد انتهاء الأمر، شعرت بسعادة بسبب الطقوس التي حرصت والدتي عليها،  بالإضافة إلى تشغيل الأغاني الشعبية الجميلة، وتوزيع الشربات ورقص الجيران وبنات العائلة، مؤكدة أن الحفاظ على التراث له لذة جميلة تعطينا السعادة.

ومن أمام أحد محال المفروشات والمراتب، بمنطقة المنشية بوسط الإسكندرية، يختلف المشهد تمامًا عما سبقه، حيث تتراص شاحنات النقل والعمال يتسارعون لنقل المفروشات من الفايبر “المراتب والمخدات”، إلى السيارات، بينما تقف خلفهم العروس والعريس ووالدتيهما، وحينما انتهى النقل، وقف العمال منتظرين العريس ليخرج لهم “الإكرامية”، وهم يرددون جملة واحدة “ألف مبروك وربنا يتمم بخير”.

تقول يسرا عبد السلام، 26 عامًا، محاسبة، لـ”إسكندراني”، إنها تستعد لعرسها الشهر المقبل، وكانت تقوم بشراء فرش حجرات النوم من الإسفنج والفايبر، مؤكده أنها لم تفكر من الأساس في تنجيد مفروشاتها، بل اتجهت على الفور لمواكبة الموضة لتوفير الوقت والعناء الذي يتطلبه التجنيد، وقامت بشراء كل شيء جاهز، مثل صديقاتها وبنات عائلتها، مؤكدة أن التنجيد أصبح موضة قديمة.

في محل صغير، يقع بمنطقة الهانوفيل بغربي محافظة الإسكندرية، لا تتعدى مساحته 10 أمتار، يقبع محمد منصور، في الأربعينات من عمره، وسط كميات من القطن المتناثرة في كل أرجاء المحل، والمعبأة سمائه بالأتربة والغبار الذي يخنق الصدر، حاملًا سيجارته في يده اليمنى، وفي اليسرى يحمل كوبًا من الشاي.

يقول منصور، لـ “إسكندراني”، إنه ورث مهنة التنجيد، أبًا عن جد، وأن والده هو من علمه كيف يضرب القطن بالعصا لتنجيده، مشيرًا إلى أنه يستخدم أدواته الحديثة الآن، وهي “ماكينة لفرفرة القطن الكهربائية” وأخرى لخياطة القماش، وهي طرق وأدوات حديثة للتنجيد بسهولة، بدلًا من الأدوات التي كانت تستخدم أيام عمل والده مثل “القوس والمدقة” المكونين من الخشب والجريد والإبر والمسلة والقماش وخيوط صياد.

ويضيف منصور، أن التطور طال المنجد أيضًا، حيث أن الأدوات القديمة كانت متعبة وشاقة وتحتاج لصحة بدنية قوية، أما الآن فالأدوات الحديثة، وفرّت علينا هذا العناء، وأصبح العمل خفيف جدًا، وفي الماضي كان الجميع يتجه للتنجيد، أما الآن فالمراتب الإسفنج والصناعة الصيني “أكلت الجو” بحسب تعبيره، وهو ما أدى لوقف سوق التنجيد.

ويوضح محمد منصور، أنه الآن يعمل على تنجيد المراتب القديمة التي تأتي له من الناس، ولم يأتِ له منذ فترة أحدًا يرغب في التنجيد الجديد، مؤكدًا أن آخر عروسة جاءته كانت منذ 8 أشهر.

أما سعيد مفرح، 57 عامًا، منجد بمنطقة الساعة بكرموز بغربي محافظة الإسكندرية، يقول لـ “إسكندراني”، إن مهنة المنجد أوشكت على الانقراض بسبب الغزو الصيني لمجال المفروشات، وبأسعار مخفضة، وهو ما يجد إقبالًا كبيرًا من العرائس.

يؤكد مفرح، أن انخفاض أسعار المفروشات الحديثة، وارتفاع أسعار القطن والتنجيد، هو السبب فيما وصلنا إليه الآن، مضيفًا أن منتجات الفايبر أو الإسفنج تتلف في غضون 5 أو 7 سنوات، أما المنتج القطن يصل عمره إلى 40 سنة، ويعاد تدويره مرة أخرى، ولكن فرق الأسعار هو الحكم.

وعن أسعار التنجيد يؤكد مفرح، أن مصنعية عمل المرتبة الكبيرة 250 جنيه، والصغرى 150 جنيه، والمخدة الكبيرة 35 جنيهًا، والصغيرة 20 جنيهًا، والخدادية 15 جنيهًا، مؤكدًا أن سعر قنطار القطن، بلغ نحو 2700 جنيه، وفي طريقه للارتفاع مرة أخرى.

معوض عبد الرحمن، مزارع قطن صنف جيزة 86، بغربي محافظة الإسكندرية ، يقول لـ “إسكندراني”، إن الدكتور عبد المنعم البنا، وزير الزراعة، أصدر قرارًا وزاريًا بتحديد مناطق زراعة أصناف القطن للموسم الزراعي 2018، وفي محافظة الإسكندرية تم تخصيص صنف جيزة 86 لزراعته فقط.

ويضيف عبد الرحمن، أن ما يجعلنا نعزف عن زراعة القطن، هو ارتفاع تكلفته الزراعية علينا، وارتفاع أسعار المبيدات والسماد، فضلًا عن عملية جني المحصول باليد، التي تتطلب جلب عمالة كثيرة بأجر يومي مرتفع، ما يجعلنا نخسر ولا نجد ربح في نهاية الموسم، لذلك الفلاحين أصبحوا يرفضون زراعة القطن، خاصة أن الدولة لم تقف معهم في خفض أسعار مستلزمات الزراعة.

ويتفق معه محمد جودة، صاحب محل لبيع القطن، بمنطقة مينا البصل بالإسكندرية، مؤكدًا أن السبب وراء انهيار صناعة القطن ومهنة التنجيد وغلق المحالج التي كانت تشغل عمالة بالآلاف، هو استيراد تقاوي بذرة قطن فاسدة منذ سنوات، أدت إلى أن القطن المصري أصبح قصير التيلة، بعد أن كان طويل التيلة، وكان يُصدر لأمريكا ودول العالم لكونه من أجود أنواع القطن في العالم، ثم انحصر الإنتاج جدًا، ما جعل المزارعون يعزفون عن زراعته، وبلغ سعر قنطار القطن 2700 جنيه، وهو لم يقم ببيع قنطارًا واحدًا منذ قرابة شهر.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل