المحتوى الرئيسى

«مريوط»: بحيرة بلا سمك.. وصيادون يشكون نفاد صبرهم لقلة رزقهم

04/18 10:37

 «كنز السمك».. هكذا كان يطلق عليها قديماً، كانت مساحتها نحو 200 كم² فى بداية القرن العشرين، لكن عمليات الردم والتعديات قلصت مساحتها إلى 50 كم² فقط، الآن الوضع على الأرض أصبح مختلفاً.

فى بيت من طابق واحد، بُنيت جدرانه المطلة على بحيرة مريوط من الطوب الأبيض الكبير، أمامه وفوق سطحه الخشبى بعض الكلاب تنبح، جلبها صاحب البيت لحراسة والدته العجوز، التى خرجت من بيتها بمجرد أن سمعت نباح الكلاب، سارت ببطء على قدمين نحيفتين، وجسد هزيل ووجه تملؤه تجاعيد سبعة عقود من الزمان، ارتفاع صوت الكلاب دفع السيد عبدالرؤوف (صاحب البيت) مسرعاً، بعد أن ترك فرشته الخاصة لبيع الشاى على الطريق المجاور للمنزل، صاحب جسد نحيل وبشرة سمراء، يرتدى بنطالاً غامق اللون، وقميصاً أبيض لم يخلُ من أثر تراب الطريق، وبمجرد الحديث معه عن البحيرة الرابضة خلف بيته، ومصير كل من اعتمد عليها فى «الملاحات» لجلب الرزق، حتى انفجر كالبركان قائلاً: «طول عمرنا صيادين أباً عن جد، بس للأسف كل فترة البحيرة بتضيق علينا أكتر ومساحتها بتقل عشان بياخدوا منها يعملوا مشاريع وطريق، وده أثر علىّ وعلى اللى زيى جداً».

مساحتها تقلصت من 200 كيلو إلى 50 كيلو بسبب التعديات والإهمال.. والمسئولون «شاهد ماشفش حاجة»

«السيد» يعيش فى «الملاحات» هو وأشقاؤه وأبناء عمومته منذ أن ولد قبل 50 سنة، حيث يمثل صيد الأسماك من البحيرة مصدر رزقهم الأول الذى لم يعرفوا غيره طيلة حياتهم، إلا أن الأزمات المتلاحقة أتعبتهم إلى حد كبير. وأضاف: «محدش معترف بالصيادين، والبحيرة لا فيها سمك ولا حتى ميّة»، فقديماً كانت بحيرة مريوط لها سمعة كبيرة بين كل مواطنى الإسكندرية، لكثرة إنتاجها من السمك، الذى يتم توزيعه فى أسواق المحافظة والمحافظات المجاورة لها، وهو ما لم يعد موجوداً الآن: «البحيرة خلاص ماتت ومبتطلعش نص كيلو فى اليوم»، الحال الذى وصلت إليه البحيرة جعل «السيد» يتحسر على ما مر من أيام الخير خاصة بعدما تراجع الاهتمام بالبحيرة نهائياً، فقديماً كان يتردد الخبراء على البحيرة لأخذ عينات من المياه ومن التربة للمساعدة فى تقديم الدعم للصيادين وهو أمر لم يعد يحدث منذ 25 عاماً، على حد قوله.

أزمات «السيد» ليست مقتصرة على مشكلات البحيرة وعدم الاهتمام بها فقط، ولكن لديه أزمة أخرى تؤرقه هو ووالدته العجوز، تتمثل فى «العشة» التى يعيشون فيها بجوار البحيرة، والتى لم تسلم من قرارات الإزالة المتكررة خلال الأعوام الماضية، وقال بحسرة وألم: «كل شوية ييجوا يزيلوا المكان ويعملوا لى محضر، ومش عارف همّا كانوا فين لما اتردم 500 فدان من البحيرة وعاملين لى دلوقتى فرح على 2 متر عايش فيها أنا وأهلى وملناش مكان غيرهم»، مضيفاً: «لكل صياد يعمل داخل البحيرة 75 متراً يضع بها احتياجاته ويبيت فيها ليله إذا تطلب العمل ذلك، وهو ما لا يمكن الحصول عليه الآن بسبب قرارات الإزالة المتلاحقة».

والتقطت والدته «فوزية السيد» طرف الحديث منه قائلة بصوت منخفض: «إحنا هنا بقالنا أكتر من 100 سنة، وآخر مرة لما جم يزيلوا المكان خدوا منى أنبوبة البوتاجاز ولما قلت لهم إننا بنطبخ عليها قالوا متاكلوش، وقعدنا بعدها حوالى 20 يوم مش عارفين نعمل إيه».

حديثنا مع الصياد الحائر وأمه العجوز قطعه دخول «سعيد عزوز»، ابن عم «السيد»، وعلى وجهه ارتسم الحزن بسبب ما يعيشون فيه من أزمات متلاحقة، وطلب منا مصاحبته فى جولة داخل البحيرة لكى نرى الوضع على طبيعته، اتجه مسرعاً نحو باب البيت ومنه إلى طرف البحيرة، حيث مكان «الفلوكة»، وقفز داخلها برشاقة وأمسك بيده عصاتها (المدرى)، ليقوم بتوجيه المركب من خلالها حتى تتهيأ فى مكان الركوب، ثم انطلق بها بعد أن خيم عليه صمت رهيب أشبه بماء البحيرة الراكد، قبل أن يقطعه قائلاً: «بقيت ألطش يمين وشمال عشان أجيب رزق عيالى، ولما بزهق بقعد لحد ما ربنا يفرجها».

«السيد»: المسئولين كانوا فين لما اتردمت البحيرة؟.. و«شوقى»: «حصيلة 15 يوم صيد ماتكفيش تمن مواصلاتنا»

زوجة و3 أطفال يتركهم «عزوز» خلفه كل صباح بعد خروجه بحثاً عن الرزق، وهو لا يعلم كيف ومتى يعود إليهم وبأى شىء قد يعود وواصل حديثه بالقول: «كلمنا الهيئة عشان يدونا معونة الفترة اللى البحيرة مفيش فيها سمك، بس محدش رد علينا»، قالها بانكسار ثم عاد إلى الصمت مرة أخرى، مكتفياً بالتحكم فى «الفلوكة» وهو واقف على طرفها من خلال العصا فى يديه.

مجموعة من «عشش» الصيادين مرت عليها فلوكة «عزوز» داخل البحيرة، جميعها خاوية على عروشها بعد أن هجرها الصيادون، وبعد مسافة كبيرة قطعها المركب رأى «عزوز» من بعيد «عشة» تقف أمامها «فلوكة» دلت على وجود أحد الصيادين بها، فوجه المركب إليها، وعلى الفلوكة الراسية أمام الكوخ الخشبى، كان يجلس «شوقى محمد» وفى يده شبكته الصغيرة يعيد حياكة أطرافها مرة أخرى وبادرنا بالقول: «أنا عايش فى العشة دى أباً عن جد بس بقالى أكتر من سنة سارح برة عشان البحيرة مبقاش فيها سمك»، قالها «شوقى»، بعدما قام من جلسته واتجه نحو طرف المركب وصب حصيلة صيده من السمك داخل شبكته وقام بتعليقها على حرف المركب تاركاً إياها فى المياه، ليوضح سبب فعله ذلك قائلاً: «حصيلة 15 يوم ميكفوش تمن المواصلات اللى بنيجى بيها، فبضطر أحبس اللى بصطاده عشان ميموتوش عقبال ما اصطاد عليهم تانى بعد كده»، مشيراً إلى أن المعاناة نفسها يعيش فيها كل من يصطاد من البحيرة، وأضاف: «أغلبية اللى موجودين هنا بقوا يسرحوا برة، ومفروض يبصوا لنا أكتر من كده ويجيبوا لنا زريعة للبحيرة لأن الناس اللى هنا غلابة وزهقوا خلاص».

مسافة أخرى قطعها «عزوز» فى البحيرة بعدما تركنا «شوقى»، مررنا فيها بالعديد من عشش الصيادين الخاوية، حتى وصلنا إلى أخرى، كان بها «محمد عويس»، رجل ثمانينى يجلس داخل العشة يريح جسده الهزيل، وما إن رآنا مقبلين نحوه، حتى خرج إلينا يستقبلنا، وبالحديث معه حول وضع البحيرة رد قائلاً: «فيه عائلات كتير هنا مشردين، لأن البحيرة بقالها أكتر من سنتين مترماش فيها زريعة، ده غير إن السنة اللى فاتت كل السمك اللى فى البحيرة مات من قرصة السقعة اللى حصلت، رغم إننا مفروض لينا تموين سنوى من الزريعة، ولما جبنا زريعة على حسابنا اتغشينا فيها، ويوم ما بنروح لهيئة الثروة السمكية بنكون عايزين نبوس رجلهم، وبيقابلونا حلو جداً ونفتكر إن المشكلة خلاص اتحلت، لكن بعد كده مبيحصلش أى حاجة».

لا يوجد مصدر رزق آخر بالنسبة لـ«عويس»، حسب قوله، ولولا اعتماده على أبنائه فى معيشته لكان مصيره التشرد مثل غيره، لاسيما مع كبر سنه، وواصل الحديث قائلاً: «إحنا فى مَرار ومش لاقيين حد ياخد بأيدينا، ولولا عيالى كان زمانى بشحت، بس إحنا زى السمك لو طلعنا من الميّه نموت».. وخلال حديث «عويس» جاء «هانى كمال» وهو رجل خمسينى، مسرعاً بفلوكته، وقفز منها ودخل فى الحديث قائلاً: «إحنا كل اللى بنحاول نعمله دلوقتى إننا نعلم عيالنا كويس، لأننا لو معلمناهمش هيطلعوا صيادين ويشوفوا العذاب اللى إحنا شايفينه، وابنى لما بيقول لى هاجى معاك اتفسح مبرضاش عشان بخاف يحب الصيد، ووصل بينا الحال فى بيوتنا إن الحريم بقا نفسهم ياكلوا سمك ومش لاقيينه».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل