المحتوى الرئيسى

الحرب هي ممارسة السياسة بوسائل أخرى

03/22 10:37

نادراً ما نجد مدرسة من المدارس العسكرية الحديثة لا تتأثر بآراء المُنظّر العسكري البروسي (الألماني) كارل فون كلاوزفيتز، فمن بين أكثر آرائه شهرة قوله بأن "الحرب هي ممارسة السياسة بوسائل أخرى."

ولكن هناك ثمة اتفاقاً بين الجيوش الغربية، على اختلاف مشاربها وحلفائها وشركائها، على أن العلاقة بين الحرب والسياسة علاقة في غاية التعقيد، وإن كانت الجيوش تجمع على فكرة أنها "لا تمارس السياسة". ولكن هذا الرأي يحتاج إلى إعادة نظر، إذ طالما أن أعداءنا يتبنون رأي كلاوزفيتز، فعلينا نحن أيضاً أن نفعل الشيء نفسه، فالجماعات المختلفة مثل القاعدة وداعش وحماس وطالبان والحشد الشعبي والإخوان وغيرها، وكذلك بعض الدول مثل كوريا الشمالية وروسيا وإيران وتركيا وقطر أيضاً، جميعهم يتبنون الرأي الذي يربط الحرب بالسياسة سعياً منهم لتحدي شرعية النظام العالمي الراهن. 

كلنا يعرف نظرية أجيال الحروب، وهي النظرية المعنية بكيفية تنظيم الجيوش وتدريبها وتسليحها وفيما يتم استخدامها، ونجد أن الأجيال الثلاثة الأولى للحروب تركز على الصراع المسلح بين الدول بمعنى أن الجيش النظامي لدولة ما يقوم بتطبيق مختلف التكتيكات واستعمال التقنيات الحديثة ضد الجيش النظامي لدولة أخرى؛ بهدف الإطاحة بالدولة الوطنية إلى غاية سياسية في نهاية المطاف.

 ويجدر التنويه بأنه من المفترض أن الدولة التي تدخل في حرب مع دولة أخرى تعترف كل منهما بشرعية الأخرى، ولكن لا تعترف دائمًا بشرعية قائدها، ومن ثم فإنه من المقبول الحفاظ على الوضع الراهن للدولة أثناء الحرب، أما السياسة والاقتصاد والثقافة فهي أمور أخرى ثانوية ليس لها علاقة بالحروب، فالتكلفة البشرية والمالية للحرب دائمًا يُنظر إليها على أنها من القيود التي تقف أمام قرار شن الحرب كما أنها تعيق القدرة على الدخول في حرب مع دولة ما، أما الجيل الرابع من الحروب فيرفض تماماً فكرة مشروعية الوضع الراهن في أية دولة من دول العالم أياً كانت، وعليه، فإنه يبيح للطرف الفاعل، سواء أكان فرداً أم دولة، أن يلجأ إلى استخدام كل ما تصل إليه يده من أدوات ووسائل، بما فيها السياسية، والاقتصادية، والثقافية، ناهيك عن العنف، في سبيل الإطاحة بالنظام واستبداله بآخر. 

والجماعات المتطرفة تستعمل كل العناصر في إعداد استراتيجية متماسكة لتقويض قوة معارضيها وإرادتهم لتفقدهم قدرتهم على المقاومة، ولعلنا نرى استخدام روسيا لجنودها المعروفين باسم "الرجال الخضر الصغار little green men " لإعادة رسم حدودها، وكذلك إيران التي أنشأت جماعات ضغط بالوكالة، نظامية وغير نظامية وعبر المراكز الثقافية والتعليمية في القارة الأفريقية والآسيوية لتصدير ثورة الخميني. وقطر التي شهدت تحولاً أيدولوجيا في سياستها أصبحت داعماً رئيسياً للجماعات الإرهابية.

الجميع اطلع منذ أيام على تقرير نيويورك تايمز والفدية الأسطورية التي دفعتها قطر لمجموعة معقدة من التنظيمات كالحشد الشعبي وحزب الله والنصرة، والتي ترواحت ما بين 700 مليون دولار إلى المليار.  

قطر اليوم بإمكانياتها العسكرية أبعد من أن تشن هجوماً عسكرياً على أية دولة، إلا أنها تمثل خطراً على المجتمع الدولي من خلال تمويلها للجماعات المتطرفة؛ وتحريضها على العنف والكراهية عبر شبكة الجزيرة وتعاونها مع إيران وتركيا، ومن هنا نستطيع القول بأن هذه الدول تسعى لتغيير الوضع الراهن ولذا نجدها تخلق فوضى سياسية، فالأدوات السياسية والعسكرية والأمنية للدولة الحديثة هائلة ومرعبة ومكلفة أيضاً، ويبدو أنها تدعم فكرة أن الحرب والسياسة تظلان طرفي النطاق للدولة المركزية، بل حتى السياسة التقليدية مكلفة أيضاً -فالمرشحان لانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016 أنفقا على الحملة الانتخابية أكثر من 942 مليون دولار، أي ما يعادل 3.4 مليارات درهم إماراتي.

وكما قرأنا في الصحف الأمريكية فان أقل من ثلث هذا المبلغ، والذي هو 275 مليون دولار أمريكي أي ما يعادل مليار درهم إماراتي قد أنفقته مجموعات خارجية أو مجموعات ليس لها علاقة بالحملة الانتخابية لتأييد أحد المرشحين؛ دون أن يكون لأي من المرشحين سلطان على أي منها، وهذا الانتقال من التحكم المركزي إلى نظام أكثر سيوله هو أدق ما يصف حروب الجيل الرابع، فالمجتمع المدني الأمريكي من خلال الإعلام – طبعاً - ذكر أن فقدان التحكم في إنفاق مبلغ كبير كالذي أنفقته الحملة الانتخابية 2016 لهو أمر موجع واعتبره البعض كارثة، مما أثار القلق والتشكيك في شرعية الانتخابات، وإن كنا نرى أموراً مشابهة في الحروب، وكما فقدت الأحزاب السياسية السيطرة على العملية الانتخابية، فإن الدول التي تسعى إلى قيادتها فقدت هي الأخرى "شرعية احتكار استعمال العنف"، وتركته للحركات غير الشرعية والتنظيمات الإرهابية والمجموعات الخارجة عن القانون، والتي يتزايد عددها مع الوقت، كما أن الوصول غير المكلف للعملية السياسية والأسلحة الخفيفة وأجهزة الحاسب الآلي المحمولة والطائرات بدون طيار المتاحة تجارياً -يتساوى ذلك مع سهولة استعمال الهواتف النقالة وشبكات التواصل الاجتماعي من حيث تقليل عوائق الدخول في الصراع؛ بجانب إتاحة الأسلحة غير المكلفة -كل ذلك قد سمح لجماعات العنف أن تطالب بالوصول إلى العمل العام والاحتفاظ به بعد تحقق الوصول إليه، وسبيلنا لفهم أثر الجيل الرابع من الحروب -وهو مرحلة ما بعد الحرب النظامية- هو التركيز على أهداف تلك الجماعات والتقنية التي تستخدمها. 

إن أول ما علينا فهمه هو أن هدف الجيل الرابع من الحروب ليس الجيوش كما كان الحال مع الأجيال الثلاثة السابقة، وإنما الهدف هو تدمير المجتمع نفسه، وهذا يحيلنا إلى استهداف غير المعنيين بالصراع للضغط على الحكومات أو المجتمع بهدف إحداث تغيير وهذا هو ما يعرف بالإرهاب، وهذا الأمر ليس جديداً، فقد مرت عقود من الهجمات الإرهابية التي أدت إلى إيجاد وسائل أمنية متقدمة لحماية المجتمع.

ولكن كما رأينا سلسلة العمليات الإرهابية التي ضربت المجتمع المدني بالعمق واستهدفت عدة عواصم ومدن أوروبية وأمريكية، في نيس ولندن وبرشلونة ومانشستر وبروكسل وفرانكفورت وستوكهولم ونيويورك، فالمجموعات الإرهابية تحاول مواجهة الوسائل الأمنية باستخدام وسائل هجوم حديثة لا تحتاج لمراكز تدريب، مثل التي شهدناها في أفغانستان للقاعدة لحرب العصابات، فالمركبات اليوم أو عمليات الدهس أداة لتنفيذ هجماتهم ضد التجمعات العفوية للناس قد تودي بحياة عشرات الأشخاص لا تفرق بين عربي أو أجنبي، مسلم، مسيحي، أو يهودي الجميع ضحية، والأكثر من ذلك أن الإرهابيين وغيرهم يحولون الأدوات العادية التي نستخدمها يومياً إلى أسلحة تهاجم أهم أركان المجتمع، وهي ثقة أفراد المجتمع في بعضهم البعض وقتل الشعور بالأمان والطمأنينة، و إذا لم يثق أفراد المجتمع في بعضهم البعض وفي أجهزتهم الأمنية فإن حمايتهم ستكون أمراً صعباً إلى حد ما، وعلى مستوى الدولة فإننا نستطيع أن نرى مسألة الشرعية بجلاء ووضوح في الحرب الدائرة في سوريا، حيث تتفق فصائل المعارضة أن نظام الأسد قد فقد شرعيته للحكم، لكن هذه الفصائل مختلفة في مسألة دولة ما بعد الأسد، والنظام يرفض هذه الفكرة، ويرى أنه لا يزال يمتلك الشرعية، وأن حدود الدولة لا تزال كما هي، ويدلل النظام على شرعيته بعدد الناس الذين يهربون من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة إلى المناطق الآمنة التي تسيطر عليها قوات النظام، وهذا بالطبع تقويض لفكرة الشرعية، فصحيح أن الناس تهرب بأعداد كبيرة ولكنهم يفعلون ذلك لأن النظام يستهدف المدنيين والبنية التحتية لإجبار الناس على الهرب والنزوح.

الهرب إلى مناطق تسيطر عليها قوات النظام ليس اعترافاً بشرعية النظام، ولكنه أقل الخيارات سوءاً. وهناك أثر آخر لهذا التكتيك وهو لجوء السوريين الفارين من القصف إلى الدول المجاورة لسوريا مثل تركيا ولبنان والأردن وغيرها، وبالتالي خلق أزمة إنسانية ناجمة عن التدفق الهائل للاجئين -ناهيك عما تسببه من حالة دائمة من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في تلك الدول المضيفة، إذ ما يقرب من ثلث السوريين هم الآن لاجئون- هذا التدفق الإنساني من شأنه أن يغير مجتمعات تلك الدول المضيفة بصورة لا يمكن التنبؤ بها، كما أن اختلاط السوريين بلاجئين آخرين يفرون إلى أوروبا قد أثر سياسياً على ألمانيا والنمسا وبشكل أقل على إيطاليا واليونان والمجر، وقد كان هذا واضحاً في ظهور أحزاب يمينية رافضة لوجود اللاجئين في الدول المضيفة مما يزيد من اتساع رقعة العنصرية في تلك الدول. كما أن تلك الأحزاب كثيراً ما أظهرت تعاطفاً مع روسيا وتدخلها في الشأن السوري؛ الأمر الذي كان من الممكن أن يكون له بالغ الأثر على العلاقات الروسية الأوروبية.

والجانب الثاني من حروب الجيل الرابع الذي نرغب في تسليط الضوء عليه هو استخدام التقنية الحديثة، صحيح أن التقنية أمر مشترك في كل من الشؤون العسكرية والسياسية، إلا أنها لا يمكن أن تحل محل التواجد الفعلي للجيوش، لعل أوضح الأمثلة على ذلك وأكثرها إثارة للقلق هو المحاولات الروسية للتدخل في الانتخابات الأمريكية والانتخابات في بعض الدول الأوروبية، وإلى الآن لا يوجد دليل على أن روسيا قد استطاعت أن تؤثر في نتائج الانتخابات، ولكن الهدف الاستراتيجي على ما يبدو ليس التدخل لصالح نتيجة معينة وإنما التدخل بهدف زعزعة الثقة في نزاهة الانتخابات بغض النظر عن النتائج، كما أن استهداف المعلومات الإلكترونية لدولة ما ونشر تلك المعلومات على ويكيليكس يوضح كيف تستطيع الدول أن تستخدم أشكالاً جديدة من التحالفات لإجراء حرب إلكترونية بالوكالة لتحقيق أهداف سياسية، وبشكل قاطع لم يستطع الروس التدخل لتوجيه نتائج أية انتخابات، لكنهم استطاعوا أن يخلقوا فضيحة سياسية أدت إلى خلق نوع من أنواع الاستقطاب السياسي الداخلي لصالح تيار معارض، وباستغلال الانقسامات داخل المجتمع الأمريكي استطاع الروس أن يضعفوا أحد الأركان الأساسية في الصميم الأمريكي، وهذا هو مفتاح فهم الجيل الرابع من الحروب، فهو يعني سعي طرف فاعل (بصفته دولة) أو طرف فاعل (ليس دولةً) إلى إضعاف إرادة وقدرة دولة ما على مقاومة مطالبه، وذلك عن طريق جعل شعبها يدفع ثمن استمرارها في المقاومة، وهو يفعل هذا كله دون الاضطرار للزج بقواته الأمنية والعسكرية في الصراع وإنما باستخدام التقنية الحديثة.

ما الذي يمكن فعله لمقاومة هذا السعي؟ الإجابة على هذا السؤال ليست إجابة أمنية بقدر ما هي إجابة تستدعى التركيز على التخطيط الشامل للأمن والدفاع الوطني، فمواجهة تهديدات حروب الجيل الرابع أو الخامس تستدعي رداً ينتمي هو أيضاً إلى هذا النوع من الجيل. وهو رد لا تضطلع به الأجهزة الأمنية والعسكرية التقليدية، بل تضطلع به كامل مؤسسات القطاعين العام والخاص كذلك، بل  وإشراك المجتمع المدني من خلال مد أفراده من الشعب بما يلزمهم من أدوات تمكنهم من أن يصبحوا أكثر جاهزية لمواجهة التهديديات المختلفة.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل