المحتوى الرئيسى

"أم أمل" وبناتها العشر.. 37 سنة "كفاح وأمومة"

03/21 14:37

في قرية صغيرة بمحافظة القليوبية، سيدة خمسينية، يمتلأ بيتها بالضجيج في عيد الأم، إذ يتحلق حولها 10 فتيات، هن بناتها، عددهن أقرب لفريق كرة، تتسامر معهن، تسترجع الذكريات حول مولد كل بنت، كيف بدأ المشوار من طفلتها الأولى "أمل" إلى أن وصل العدد 11، توفت إحداهن. ما فعلته الأمومة بها، وما بذلته من أجلهن.

الحياة لم تمنح "أم أمل" الكثير في طفولتها. لم تُكمل تعليمها لظروف المعيشة الصعبة، الأب انفصل عنهم، والأم انهمكت في رعايتها هي وشقيقها، مررت إليها مهارة الخياطة، وشؤون الفلاحة، قبل أن تغادر إلى بيت زوجها وهي في سن الـ 18 عاما. كانت تحلم بالاستقرار والراحة "لقتني بعيد قصة تعب أمي مع ولادها، بس أنا مع 11 بنت".

في غرفتين ومطبخ وحمام مُشترك، عاشت "أم أمل" مع أسرة زوجها، يعمل الرجل خفير طوال الليل، وفي الصباح يذهب إلى قطعة أرض صغيرة قام باستئجارها "كنت جنبه دايمًا، من النجمة أقوم أروح الزريبة، أحلب البهايم، وأمشي على الغيط" ترافقه كظله "يعزق أعزق معاه، ينقي المحصول أعمل زيه" وفي المساء يحدثها الرجل عن حلمه بأن تأتي له بالولد.

بعد أشهر قليلة جائئهم البِشارة، ومع نهاية العام الأول كانت غرفتها تعج بنساء الأسرة، صراخها يملأ السماء "كنا بنولد ساعتها في البيت، مبنروحش لدكاترة" في الخارج ينتظر الزوج وصول الجنين، متمنيًا أن يكون صبيًا "وقتها مكناش بنعرف نوع المولود إلا لما يتولد" اشتد الألم عليها، تتنفس بصعوبة، قبل أن تلتقط إحداهن رأس الطفل من داخلها، لترنو لحظة صمت ثم كآبة على الوجوه "طلعت بنت، وشوش العيلة اتغيرت كأني عاملة تهمة".

سُميت الفتاة "أمل" رغم شدة الحزن الواقع على الأم لرد فعل الأسرة، والحديث معها عن ضرورة أن "تشد حيلها" حتى تأتي بالصبي في أسرع وقت، وبعد أقل من عام أعادت التجربة، الألم نفسه، الغرفة المتتلئة بالنساء، وصول الجنين إلى الحياة، ثم سحابة من الحزن تُغطي كل شيء "كأني عايشة في عزا مبيخلصشي" فيما يصر الزوج على الاستمرار في المحاولة.

طفلة تلو الأخرى، صار لديهم عائلة كبيرة من الفتيات، يعيشون جميعًا في الغرفتين، الإرهاق يمسك بـ" أم أمل" لا يتركها قط "عملت مشاكل كتيرة وقولت كفاية، بس محدش بيسمعني". كانت تحمل في مولود جديد كل عامين "ومبقاش قدامي غير إني على الأقل أخلي بالي من بناتي، وأهتم بيهم يطلعوا أحسن ناس".

على مدار العشر سنوات الأولى، تستيقظ "أم أمل" مبكرًا، تهتم بالأطفال، تذهب بهم إلى المدارس، ثم تقوم باحتياجات عائلة زوجها "وبعدين أروح الغيط، وبعد الضهر أرجع أعمل الغدا للعيلة كلها" ثم تولي البنات الاهتمام باقي الوقت.

عاشت "أم أمل" تُفكر في كيفية التقاط ضحكة حلوة من وجه إحداهن "وبليل بعد ما يناموا أطلع مكنة الخياطة وأقعد أعملهم فساتين كل البلد تتحاكى بيها" ربتهم على أن كونهن فتيات ليس سُبة أو عار، وأنهن قادرات على ما يفعله الرجال.

المكان صار ضيقًا عليها "كنت بحوش كل قرش عشان نجيب بيت لينا" حصلت على قطعة أرض صغيرة "كانت واطية متر تحت الأرض، ومن غير سور، بس قولنا أهي خطوة عشان العيال" ذهبوا إلى هناك برفقة 6 فتيات، ثم رزقهم الله بـ 5 آخريات، توفت إحداهن في حادث مروري "روحي طلعت مني وأنا شيفاها بتضيع قصادي" ثم قرر الزوج مع البنت الأخيرة "كفاية لحد كدا".

التجربة ليست ببساطة الكلمات التي تروي بها "أم أمل" قصتها للفتيات، من كثرة العدد كان الأب "بيعدهم على الأكل عشان يتأكد إن كلهم موجودين" الحِمل كبير والأيام المريرة التي عاشوها يصعب حصرها "كان فيه أيام بدعي ربنا يسترها معانا، والصبح ألاقيها مشيت من عنده واتفكت" فيما ترد على من يوجهون إليها اللوم على أسرتها الكبيرة "مكنش بإيدي ودا كان تفكير بلاد الأرياف وقتها".

ظنت "أم أمل" بعد إقناع زوجها بعدم الإنجاب مرة أُخرى، أنها ستلتقط جزء من أنفاسها أخيرًا، لكن القدر لم يمهلها. دون سابق إنذار سقط الزوج في 2008 من فوق الحمار أثناء عودته إلى البيت، نُقل إلى الوحدة الصحية "اكتشفوا إن عنده المرض الوحش" السرطان ينهش في جسده منذ زمن دون أن يدري "فضل راقد في البيت شهر" ثم مات تاركًا الأم وبناتها العشرة وحدهن.

زلزال هزّ البيت "كنا في دمار، العيشة اتخلطبت مر واحدة، هنعيش إزاي من غير جوزي وانا معايا بنات ياما" مرت عدة أشهر في تيه، الأسرة في مهب الخطر، الخوف والقلق ضيفان لا يغادران مطرحهما "لغاية ما ربنا هداني وفوقت لعيالي، ورجعنا نمشي على الطريق اللي هو سايبهولنا".

عادت إلى الغيط من جديد، رفقة بناتها، تعلمهن كيفية اختيار المحصول، الزراعة والحرث، طريقة الحصاد "وبعد ما نجمع المحصول أروح أي سوق وأبيعهم، لأننا محتاجين لأي فلوس" لم يمد أحد إليهم يد المساعدة "بناتي مكنش ليهم غيري، كنت بشيل همهم بإيدي".

النصائح المجانية ما أكثرها "اتقالي طلعي بناتك من المدارس، وفري المصاريف" رفضت، دافعت عن أحلام فتياتها "بقيت بقطع من قوتي عشان أوديهم المدارس" يُقال لها ستربي ثم يأخذهم غيرك من "العرسان" لكنها تصمد في رأيها "مش عايزاهم عيشوا عيشتي، لو كنت متعلمة مكنتش أكيد هأمشي في نفس الطريق، وأتعب نفسي بكل العدد دا من الخلفة".

مع كل هذا "الشقا" بدأ جسدها في التداعي "بقيت بتعب بسرعة، ومش بعرف أتحرك زي الأول" شعرت أن السير على نفس الطريق لن يصل بها إلى البر مع البنات "بيعت الجاموسة، وسبنا الفلاحة، ودورنا على حل تاني" وجدوه في التحاق الكبار من الفتيات بالمصنع المجاور، الخاص بعمل الأدوات الطبية مثل الشاش والقطن "ويدرسوا في نفس الوقت، وأنا أقعد أراعيهم وأساعد من البيت".

زوجت الأم 3 فتيات بعد وفاة الأب، ليصبح عدد الذين غادروا البيت منهن 4 بنات "كنت بخاف على بناتي، أسأل كتير عن العرسان، ممكن أخد شهر شهرين لحد ما أطمن" فيما بقى معها 6، جميعهن في مراحل دراسية مختلفة، إحداهن بجامعة عين شمس، والباقيات في ثانوي وإعدادي وابتدائي "بعاملهم كلهم زي بعض، في الفلوس والمحبة وكل حاجة"

البيت تغير عن أيامه الأولى، أدركت الأم أهمية أن تحفظ نفسها وبناتها من التلصص ومضايقات المارة "عملنا سور بدل ما كانت الناس بتعدي وتقدر تطل علينا" تحول من غرفة واحدة إلى 4، تتوزع بينهم الفتيات وفناء كبير.

كل هذا لا يهمها بقدر تمتع المنزل بالحياة "البنات مالين عليا الدنيا، بنقعد مع بعض على طول سواء نتكلم أو نتشاكل" تؤكد على أهمية المساواة بينهن في كل شيء "حتى لو ضربت واحدة لازم أضرب باقي أخواتها "تذكرها ضاحكة.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل