المحتوى الرئيسى

حلقة السمك بـ«الأنفوشى»: مزادات كل يوم الفجر و«اللى يقوله المعلم يمشى على الكل»

04/18 10:37

طرقات هادئة وشوارع لم تغادرها ظلمة الليل بعد، فالوقت لم يتخطَ الثالثة فجراً، وبين الظلمة والهدوء هناك حياة أخرى داخل مبنى أبيض رابض فوق رقعة أرض معروفة للجميع فى منطقة «بحرى»، فمن أمامه كانت عربات النقل متراصة فى صفوف متجاورة تنتظر بضاعتها التى جاءت من أجلها، وحول مداخله يتوه «الغريب» بين زحام مألوف لدى أصحابه، ومن بوابته الرئيسية لم يكفّ الحاضرون عن الدخول والخروج طيلة الوقت، خطوة واحدة فقط تفصلك عن ساحة المبنى الرئيسية، ما إن تخطوها حتى تجد نفسك فى عالم آخر، والحاضرون غابت عنهم نعسة الليل المعهودة، والحناجر لم تكفّ عن ضجيج يجلب الرزق لأصحابه، ورائحة البحر كانت حاضرة، تخبر الزائر بولوجه تواً فى «حلقة السمك» الأكبر داخل محافظة الإسكندرية.

«محمد» يستغرق ساعة أو ساعتين فى عمليات التجهيز: «لما بيفتح المزاد بنقرّب الألواح اللى لسه ماتباعتش ونشيل اللوح اللى اتباع»

البداية تكون فى الثانية بعد منتصف الليل، حينها يكون «صبى المعلم» هو أول الحاضرين إلى الحلقة، كلٌ يعرف دوره، فللحلقة عشرون «معلم» يديرونها، ويتولون عملية بيع الأسماك للتجار، ولكل منهم مكانه المخصص داخل المبنى يُعرف فيما بينهم بالـ«باكية»، وهنا يأتى دور «الصبية»، حيث يقوم صبيان كل «معلم» بترتيب مكانه، وتجهيز الصناديق التى يستقبلون بها مراكب الصيد لوضع الأسماك بها، وتجهيزها للبيع، والتفافهم حول «المعلم» طيلة ساعات العمل، إلى أن يفرغ ويذهب، فيكملون هم دورهم فى «لمّ العدة» وتجهيزها لليوم التالى، فمنهم تبدأ الحكاية وإليهم تنتهى، حسب ما قال الأربعينى «محمد عبدالله»، أحد «الصبيان» داخل الحلقة: «السمك لما بيوصل بيكون محتاج شغل، لأنه بيكون كله على بعضه، ساعتها إحنا بنبدأ مهمتنا التانية بعد التجهيز فى إننا نفصل كل نوع سمك عن التانى ونخليه فى طوايل لوحده».

ساعة أو ساعتين يستغرقهما «محمد» ومن معه من مساعدين فى عمليات التجهيز، إلى أن يصل «المعلم» إلى الحلقة فيكون لهم دور آخر حفظوه عن ظهر قلب: «لما المعلم بيبدأ يفتح المزاد على السمك اللى موجود بنكون واقفين جنبه، نقرّب له الألواح اللى لسه ماتباعتش ونشيل من قدامه اللوح اللى رسى عليه مزاد».

فى الرابعة فجراً يبدأ «معلمو» الحلقة فى التوافد عليها واحداً تلو الآخر، ليقف كل منهم أمام «باكيته» بعد أن يقلب عينيه فيما أمامه من بضاعة، لتبدأ طريقة بيع تتميز بها «حلقة السمك»، والتى جاءت من خلالها تسميتها بهذا الاسم، فحول كل «باكية» يلتف مجموعة من التجار على شكل دائرة (حلقة)، وفى المنتصف يقف «المعلم» ينادى بصوته المرتفع على كل بيعة، ليفتح المزاد بسعر يحدده هو، فيبدأ التجار من حوله فى المزايدة إلى أن ترسو البيعة على أحدهم، ومن «باكية» إلى أخرى يتكرر مشهد المزاد على الأسماك، بينما تختلف كل «حلقة» عن الأخرى من حيث طريقة بيع «المعلم» أو من حيث نوعية السمك الموجودة بها. فى منتصف ساحة المبنى وقف الستينى «أيمن الهمشرى» على باكيته، ينادى بطريقته الطريفة مداعباً من حوله من التجار، وبجواره «الصبية» يرددون من خلفه، بينما يمسك أحدهم بكرسى خشبى جعل منه «طبلة» يدق عليها محدثاً جلبة تميزت عما حولها من ضجيج: «المعلمين اللى فى الحلقة ديه وارثين الشغلانة عن الجدود، بس الأجيال اللى موجودة دلوقتى تختلف فى إنها بقت متعلمة»، يقولها «الهمشرى» الذى بدأ العمل فى تجارة السمك داخل «حلقة الأنفوشى» قبل نحو 40 عاماً، كان وقتها طفلاً لم ينهِ مرحلته الإعدادية بعد، بدأ حينها «صبى معلم» لدى أحد التجار داخل الحلقة، لتمر السنوات ويكون واحداً من أكبرهم، يوضح طريقة العمل داخل الحلقة قائلاً: «شغلانتنا عبارة عن إننا بناخد السمك من الصياد ونبيعه للتجار اللى بييجوا الحلقة، وده عن طريق مزاد بنفتحه فى الحلقة نبيع فيه السمك على آخر سعر يوصله وبعد ما يتباع نحاسب الصياد».

«الهمشرى»: «المعلمين وارثين الشغلانة أباً عن جد والسوق بالنسبة لى كل حاجة فى حياتى».. والمكان ماشى على قانون ماحدش يقدر يخالفه

طريقة المزاد واحدة داخل الحلقة، إلا أن الكميات التى يتم بيعها تختلف عن بعضها البعض، فقد يكون المزاد على طاولة كاملة أو أكثر، وربما يكون المزاد بالميزان (على الكيلو)، حسب ما قال «الهمشرى»، ولكل «معلم» داخل الحلقة المراكب التى تتعامل معه، وهو لا يقوم فقط ببيع السمك، وإنما يُعد بمثابة الممول الأول والأخير لهم: «إحنا ممكن نبيع السمك بالآجل للتاجر بس بندى الصياد فلوسه كلها مرة واحدة ونبقى نلمّ إحنا الفلوس من التجار، غير كمان إننا بنمول الصياد بعد كده سواء فى الجاز أو التلج أو الزيت، والصياد بياخد الفلوس اللى بيحتاجها زى قرض يسدده بعد ما يرجع من البحر»، قوانين صارمة تسير عليها حلقة السمك منذ إنشائها، وتوارثها القائمون عليها الآن، وهناك تغيرات بسيطة طرأت عليها منذ عقود طويلة مضت: «المكان ماشى على قانون محدش يقدر يخالفه، وأهم حاجة فيه إن ماينفعش مركب ينقل من معلم لمعلم تانى إلا لما يكون مسدد كل ديونه عند المعلم اللى كان معاه، غير كده مفيش معلم ممكن يبيع له سمكة واحدة». العمل داخل حلقة السمك بالنسبة لـ«الهمشرى» لم يكن مجرد إرث تركه له والده ومن قبله جده، فهو تخرج فى كلية الحقوق، ورغم ذلك لم يسلك طريق المحاماة حباً فى هذا المجال: «الحلقة ديه بالنسبة لى كل حاجة وبعشق الشغل فيها، ومعنديش أى استعداد اشتغل حاجة غيرها، ولو اتقال لى تعالى اشتغل وزير وسيبها هرفض».

من حلقة «الهمشرى» إلى غيرها من الحلقات حولها، لم تسكت أصوات المزادات، ولم يختلف المشهد كثيراً، فهذا يقف ينادى على ما لديه من سمك، وآخرون حوله يقلبون فيما يريد بيعه، ومن هذا إلى ذاك يتنقل التجار بحثاً عما هو مناسب لهم نوعاً وكماً وسعراً، ومن بين هؤلاء كان «حسين قدورة»، صاحب الخمسين عاماً، قضى فى الحلقة نحو ساعتين للبحث عما يريد من سمك لـ«دكانته» فى منطقة العجمى: «أنا اتولدت لقيت الحلقة ديه، وكان والدى بييجى فيها زى ما أنا باجى دلوقتى»، الحضور إلى الحلقة من قبل «حسين» يكون فى موعد ثابت، الرابعة فجر كل يوم، إلا أن بداية شرائه لما يحتاجه من سمك ليست واحدة، ويتم تحديدها حسب كميات السمك التى وصلت إلى الحلقة، فبمجرد دخوله من باب المبنى يتجه إلى أحد العاملين بها ممن تجمعه به معرفة سابقة، فيسأله عما إذ كانت قد وصلت حمولات جميع المراكب إلى الحلقة أم لا، وبناء على ذلك يحدد متى ستبدأ عملية شرائه للسمك: «لو كل المراكب وصلت خلاص ببدأ أشترى، لكن لو لسه فيه مراكب فى البحر حمولتها ماوصلتش لازم أستنى عشان يمكن يكون فيها سمك أحلى من اللى موجود».

تختلف كميات الشراء للأسماك داخل الحلقة من تاجر لآخر، وفق ما قال «حسين»، كما تختلف حسب نوعية الأسماك نفسها، فكلٌ يشترى حسب مقدرته: «ممكن نوع سمك يبقى بـ10 جنيه، ونفس النوع يكون بـ100 جنيه، بس ده كبير والتانى صغير مثلاً»، كما يحكم عملية الشراء بصورة كبيرة بعد ذلك المزاد المنعقد على الكمية المطلوبة: «ممكن يبدأ المزاد بـ300 جنيه وتوصل لـ600 جنيه».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل