المحتوى الرئيسى

نحن لا نتحدث لغة واحدة

04/07 21:55

ليست اللغة حروفاً وحديثاً فقط، كما أنه ليس كل ما يربط الناس هو لغات واحدة، وإنما هناك أمور تربط البشر بعضهم ببعض. وقد تمكنت تلك الأمور من عبور الحدود المادية، وتغلبت على اختلاف اللغات والثقافات. إنها التكنولوجيا. أي علم ودراسة المهارات. ولها مرادفتان عربيتان، وهما: التقنية والتقانة. فهي التطبيق العملي للمعرفة بغرض الحصول على نتائج تساعد على تطور الحياة من كل النواحي، كتوفير الوقت والجهد والمال. فالكمبيوتر أو جهاز الحاسب الآلي ما هو إلا تطبيق عملي لبعض النظريات العلمية.

وتعتبر تكنولوجيا المعلومات هي أحد فروع التكنولوجيا. ويعتني هذا الفرع بتطوير أنظمة التعامل مع المعلومات ومعالجتها بمختلف أنواع العمليات كالجمع والتخزين والتصنيف والبحث والترتيب والإرسال. وقد صارت تكنولوجيا المعلومات من أهم اللغات التي تساعد على ربط الاختلافات والمتباينات سواء على المستوى الإنساني أو على المستوى المادي.

وتعد مسألة "تكميم"quantification العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلوم القانون وعلم الاقتصاد وعلم الفلسفة وعلم المنطق من الإشكاليات التي حدت ببعض دارسيها إما إلى رفض تكميم كل المعارف المرتبطة بها، أو تحدي تلك الإشكالية بمحاولة الاقتراب- قدر المستطاع- من عمليات التكميم باعتبار العلوم الإنسانية علوماً كالعلوم الطبيعية، وإن كانت ليست علوماً ماديةً بحتةً Hard science.

وأعد نفسي من مناصري المدرسة الثانية التي تقبل التحدي بسبر أغوار تكميم العلوم الإنسانية. وكانت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في مقدمة تلك المدارس من الناحية المؤسسية، حيث أنشأت أقساماً ومعامل للتعامل مع المعلومات والمعارف في علوم السياسة والاقتصاد بشكل كمي قابل للقياس في إطار أقسام لتقنية المعلومات.

وهذا التحيز العملي والمنهجي لا يخلو من مبررات تتعلق بالواقع المعاش من جهة، وتطور التعاملات مع المجتمع الدولي من جهة أخرى. إذ ليس من المعقول ونحن في الألفية الثالثة ألا نتحدث نفس لغة العالم، وهي لغة التكنولوجيا، وبالأخص لغة تكنولوجيا المعلومات، كما أنه ليس مفهوماً أن نتعثر داخلياً عن الاقتناع بأننا أيضا لابد أن نتحدث لغة واحدة نتجاوز بها اختلافنا المعرفي والعلمي، ونربط من خلالها التقدم العلمي بالمجتمع.

وفي الواقع صار يؤرقني- كما يؤرق الكثيرين- الفصام بين السياسي والإداري، والسياسي والتقني، والتقني والإداري، والقانوني والتقني. وهذا الفصام له مؤشرات وانعكاسات على تطور الحياة في مصر الحبيبة. إذ لا يمكن أن نبرع في تأمين أطر مؤسسية لربط قواعد بيانات، أو تأسيس مجالس عليا للمعلومات وأمن المعلومات والبرمجيات والشبكات، ولا نلمس آثار ذلك على الأرض.

وقد علمنا من دراسة نظريات التحديث أن تحديث أي مجتمع لا يمكن أن يتم بشكل مجتزأ، إذ لابد- وفقاً لعالم الفلسفة الألماني هيجل- أن تسير كل عناصر التحديث جنباً إلى جنب، أي يتواكب التحديث الاجتماعي مع التحديث الثقافي مع التحديث الاقتصادي مع التحديث السياسي، وألا يتخلف عنصر عن بقية العناصر في حركتها نحو التحديث.

وإذا كانت تقنية المعلومات تهدف إلى تحسين نمط حياة البشر وزيادة ارتباطهم وتضييق الفجوات المعرفية والتنموية، فإنه بتطبيق الترابط السابق على واقع المجتمع نجد أننا مازلنا مراوحين مكاننا، وإن تحركنا فهي حركة بطيئة تتخللها خلافات أكثر منها بدائل للحل. كما تتصف بالانقطاع التاريخي والفكري، بالإضافة إلى تغلغل المصالح بها بما لا يساعد على حماية حركة التحديث المجتمعي التقني، وبما يؤخر جني ثمارها.

كما توجد تحديات مركبة قد لا نلتفت إليها، وهي: إن الناس لن تنتظر، فقد صارت حركة المجتمع وحركة الأجيال التقنية أسرع كثيراً من حركة الأنظمة، مثلما قد لا نلحق بركاب القفزات التقنية التي يقفزها العالم نحو الأمام في مجالات الذكاء الاصطناعي والكتل المعلوماتية الرقمية.. وتأثير كل ما سبق على قطاعات التجارة والخدمات.

مازلنا- كمجتمع مصري- نعاني عند أداء أية معاملات ورقية، وجميعنا يتساءل ما هي الأسباب التي تحول دون أن نحصل على خدمات رقمية؟ وما الذي يؤخرنا حتى الآن. بل قد نتساءل أيضاً: إلى أين وصلنا؟ وقد يحاول بعضنا حصر الخسائر الاقتصادية والمالية والفرص الاستثمارية المهدرة والمخاطر المحدقة بنا إن تخلفنا عن هذا الركب؟

فهل هناك من لا يزال يقاوم لغة التقانة، أو غير مقتنع بأهميتها في تحقيق عدالة توزيع الفرص والخدمات وزيادة الثقة في الجهاز الإداري والنظام السياسي والاقتصادي؟

كما يطرح ما سبق تساؤلاً محورياً حول مدى فهم واقتناع الجهاز الإداري بأهمية التضمين التقني لكل المعلومات وفتح المجال لمشاركة موظفي الخدمة المدنية في هذا التضمين والاندماج التقني. كما يثير تساؤلاً يتعلق بعامل الزمن، لأننا- وبحق- نتعامل مع تحدٍ كبيرٍ، وهو تحدي الزمن، وضعف الخطط الزمنية للانتهاء من الخدمات الإلكترونية أو بشكل أدق الخدمات المقدمة من خلال تقنيات متنوعة تناسب فئات المجتمع المختلفة.

وهنا يحضرني أيضاً تحديث آمل أن يجد طريقه إلينا وهو الإيمان بأهمية تطبيق تقنية المعلومات في التحول الديمقراطي عبر عمليات التصويت والاقتراع الإلكتروني في الانتخابات. ونحن في هذا الشأن لن نبدأ من الصفر، إذ كانت هناك إرهاصات لهذا التحديث في حكومات مصر المتعاقبة منذ ٢٠١١ بهدف تشجيع الشعب المصري في الداخل والخارج على المشاركة في الحياة السياسية. وهنا لا يمكن فصل هذا التقدم عن التحول إلى المجتمع الرقمي، إذ- كما سبقت الإشارة- وفقاً لنظرية التحديث يجب ألا نتحول تقنياً في مجال دون غيره. وقد كانت دولة إستونيا- إحدى دول البلطيق التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي السابق عقب تفككه- أول دولة في العالم تطبق عام ٢٠٠٧ التصويت الإلكتروني في الانتخابات البرلمانية من خلال الإنترنت i-voting عبر منظومة آمنة ومحكمة. وهو نظام شجع المواطنين على الإدلاء بأصواتهم فزادت نسب المشاركة بنحو ٦٪ ، كما مكن الجميع من الوصول لمراكز الاقتراع بدون تكاليف باهظة، ونجح في دمج كل فئات المجتمع في المشاركة السياسية بسبب ثقة المقترعين في النظام الإلكتروني.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل