المحتوى الرئيسى

"جرائم المناسَبة": حلقات عنف مخفيّة في لبنان

03/17 22:02

إنها السابعة صباحاً. استيقظ أحمد (21 عاماً) في إحدى قرى البقاع الأوسط على صوت إطلاق نار وتبادل شتائم. شعر بقلبه يخفق بشدة. لم تكن المرة الأولى التي يصحو فيها على صوت مماثل، لكنه كان مستغرقاً في حلم جميل. عدا ذلك فهو اعتاد تسلّي بعض شباب الحارة بالسلاح. لا توقيت محدّد لهم. حسب المزاج.

القلق نفسه عاشته صونيا (47 عاماً)، التي تعمل مندوبة مبيعات لإحدى شركات التجميل وتقضي معظم يومها متجوّلة على الطرقات في العاصمة بيروت.

"كنت أقود سيارتي على الشارع الرئيسي بينما كان أحدهم خارجاً من طريق فرعي. لم أنتبه له لكنه اعتبر أن أفضليّة المرور من حقه، وعدم وقوفي له إهانة… تبعني بسيارته ذات الدفع الرباعيّ واعترض طريقي، ثم صوّب مسدسه باتجاه رأسي وهو يطلق كل الشتائم الذكوريّة التي يعرفها"، تروي صونيا.

وتقول: "أصبحت أعيش في خوف دائم، على نفسي وعلى عائلتي. لبنانيون كثر باتوا سريعي الغضب، والرصاصة القاتلة قد تخرج من سلاح أحدهم في أيّة لحظة، ولسبب تافه".

تجد صونيا ما يبرّر خوفها. لقد وقعت جرائم قتل عديدة في لبنان في السنوات الأخيرة لسبب مماثل، كما حصل مع الشاب روي حاموش الذي قُتل نتيجة إشكال على أفضليّة المرور. قبله قُتل كلّ من خليل القطان وطلال العوض بسبب "كوب نسكافيه"، وبعده قُتل مكرم ملاعب بسبب "الموسيقى"، وغيرهم كثر.

تُذكّر تلك الجرائم برواية "الغريب" لألبير كامو، حين قَتَل بطل الرواية المدعو ميرسو، على أحد شواطئ الجزائر، أحدهم (لا نعرف اسمه) بخمس طلقات من مسدس. عندما سألوه في المحكمة عن السبب أجاب بأنها "حرارة الشمس الشديدة، والعرق الذي غطى جفونه، والملح الذي ذاب على عينيه، والبحر الذي يطلق هواءً ساخناً والصداع الذي يدّق شرايينه تحت الجلد".

حينها ضحك الحاضرون في مكان لا يضحك فيه أحد. وبالخفّة نفسها، التي أثارت الضحك أحياناً على وسائل التواصل الاجتماعي، حجز "النسكافيه" لنفسه مكاناً بين "الكوسا" و"البيجاما" و"الكلب" و"أفضلية المرور" كسبب لارتكاب جريمة في لبنان.

جرائم القتل المجانيّ في لبنان عام 2017

عمر كنجو - 20 عاماً

قتل بثلاث رصاصات بعد إشكال وقع بينه وبين شخص يُعرف بـ”الرز”، على خلفية شراء دراجة نارية

حسين علاء الدين - 50 عاماً

الشياح - الضاحية الجنوبية لبيروت

بعدما انزعج مالك إحدى الدراجات النارية من كيفية إصلاح دراجته، مضى مع اثنين من عائلته إلى إطلاق النار باتجاه مقهى يملكه شقيق صاحب محل الدراجات. قتل ح. ع. من دون أن يكون له علاقة بالإشكال وسقط عدد من الجرحى

أديب محمد حيزان - 20 عاماً

اوتوستراد هادي نصرالله - الضاحية الجنوبية

كان موظفاً في مطعم. تلاسن مع زبون، فعمد الأخير إلى قتله بالمسدس الذي بحوزته وجرح عامل آخر

خليل القطان - 49 عاماً وطلال العوض - 59 عاماً

قب الياس - البقاع الغربي

قُتلا قرب عربة القهوة التابعة للعوض، بعد إشكال سببه “فنجان نسكافيه” كان قد طلبه مارك يمين الذي أطلق النار على صاحب العربة وصديقه

محمد الضناوي - 40 عاماً

قُتل بسبب إشكال مع شبان على خلفية “التشفيط” بالسيارة. كان الضناوي ماراً بسيارته مع صديقه حين أوقفه شبان من المحلة، وانهالوا عليه بالضرب المبرح بحجة إصدار أصوات مزعجة بسيارته، في وقت حمّل صديقه الإشكال أبعاداً سياسية

روي حاموش - 23 عاماً

بعدما أنهى الاحتفال بعيد ميلاده مع صديقه حصل احتكاك طفيف خلال عودتهما مع سيارة أخرى داخلها ثلاثة شبان. غضب صاحب السيارة فبدأ بتحطيم وضرب سيارة روي وصديقه بشكل هستيري. وعده الشابان بالتعويض عليه، لكنه أطلق النار عليهما لتستقر إحدى الرصاصات في رأس حاموش الذي قتل فوراً

عمار الأشقر - 28 عاماً وعلي عيد - 20 عاماً

تطور إشكال بسبب أفضلية المرور من تلاسن وتضارب بالأيدي إلى اشتباك مسلح أدى إلى مقتلهما

محمد ي. وسوريّان يعملان في المنطقة

عندما حاول والد علي ي. (14 عاماً) تجريده من بندقية الصيد “الأوتوماتيك”، أطلق الأخير عليه النار فأرداه. ثم راح الجاني يطلق النار على كل من يصادفه وهو خارج من المبنى. والحصيلة قتيلان، إضافة إلى الوالد، وعدد من الجرحى

جان حب الله وزوجته إيزابيل وابنهما جان بول - 34 عاماً وجارهم أنطون الشدياق - 70 عاماً

انزعج المؤهل الأول في الأمن العام طوني سمعان من نباح كلب الجيران، فحدث تلاسن بينه وبينهم، قام على إثره بقتل العائلة التي تملك الكلب، بالإضافة إلى الجار الذي حاول فض الإشكال

بسام طانيوس مطر - 36 عاماً

بينما كان طانيوس يقطف الكوسا من أرضه المتداخلة مع أرض شخص آخر، حدث تلاسن بين الطرفين على خلفية القطاف، فقُتل طانيوس بسبع رصاصات، ثم اتصل الجاني بشقيق المغدور ليبلغه بالجريمة

جورج الريف - 45 عاماً

يعد أشهر ضحايا جرائم الموت المجاني في لبنان. بعد مزاحمة القاتل طارق يتيم للريف وزوجته على الطريق محاولاً تجاوزهما، لكن الريف لم يسمح له بذلك. لحق يتيم بالضحية وأنزله من سيّارته، ثم قتله في الشارع العام طعناً وضرباً على مرأى من المارة وأهل المحلة. صدمت الجريمة الشارع اللبناني، خصوصاً أنها صُورت كاملةً

قتل بثلاث رصاصات بعد إشكال وقع بينه وبين شخص يُعرف بـ”الرز”، على خلفية شراء دراجة نارية

بعدما انزعج مالك إحدى الدراجات النارية من كيفية إصلاح دراجته، مضى مع اثنين من عائلته إلى إطلاق النار باتجاه مقهى يملكه شقيق صاحب محل الدراجات. قتل ح. ع. من دون أن يكون له علاقة بالإشكال وسقط عدد من الجرحى

كان موظفاً في مطعم. تلاسن مع زبون، فعمد الأخير إلى قتله بالمسدس الذي بحوزته وجرح عامل آخر

قُتلا قرب عربة القهوة التابعة للعوض، بعد إشكال سببه “فنجان نسكافيه” كان قد طلبه مارك يمين الذي أطلق النار على صاحب العربة وصديقه

قُتل بسبب إشكال مع شبان على خلفية “التشفيط” بالسيارة. كان الضناوي ماراً بسيارته مع صديقه حين أوقفه شبان من المحلة، وانهالوا عليه بالضرب المبرح بحجة إصدار أصوات مزعجة بسيارته، في وقت حمّل صديقه الإشكال أبعاداً سياسية

بعدما أنهى الاحتفال بعيد ميلاده مع صديقه حصل احتكاك طفيف خلال عودتهما مع سيارة أخرى داخلها ثلاثة شبان. غضب صاحب السيارة فبدأ بتحطيم وضرب سيارة روي وصديقه بشكل هستيري. وعده الشابان بالتعويض عليه، لكنه أطلق النار عليهما لتستقر إحدى الرصاصات في رأس حاموش الذي قتل فوراً

تطور إشكال بسبب أفضلية المرور من تلاسن وتضارب بالأيدي إلى اشتباك مسلح أدى إلى مقتلهما

عندما حاول والد علي ي. (14 عاماً) تجريده من بندقية الصيد “الأوتوماتيك”، أطلق الأخير عليه النار فأرداه. ثم راح الجاني يطلق النار على كل من يصادفه وهو خارج من المبنى. والحصيلة قتيلان، إضافة إلى الوالد، وعدد من الجرحى

انزعج المؤهل الأول في الأمن العام طوني سمعان من نباح كلب الجيران، فحدث تلاسن بينه وبينهم، قام على إثره بقتل العائلة التي تملك الكلب، بالإضافة إلى الجار الذي حاول فض الإشكال

بينما كان طانيوس يقطف الكوسا من أرضه المتداخلة مع أرض شخص آخر، حدث تلاسن بين الطرفين على خلفية القطاف، فقُتل طانيوس بسبع رصاصات، ثم اتصل الجاني بشقيق المغدور ليبلغه بالجريمة

يعد أشهر ضحايا جرائم الموت المجاني في لبنان. بعد مزاحمة القاتل طارق يتيم للريف وزوجته على الطريق محاولاً تجاوزهما، لكن الريف لم يسمح له بذلك. لحق يتيم بالضحية وأنزله من سيّارته، ثم قتله في الشارع العام طعناً وضرباً على مرأى من المارة وأهل المحلة. صدمت الجريمة الشارع اللبناني، خصوصاً أنها صُورت كاملةً

وُصفت تلك الأسباب بالتافهة، لكن جرى تكريسها إعلامياً كدافع لارتكاب الجرائم التي وقعت، ولعب التركيز على "تفاهة" الأسباب دوره في تمييع أسباب أخرى قد تكون وراء هذا النوع من الإجرام وفي صرف النظر عن مسؤولين آخرين عنه.

أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن تلك الجرائم هو توصيفها بـ"العبثيّة". لكن حسب المتخصص في علم الجريمة عمر نشّابة، فإن هذا التوصيف غير دقيق، لا بل ينزع عن تلك الجرائم أسبابها المنطقية.

"نطلق على هذا النوع من الجرائم اسم جريمة المناسبة. الشخص العصبي/ الموتور/ العنيف لا يكون بالضرورة مجرماً، إلا إذا توفرت المناسبة التي أدّت إلى تفعيل هذه الصفة لديه، وبالتالي ارتكاب فعل جرمي"، يوضح نشّابة.

هذا التحقيق وضع لنفسه منذ البداية هدفاً هو السعي لإعادة تركيب مجموعة من الحلقات التي تربط "جرائم المناسَبة" بعضها ببعض في لبنان، والذهاب أبعد من الأسباب المباشرة "المضحكة" لتلك الجرائم.

انتشار السلاح والتراخي في ضبطه، الثغرات في قانون الأسلحة والذخائر، التركيبة الاجتماعية الضاغطة، التدخل السياسي في القضاء، الأجهزة الأمنية المتعددة وتنافسها… كلها مسائل تظهر كحلقات في سلسلة لا تؤدي كلّ واحدة منها بالضرورة إلى ارتكاب فعل جرمي، لكنها تخلق مناخاً عاماً يشعر فيه مرتكب الجرم بفائض من القوة - يقابله تراخٍ في المحاسبة - يسهّل اعتداءه على آخر، وصولاً إلى قتله.

في نهاية عام 2017، كانت بيانات قوى الأمن الداخلي قد سجّلت وقوع 124 جريمة قتل خلال 12 شهراً. وبحسب البيانات نفسها، سجّل عام 2016 وقوع حوالي 118 جريمة وعام 2015 أكثر من 155 جريمة.

"انخفض العدد نسبياً عن الأعوام السابقة"، يعلّق رئيس العلاقات الإعلامية في قوى الأمن الداخلي العقيد جوزف مسلّم، مردفاً: "لكن بشاعة الجرائم التي تُسجّل غيّرت نظرة المجتمع إلى نفسه، وارتفاع عدد الجرائم المجانيّة يبقى مخيفاً في بلد صغير كلبنان".

ومع كل جريمة تقع كانت حياة كثيرين تتغيّر إلى غير رجعة، أكانوا من جهة عائلة القتيل أو من جهة عائلة القاتل. البعض نجح في ضبط ارتدادات الجريمة، والبعض الآخر غرق في دوّامة الدم.

لحظتان كانتا كفيلتين بتغيير حياة رحاب إلى الأبد. الأولى حين سقط ابنها البكر مكرم (23 عاماً) على الأرض مضرّجاً بدمائه، إثر تعرضه لإطلاق نار من ابن قريته زاهر؛ والثانية حين أبلغها الأطباء بوفاته بعد يومين في مستشفى الجامعة الأمريكية.

كان قد مرّ شهران بالتمام على مقتله، في الخامس من ديسمبر 2017، حين استقبلتنا رحاب في منزل العائلة في قرية بيصور الجبلية الوادعة (قرية من قرى قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان، وتبعد عن مدينة بيروت حوالي 18 كيلومتراً).

بينما كانت تستعرض صوراً حديثة نسبياً لها مع مكرم ووالده مروان وأخيه بهاء وأخته غنى، بدت الأم الأربعينية في الصور أصغر بسنوات كثيرة.

"يا حياتي، يا حياة قلبي، يا عمري". تخاطب رحاب صور مكرم المنتشرة في كل أنحاء المنزل، كما لو أنه أمامها ويسمع ما تقوله.

"كان مستعجلاً على كل شيء، وكلّه حماسة. يلقبّه أصدقاؤه بأبو حماس. بدأ ببناء منزل وكان ينتظر بفارغ الصبر إنهاءه ليتقدم لخطبة حبيبته بعد أشهر قليلة. أراد شرب الحياة دفعة وحدة. لكنه حلم انطفأ بلحظات، وكأنه لم يكن هنا".

كل مَن سألناه عن رحاب في القرية أجاب: "امرأة جبّارة". لم تبكِ وظلّت تردّد إنه "قدرها".

"أحاول ألا أبكي أمام العائلة. الكلّ خاطرهم مكسور ولا أريد أن أوجعهم أكثر"، تقول رحاب وتسرّ لنا بأنها تنتظر يومياً مغادرة زوجها مروان إلى العمل وولديها إلى المدرسة، لتبدأ بشمّ ثياب مكرم الباقية في "حقيبة الخدمة" (كان عنصراً في جهاز الأمن العام اللبناني) وملاءات سريره التي رفضت غسلها، بينما ترفض الخروج من المنزل.

ولكن ما الذي يضع يوميات عائلة عادية، برتابة صباحاتها ومساءاتها، فجأة أمام أعين العالم، وكل الاحتمالات والأسئلة المفتوحة؟

إنها الجريمة التي وقعت عند الثالثة فجراً، عندما كان مكرم وأصدقاؤه الثلاثة يسهرون قريباً من منزل زاهر ملاعب. تقول الروايات إن الأخير انزعج من صوت الموسيقى الصادر عن الشباب، فوقع تلاسن بين الطرفين، أعقبه إشكال ثم إطلاق نار من رشاش حربي أودى بحياة مكرم.

تتعدد الروايات بشأن تفاصيل تلك الليلة، لكنها تجمع على أن سبب الإشكال لا يستأهل القتل، فيما لم تكن تجمع القاتل والقتيل، مع أنهما من القرية نفسها ومن عائلة واحدة، أية معرفة سابقة.

الخوف من توسّع الإشكال هدأته ردّة فعل الوالد الذي طالب الجميع بالتروّي، وتدخل البلديّة التي تَجمع كافة الأطراف السياسية في قرية بيصور، من الحزب الاشتراكي والسوري القومي والديمقراطي اللبناني.

"عندما سمعنا بالخبر ليلاً، كان كلّ همّنا حصر الحادثة"، يقول رئيس بلديّة بيصور نديم ملاعب.

عملت البلديّة على تسليم القاتل بعد ساعتين على وقوع الحادثة، في حين طلبت من عائلته التوجه إلى المستشفى للوقوف جنب أهل مكرم.

"عدم وفاة مكرم على الفور، أعطى مهلة للتحرك وتهدئة النفوس"، يقول رئيس البلدية مردفاً: "ما ذنب الناس التي كانت نائمة في منازلها؟ ما ذنب عم القاتل مثلاً؟ بالمنطق والعقل، عائلة القاتل لم تحرّضه على ارتكاب جريمته، فلماذا تدفع ثمن تهوّر ابنها؟".

مع ذلك، لا بدّ لعائلة القاتل، أي قاتل، من أن تدفع ثمناً وحتى لو لم يكن لها ذنب في الجريمة.

"في الأعراف المتبعّة، وتحديداً في القرى، على عائلة القاتل أن تحيّد نفسها. طلبنا من أهل القاتل إقفال منزلها ومغادرته، كما غادر مستأجرو محال يمتلكها هؤلاء وتقع تحت منزلهم وبجواره، لا سيما أن الجريمة وقعت هناك"، يوضح رئيس البلديّة.

صور مكرم منتشرة في القرية، في حين يبدو منزل القاتل، الذي كان يعيش مع والده ووالدته، دون حياة، وكذلك منازل أعمامه.

لا يشتكي هؤلاء، ومنهم عمّ زاهر، رؤوف ملاعب، الذي أصرّ على تعزية عائلة مكرم وشكرها على موقفها النبيل، واستنكر تلك الجريمة البشعة.

بعد ثلاثة أيام من الحادثة، طُلب والد زاهر السبعيني للتحقيق وقرّر القاضي إبقاءه محتجزاً.

"القاتل وأبوه مجرمان. رأينا الأب في الفيديو حاملاً سيجارة ليلاً وهو يراقب من الشرفة"، يقول عزام ملاعب، عمّ القتيل.

ليس ثمة ما يؤكد تورط الأب في القتل، ولكنه لا يزال محتجزاً حتى استكمال التحقيقات. في المقابل، حتى في حال خروجه، لا يمكنه العودة إلى بيصور.

يغالب عزام من أجل كتم دموعه. "يا خسارة الشباب، مكرم كان ممتلئاً حماسة وحياة، ويساعد الجميع… ليس لدينا مشكلة مع عائلة زاهر، ولكن لا نريد أن نرى أحداً منهم في القرية"، يقول.

شارك غرد“حتى لو ضربته سكينة بشيلني منها” هذا ما يقوله شاب عن الحماية التي يوفرها له مسؤول حزبي... تحقيق يبحث عن الأسباب الحقيقة وراء تزايد العنف والجرائم العبثية في لبنان

شارك غردفي العام الماضي، حجز "النسكافيه" لنفسه مكاناً بين "الكوسا" و"البيجاما" و"الكلب" و"أفضلية المرور" كسبب لارتكاب جريمة في لبنان… خلف هذه الأسباب “التافهة” للقتل دوافع أكثر تعقيداً يفصّلها هذا التحقيق المطوّل

لا يختلف حال إبراهيم القطان عن غيره من عائلات ضحايا الموت المجاني.

في شهر أبريل من عام 2017، شهدت منطقة قب الياس، في البقاع الأوسط (شرقي لبنان)، مقتل كل من طلال العوض وخليل القطان بسبب "كوب نسكافيه".

كان إبراهيم يعمل منذ ست سنوات مع والده في الكسّارة غير البعيدة عن المنزل في قب الياس. يسبقه والده صباحاً إلى "عربة القهوة" التي يقصدها لتناول القهوة الصباحية مع صديقه، صاحب العربة، قبل أن يتوجه إلى عمله، حيث يوافيه هو حاملاً الزوادة التي تعدها والدته لهما يومياً.

في ذلك اليوم، حين كانت والدته منهمكة بتحضير الزوادة، رنّ هاتفه. "والدك قُتل"، كلمتان كالصاعقة باغتتاه.

ضجّت وسائل الإعلام بتفاصيل "جريمة النسكافيه"، فعرفنا أن مارك يمين (24 عاماً) ركن فجراً قرب عربة العوض، وطلب كوباً من النسكافيه بطريقة استفزازية. بعد تبادل الشتائم، سحب يمين مسدسه وأطلق النار باتجاه صاحب العربة. وبينما كان صديقه وزبونه خليل القطان يهمان بالخروج لمعرفة ما جرى، أطلق عليه رصاصة أخرى.

أما أبرز ما تم تداوله بعد القبض على يمين، فهو تبريره القتل بأن "النسكافيه بتقرّف (مقرفة)".

هناك في مسرح الجريمة، في بلد مقسّم طائفياً كلبنان، برز تفصيل مهم: "القاتل مسيحي". انشغل المتابعون باختلاف طائفة القاتل، بينما كان بعض أهالي الضحيّتين يهاجم محلاً لبيع الكحول تملكه عائلة القاتل.

لنعد إلى الحلقات التي تربط بين تلك الجرائم. ما أبرز ما توصّل إليه التحقيق؟

في أحد أحياء بيروت الشعبية، حيث تغص الأرصفة بجالسيها ليلاً ونهاراً، يعيش "جهاد" (اسم مستعار). شباب كثر يملأون المساحات القليلة الشاغرة على جوانب الطرقات، بينهم مَن يُطلَق عليهم في لبنان صفة "الزعران"، ومنهم خريج السجون، ومنهم المطلوب بمذكرات توقيف.

بين حلقات الجالسين ما يشبه القنبلة الموقوتة. وقوع الإشكال أسرع من إلقاء التحية. أثناء اللقاء مع جهاد، حدث تلاسن بينه وبين آخرين كاد أن يتحول إلى عراك بالأيدي، لولا أنه استدرك الأمر "مراعاة لوجود ضيوف".

"جهاد" شاب في بداية العشرين من عمره. امتنع عن كشف هويته حفاظاً على سلامته. لم يكن قد تعدى الـ16 من عمره حين دخل السجن للمرة الأولى في العام 2011.

لاحقاً اعتُقل مرات عدة، لكن المرة التي أعقبت محاولة قتل جاره وصديقه القديم، الذي كان قد تحوّل إلى مسؤول حزبي (نتحفظ عن ذكر هويته حفاظاً على سلامة "جهاد") أثناء أحد غياباته في السجن لسنتين، كانت "الأكثر ثقلاً"، كما يخبر.

يشرح "جهاد" مسببات ارتكابه للجرم، ثم ينتقل ليتحدث عن تجربته مع القوى الأمنية. يحكي الكثير عن القهر الذي وُلد بداخله، ثم ينتقل ليشرح كيف اتّخذ من العنف وسيلة للعيش.

تسري ديناميكيّة "تبادل الخدمات" بشكل مشابه على العلاقة التي تربط "علاء"، جامع الخوّات الثلاثيني المقرّب من "حركة أمل"، بمَن يحمونه.

هو لن يقتل بالضرورة، لكن قوانين عالم "الخوّات" (إجبار المحالّ التجاريّة على دفع مبلغ شهري للشخص عنوةً مقابل "حمايتها") الذي يتحرّك ضمنه تفضح كيفية تعزيز الشعور بفائض القوة لديه.

"مَن يرفض دفع الخوة نرسل إليه مَن يضرب زبائنه، فيدفعها بطيب خاطر"، يقول علاء متباهياً. ثم يشرح ظروف "عمله".

عند التواصل مع مسؤولين في "حركة أمل"، أتى الردّ بنفي ما ورد أعلاه. وجاء فيه: "كل مَن اتهمنا بذلك سنتعامل معه عبر القضاء والقانون. هذا كلام غير صحيح، لأن مَن سيتكلم عنا، عليه أن يواجهنا، ولن ندافع عن أنفسنا فنحن معروفون بعدم حماية الفساد والتفلّت".

وأكدّت "الحركة" أنها "أساس السلم الأهلي والاستقرار، انطلاقاً من بيروت وصولاً إلى كل المناطق"، وأن "شبابها مثقفون ومتعلمون وواعون، ومَن يقول عكس ذلك هدفه سياسي لتشويه صورة حركة أمل".

حين اتصل محمد بأحد المخافر القريبة مشتكياً من أن الرصاص الذي يطلقه الجيران أصاب شرفة منزله، حيث كان يجلس مع العائلة، وطالباً التدخّل لتهدئة الأمر، أتاه جواب غريب: "وأنت ما الذي يجعلك تجلس على الشرفة؟ ادخل إلى منزلك".

وحين استنكر محمد إجابة العنصر الأمني، اشتكى الأخير من قلة حيلة القوى الأمنية في الكثير من الأمور ومن انتشار السلاح بكثرة.

يقولون في لبنان، على سبيل المزاح، إن مَن لا يملك سلاحاً أو يعرف أحداً يملك سلاحاً تُسحب منه الجنسيّة. أصبحت تلك النكتة أكثر واقعيّة بعد الحرب الأهليّة (1975 - 1990) التي خلّفت من بين ما خلفته انتشاراً هائلاً للسلاح، و"لم تنجح سلطة ما بعد الحرب في ضبطه"، حسب النائب فادي كرم، عضو لجنة الدفاع والداخلية والبلديات في البرلمان اللبناني.

يلقي عضو كتلة القوات اللبنانية المسؤولية على "حزب الله" باعتباره أفلت حمَلَة سلاح تحت شعار الأمن الذاتي والخوف من التهديد، وتحت راية "الحروب المقدسة" التي يخوضها.

"حتى ما يُقال عن انتشار السلاح في أيدي الجميع وليس فقط جماعة حزب الله، سببه أن وجود سلاح غير شرعي بيد طرف، يسمح بتفلت الأطراف الأخرى"، يقول كرم، ويضيف: "أي شواذ يجر إلى استثناءات أخرى. هذا الطرف بطريقة ما يأخذ شرعية ولا أحد يطاله، وأصبحت الأطراف الأخرى، من أخصام وأصدقاء، تستظل بهذا السلاح، وتبرّر تفلته من أجل تفلتها".

يصبّ كلام كرم في السياسة وفي مسألة "سلاح المقاومة" التي شكلت محور الانقسام بين أفرقاء السياسة في لبنان.

على أرض الواقع، لا ينشغل "جينو" (اسم مستعار)، الذي يعيش في قرية شمالية نائية، بالكلام عن الشواذ والاستثناءات. يجلس على شرفة منزله متحدثاً في الموضوع الأحبّ إلى قلبه: السلاح.

حين يتحدث عن "أسلحته" يقصد مجموعة المسدسات التي يحتفظ بها وعددها أربعة، بالإضافة إلى قطعة "الكلاشينكوف"، و"الخردقة" (سلاح صيد) التي هي "تحصيل حاصل" وقطعة تسلية لابنيه، وأكبرهما يبلغ التاسعة من عمره.

"أهدي إلى كل مولود ذكر من عائلتي مسدساً ليذكرني بالخير، وحين يكبرون أعلّمهم أصول استخدامه التقنية"، يقول متباهياً.

"قبل أن أكمل عامي الواحد والعشرين، شهرت المسدس في وجه شباب من قرية مجاورة، حاولوا ملاطفة ابنة قريتي، وفي مرة ثانية استخدمته لإثبات حقّي في المرور، وهي حادثة تكررت كثيراً" حسب "جينو".

لا يخاف "جينو"، المقرّب من تيّار المردة في زغرتا، من أن يغدره غضبه ويردي أحدهم قتيلاً، فـ"لو حصل ذلك سينال عقوبة مخففة بدعم من زعيم الحزب"، حسبما يزعم. ويضيف: "أرتاح لفكرة تسلّح المسيحيين على اختلاف ميولهم الحزبية، وأرتاح أكثر لكون القوى الأمنية تغضّ الطرف عن بعض الممارسات".

في المقلب الآخر، في طائفة مختلفة ومنطقة مختلفة، استعرض "ع. م." ما يملكه من سلاح فردي.

"السلاح لا يقتل لكن الناس يقتلون"، هذا ما درج من قول. لكن "الدراسة التي نشرها كلّ من Berkowitz وLePage عام 1967 في Journal of Personality and Social Psychology، أصبحت من الدراسات الكلاسيكيّة التي تنقض ذاك القول"، يعلّق أستاذ علم النفس الاجتماعي في الجامعة الأمريكية في بيروت شارل حرب.

أضاءت تلك الدراسة على تأثير السلاح Weapons Effect أو سهولة الوصول إلى السلاح باعتباره عاملاً معزّزاً ضمن ما يدرسه علم النفس الاجتماعي حول المحيط Context of Behavior والنماذج (Models) التي تطرقت في مراحل مختلفة إلى الجوانب المختلفة المتعلقة بالجريمة.

ضمن المتغيّرات المحيطة Surrounding Variables، يشرح حرب تأثير وجود سلاح قريب أو في متناول اليد على التصرف العنفي/ العدائي.

"هذه العلاقة شديدة الوضوح"، يقول حرب لافتاً إلى دراسة أعدها عام 2006 وأظهرت أن في لبنان واحداً من أصل ثلاثة أشخاص بإمكانه الوصول إلى سلاح حربي وليس فقط سلاح صيد، أي الثلث. ومن بين 1500 مشارك شملتهم الدراسة، كان لدى 48.3 في المئة إمكانية الوصول إلى سلاح حربي، شخصياً أو عبر الأقارب، بينما قال 32.1 في المئة منهم إنهم استخدموا السلاح سابقاً.

وعند التواصل مع وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، عبر مستشاره محمد بركات، عبّر الأخير عن رغبة الوزير بعدم التطرّق لمسألة الانفلات الأمني في هذه المرحلة، وعدم إعطائنا أي تعليق.

يحصر قانون الأسلحة والذخائر اللبناني صلاحية إعطاء رخص اقتناء السلاح بوزارة الدفاع.

مَن يزور موقع وزارة الدفاع الإلكتروني، يجد صفحة تتضمن "طلب الحصول على رخصة للسلاح"، مرفقة بـ"المستندات والشروط المطلوبة" للاستحصال على الرخصة، إضافة إلى توقيع تعهد.

بحسب وزارة الدفاع، وبعد استكمال المستندات المطلوبة، "يُمكن تقديم الطلب باليد في الغرفة العسكرية لدى وزارة الدفاع أو إرساله بالبريد المضمون".

في جولة على عشرة أشخاص يمتلكون رخص سلاح، اتفق الجميع على أن فكرة التوجه إلى وزارة الدفاع مباشرة ليست واردة، لا بل تثير السخرية أحياناً من "سذاجة" مَن يطرحها.

يقول "هشام" إن ثمة سبيلين للاستحصال على رخصة حمل سلاح في لبنان اليوم للمدنيين غير المنتسبين إلى أحزاب والذين لا يعملون في مجال الحماية والمرافقة: إما أن يكون لديك "واسطة"، وإما عبر سمسار مقابل بدل مادي.

لم تكن مهمة إيجاد سمسار صعبة. الأصعب كانت موافقته على الكلام. أخيراً، وبعد ضمانات عدة بعدم كشف هويته، روى "جمال" (اسم مستعار) كيف يوفّر الرخص لمَن يطلبونها، كاشفاً عن ديناميكيّة العلاقة التي تربط المواطن برجل الأمن أحياناً، فضلاً عن النظرة إليه.

من جهته، يحمّل مصدر أمني، تحفّظ كذلك عن ذكر اسمه، المسؤولية لـ"العديد من الجهات الأمنية والحزبيّة التي زوّدت الناس بتراخيص السلاح، مستغلة إياها لرفع رصيدها الشعبي".

في العام 2010، نشرت "الشركة الدولية للمعلومات" دراسة جاء فيها أن "المرجعيات والشخصيات لم تكتفِ بعناصر المواكبة الرسمية بل أعطيت عشرات رخص حمل السلاح التي وزعتها على الأنصار والأقارب والمحاسيب".

حسب الدراسة، "اعترف وزير الدفاع الأسبق محسن دلول بمنح حوالي 50 ألف رخصة حمل سلاح". أما الآن فثمة حوالي 30 ألف رخصة في لبنان، بحسب رئيس "حركة السلام الدائم" فادي أبي علام.

بعد محسن دلول، تعاقب على وزارة الدفاع سبعة وزراء تابعين لجهات سياسية مختلفة.

وفي سؤال وزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم مراد عن الضغوط التي يتعرض لها الوزير في مجال الرخص لا يراوغ في وصف واقع الحال.

"وزير الدفاع لا يسقط بالمظلة، يجري اختياره بناء على توافق سياسي. ولا يمكن أن يصمد كثيراً أمام الضغوط النيابية والسياسية التي يتعرض لها... لقد حصلت مع جميع الوزراء وأنا من ضمنهم"، يشرح مراد.

لا يبدو أنه يولي الأمر أهمية كبيرة. في النهاية "هذه قصص ليست أخلاقية فالوزير لا يبيع رخصاً ليستفيد، بل هي خدمات يقدمها لزملائه السياسيين ولضباط يعملون معه".

يعترف بوجود كوتا للأحزاب من الرخص، تختلف بين حزب كبير وآخر صغير. لا يتذكر عدد الرخص التي أصدرت في عهده، فهو لم يكن مهتماً بالأمر كثيراً، كما أن "الوزير يمضي على حزمة من الرخص دفعة واحدة وليس على كل رخصة بمفردها".

خلال الحديث معه، أصرّ مراد مراراً على أن المشكلة ليست في تفلت الرخص، بل "تكمن في أن وزير الدفاع والضباط في وزارة الدفاع تابعون لمرجعياتهم السياسية".

وزير الدفاع الحالي يعقوب الصراف اختار التشدّد بسبب "الإشكالات الأمنية، التي تأتت عنها أحداث جرمية نتيجة تفلت السلاح"، وأعلن توليه توقيع كافة قرارات الاستحصال على رخص السلاح شخصياً وليس عبر مساعدي الوزير، كما جرت العادة، في بيان رسمي.

ولتكوين صورة أدقّ بشأن الرخص، راجعنا قوى الأمن الداخلي مراراً للاطلاع على بيانات الجرائم التي ارتُكبت: أيها بسلاح مرخّص وأيها لا؟ ما عدد الأسلحة التي ضُبطت من غير ترخيص؟ جاء الردّ بأن قوى الأمن الداخلي لا تمتلك قاعدة بيانات بهذا الشأن، ولا يمكن لنا البحث في كلّ ملف على حدة لخلق تلك القاعدة.

وهذا ما يأخذنا إلى مسألة أخرى مرتبطة، إلى النقص في قواعد البيانات الرسميّة وهي قواعد مهمّة في فهم المشكلة، أية مشكلة، بصورة أوسع وأكثر دقة.

وسط صعوبة ضبط الرخص وتفلتها، يأتي كذلك قانون الأسلحة والذخائر بما فيه من ثغرات.

صدر قانون الأسلحة والذخائر بمرسوم اشتراعي عام 1959، ولم يأت عبر مشروع قانون أرسلته الحكومة إلى مجلس النواب لتدرسه لجان نيابية مختصة وتطرحه للتصويت أمام الهيئة العامة، كما لم يولد على شكل اقتراح قانون من داخل مجلس النواب.

"تكمن مشكلة قانون الأسلحة والذخائر، إذاً، في كيفية ولادته، التي أتت على عجلة بحيث لم يُشبَع دراسة ولم يأخذ بالاعتبار حاجات الناس في هذه المسألة وتحديّات المجتمع"، حسب أبي علام.

يشرح رئيس "حركة السلام الدائم"، الذي عمل منذ انتهاء الحرب الأهلية على حملات عديدة من أجل المطالبة بتطوير القانون وتعديله، أن "التعديلات على القوانين ضرورية عموماً، إذ يجب أن تأخذ بالاعتبار التحديات التي تطرأ على المجتمع، بمعنى آخر، هل نشأت حاجات جديدة لم تكن موجودة عندما تمت صياغة القانون؟ وهنا أقدّم مثالاً عن الشركات الأمنية التي تعمل حالياً، فتلك الشركات لم تكن موجودة في الـ59، والآن لا تخضع لأيّ قانون عسكري أو مدني".

ويضيف: "يجب أن تشمل كذلك ما حمله لبنان من إرث الحرب الأهليّة، وهي فترة لا يلحظها قانون الأسلحة، علماً أنها أسهمت جوهرياً في تفلت السلاح ودخوله إلى كل بيت لبناني تقريباً".

ويرى أن "عدم مواكبة القانون لما يجري في العالم من آليات لضبط تفلّت السلاح هي ثغرة إضافية"، حسب أبي علام الذي يحددها بأربع آليات دولية بدأ العمل بها بعد صدور القانون اللبناني، وهي بروتوكول الأسلحة النارية، برنامج عمل الأمم المتحدة لمنع الإتجار غير المشروع بالأسلحة الصغيرة والخفيفة، الصكّ الدولي للتعقب، ومعاهدة تجارة الأسلحة.

يلفت أبي علام إلى أنه في شقّ العقوبة المتعلق بإطلاق الأعيرة النارية "أصبح القانون ممتازاً". فالمادة 75 من قانون الأسلحة والذخائر كانت تحدد عقوبة هذا الفعل بـ500 إلى ألف ليرة (ربع إلى ثلثي الدولار) و(أو) بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات.

ولكن في أواخر عام 2016، أُقرّ قانون "تجريم إطلاق عيارات نارية في الهواء" بمادة وحيدة تنص على أن مطلق العيارات النارية في الهواء من سلاح حربي يعاقب بالسجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من ثمانية أضعاف إلى عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجور (445.5 دولاراً).

في يوليو من العام 2017، تمّ إلقاء القبض على عشرات الأشخاص الذين أطلقوا النار ابتهاجاً بعد صدور نتائج الامتحانات الرسميّة، في خطوة اعتُبرت إيجابية. لكن ما لبث أن خرج وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق في اليوم التالي لائماً السياسيين على تدخلهم لإطلاق سراح بين 70 و80 موقوفاً من أصل 90 جهدت قوى الأمن الداخلي لتوقيفهم خلال أسبوع كامل.

وكشف المشنوق حينها أن "البعض من أولئك الموقوفين خرجوا بعد نصف ساعة أو ساعة بسبب تدخلات سياسية لدى القضاة"، محذّراً أن "مَن يعرف أنه سيخرج فوراً بواسطة سياسي يدعمه لن يتورع عن إطلاق النار مجدداً".

حملنا الثغرات في قانون الأسلحة والذخائر إلى رئيس لجنة الدفاع والداخليّة والبلديات في المجلس النيابي النائب سمير الجسر لمعرفة رأيه، وما إذا كان هناك أي نقاش أو اقتراح قانون بهذا الشأن داخل اللجنة.

كان ردّ الجسر: "لست ميالاً لفكرة إلغاء قانون ووضع قانون آخر بشكل عام، باعتبار أن ذلك ليس الحل".

لا يبدو الجسر مقتنعاً بتغيير القانون. برأيه "من الممكن أن يكون هناك حلّ، مثل فرض تراخيص تنقسم بين النقل والحيازة… ليس لديّ مانع من أن تكون حيازة السلاح لجميع الناس، ويجري ضبطها عن طريق قانون الحيازة وإجبار الجميع بالرخص حتى لو كان لدى الشخص أكثر من قطعة، لكن بشروط أن يكون لكل سلاح بصمة وامتلاك داتا عن جميع الأسلحة لإمكانية تعقب السلاح في حال استخدامه لارتكاب جريمة".

يرى الجسر أن المشكلة أبعد من القانون، فهي ترتبط بـ"انتشار المخدرات وسهولة الحصول عليها بكلفة منخفضة، ثم بنظام العقاب السائد والقوانين الوضعيّة القائمة في مراكز التوقيف والسجن، فضلاً عن التعقيدات السياسية".

ويلفت الجسر كذلك إلى "مشكلة الأجهزة الأمنية المتعدّدة في لبنان من مخابرات الجيش إلى قوى الأمن الداخلي والأمن العام. كل جهاز يريد التفوق على الآخر في الصلاحيات. في معرض عمله، قد يقع جهاز معيّن على خيوط فينسّق مع الجهاز المعني، ولكن في لبنان هناك صراع صلاحيات. والأسوأ من ذلك، هناك نوع من السباق بين الأجهزة، وقد يعمد طرف إلى تضليل الطرف الآخر ليحصل بنفسه على السبق الأمني، فتضيع النتيجة المرجوة".

يقولون إن الحرب الأهلية عندما تنتهي يدرك ضحاياها ذلك. في لبنان، لم يجزم أحد بنهاية تلك الحرب، ما زال سؤال "هل ستندلع الحرب مجدداً؟" حاضراً مع كل توتر شديد البساطة. استقرت معادلة ما أسمي بـ"السلم الأهلي" كالتالي: كرّس زعماء الحرب سلطتهم، بينما علق ناسها في دوامتها العنفية. هم لم يعفُوا ولم يصالحوا.

عناصر "الهذيان القبلي" فنّدها الباحث فواز طرابلسي بـ"الأم - الأرض - الأسرة - العرض - القوة - الذكورة - الحياة - الواجب - الإبادة". هذه العناصر غلّبت العنف في الحرب الأهلية وما زالت تغلّبه في يوميات اللبناني بعد أكثر من عشرين عاماً.

لم يعد القتال مشرعاً ليفرغ مَن أدمن العنف شبقه، فجيّر هذا الشبق لصالح السلوك اليومي. هكذا استسهل القتل على أفضلية المرور والقتل على شتيمة طالت العرض والقتل لشعور بفائض القوة أو التفوق الطائفي وحتى بسبب وهم الخوف من الإبادة.

ما تقدّم لم يكن حال المقاتل السابق في الحرب الأهلية زياد صعب. لقد كان واحداً من قلة نجحت في الانتقال من دوامة العنف إلى حالة من القطيعة التامة مع الحرب والدعوة لأجل السلام.

بين ما دفعه للانخراط في القتل وما نقله إلى مجموعة "محاربون من أجل السلام" تفاصيل تكشف بعض أسباب نجاح قلة في القطع مع عنف تلك الحرب مقابل مقاتلين كثر بقوا عالقين في ذكريات "بطولاتهم".

"موروثات الأجداد وما سمعته عن بطولات جدي المغوار ضد الانتداب الفرنسي، نشأتي في ما يسمى أحزمة البؤس على أطراف العاصمة، البحث عن التغيير، الشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة، البحث عن الهوية والسعي إلى ترك بصمة… كلها عوامل أسهمت في سعيي وراء البندقية التي بررتها غايات سامية"، يقول صعب.

برأيه "تختلف الأسباب من شخص لآخر، لكن الأكيد أنني أتشارك أسباب كثيرة مع أبناء تلك المرحلة، والأكيد أيضاً أنها لم تتغير بعد كل تلك المدة لا بل ازدادت استفحالاً بعد انتهاء الحرب من دون مصالحة ومن دون محاسبة. لقد حمل الجيل الجديد تروما الحرب التي أصبحت مقدمة لعمل عنفي أكبر".

"تذكّر... سامح... غيّر" كان شعار جمعية "محاربون من أجل السلام" التي شارك صعب، القيادي العسكري السابق في "الحزب الشيوعي اللبناني"، في تأسيسها قبل أعوام قليلة مع محاربين قدامى، بعضهم كان من أعداء الأمس كنائب رئيس جهاز الأمن والاستخبارات في "القوات اللبنانية" في بعض مراحل الحرب أسعد الشفتري.

ماذا عن الأسباب التي ساعدته للانتقال من العنف إلى اللاعنف؟ يجيب صعب: "لقد كان مخاضاً صعباً. طيلة الحرب لم أكن أتعاطى أي دواء مهدئ في حين بدأت بتناول أدوية الأعصاب بمجرد أن انتهى القتال… شعرت كمَن يقوم بالقطع مع حياته".

ويضيف: "لقد شعر المقاتلون أنه تم التخلي عنهم. المشكلة أن أغلبيتهم لم يجروا قراءة نقدية لتجاربهم، ولم يمتلكوا رؤية للمستقبل. أفهم تمسكهم بتلك الدائرة العنفية، فإذا أقر المقاتل أن ما قام به طوال 15 عاماً كان خطأ وجريمة، في ظل أفق محدود للمستقبل كرسته البيئة التي سادت بعد الحرب، سيتجرد من كل شيء، يصبح لا شيء".

بقي المقاتلون السابقون مرابضين على جبهاتهم السابقة في بيئة تدّعي السلم. أقنعوا أنفسهم بأنهم أبطال دافعوا عن الوطن والمدينة والحي والبناية، ولا يزالون في حالة دفاع. سلم ظاهري وعنف مكبوت يظهر في أية لحظة.

"مَن ربح الحرب كان المجتمع الأهلي - الطائفي - العشائري - العائلي، وهو ما يفسر ارتفاع معدل العنف المجتمعي اليوم"، يقول صعب.

لا يحب المقاتل السابق الخوض في تفاصيل الأداء السياسي حالياً، فمَن شارك في الحرب تزعم مرحلة السلم.

تختصر المشهد ردود فعل بعض السياسيين على طلب "محاربون لأجل السلام" إذناً للقيام بحملات توعية في أوساط جماهير أحزابهم، بهدف منع تكرار الحرب الأهلية. "لا يعلن أحد منهم رفضه الصريح لجهود جمعيتنا، لكننا لسنا أبناء اليوم ونعرف أن ما نسمعه منهم هو رفض مبطّن"، يؤكد صعب.

سمعوا من أحد الزعماء عندما زاروه "ما هذه السخافة، لقد قمنا بالمصالحة وانتهى الأمر"، ومن آخر "نحن نشجع جهودكم، ولكن ألا تشعرون بأنكم تفقدون الشباب الروح النضالية"، وأحدهم قال: "هذا فعلاً ما ينقصنا، لكن لا تعملوا معنا، اذهبوا إلى غيرنا".

تنتشر المصالحات على كافة الأراضي اللبنانية. وفي منطقة البقاع التي تشهد أعلى نسبة جرائم حسب بيانات قوى الأمن الداخلي، يجري العدد الأكبر من المصالحات.

في التسعينيات من القرن الماضي، كانت دارة كامل زعيتر، الذي شغل منصب رئيس بلدية حدث بعلبك في محافظة البقاع لثلاثين عاماً، فضلاً عن كونه مصلحاً اجتماعياً مرموقاً في المنطقة، تغصّ بـ"القاصدين" طلباً للتوسّط في "صلحة" هنا و"صلحة" هناك.

توفي المصلح الاجتماعي قبل ثلاث سنوات، فبدأ الناس يلجأون إلى ابنه للغاية نفسها.

يعترف الابن أن المصالحات ودفع الأموال قد تشجّع الناس على استسهال ارتكاب الجرائم "طالما أن هناك من يلملم آثارها وراءهم"، ولكنه لا يرى بديلاً عن ذلك.

لماذا؟ يأتي جوابه بأن "المصالحات بكل الاحتمالات ضرورية لتجنّب مشاكل إضافية بين عائلتي المعتدي والضحية، في حين أن القوى الأمنية المتواجدة لدينا تدعم فكرتها لتخفيف الوطأة والثقل عنها".

لا إحصاء محدّد لعدد المصالحات التي تُقام سنوياً. لكن في شهر سبتمبر من عام 2017 وحده، على سبيل المثال، شارك الابن في أربع مصالحات، ثلاث منها وصلت إلى خواتيم مرضية برأيه والثالثة بقيت معرقلة.

في الخمسينيات، أوكِل للضابط بطرس عبد الساتر وظيفة "المستشار العشائري" وذلك بإيعاز من رئيس الجمهورية آنذاك فؤاد شهاب. وكان المستشار يحل المشكلات بالمنطق العشائري نفسه.

يقول قاسم، وهو ابن عشيرة بقاعية خمسيني، إن عبد الساتر (وبالأحرى السلطة السياسية) شجّع منذ ذلك الوقت، قاصداً أم لا، البقاع على التمسّك بالمنطق العشائري والابتعاد عن الدولة.

"تنظر القوى المسيطرة في المنطقة، أي الأحزاب السياسية كحزب الله وحركة أمل بشكل أساسي، إلى الناس كأصوات انتخابيّة صرفة، وتعمد إلى استمالتهم بفك سراح سجين أو التغطية على زراعة حشيشة الكيف، في حين تضافرت عوامل عدة، جعلت العشيرة في أسوأ مراحلها اليوم"، يعلّق قاسم.

في المقابل، يقول رئيس بلدية محسوب على "حزب الله"، فضّل عدم ذكر اسمه، في المنطقة إن حزبه انتبه مؤخراً إلى أنه يسهم في التشجيع على التفلت وتكرار الأفعال الجرمية، فأعلن امتناعه عن المساهمة المالية في حل المشكلات، إلا في حالات قليلة.

لا يندرج مقتل منال عاصي في العام 2014 بطريقة وحشيّة على يد زوجها ضمن ما ندرسه من جرائم. لكن شهادة والدتها عن الضغوط التي تعرضت لها العائلة لإسقاط الدعوى على القاتل محمد النحيلي تقدّم مثالاً عما يتعرض له ذوو بعض الضحايا، حسب موازين القوى (عائلات ذات دعم سياسي أو ماديّ أو عائلات كبيرة على حساب عائلات صغرى).

استناداً إلى العديد من القضايا التي يتابعها، يفنّد أحد المحامين، الذي فضل عدم ذكر اسمه، بعض أشكال حماية "المجرم المدعوم" كـ"التلاعب بالتحقيق". يقول: "إذا وقع إطلاق نار، يتم تحويل التحقيق في الإشكال، بتدخل سياسي، إلى هرج ومرج ما يمكن أن يُنتج حكماً قانونياً مختلفاً عن الحكم الذي كان يجب إصداره. كما يمكن تحويل القتل العمدي إلى قتل قصدي، ما يخفض العقوبة من الإعدام إلى 15 سنة سجن. كذلك يمكن في التحقيق ربط القتل بأكثر من شخص فيضيع المجرم الحقيقي".

وبحسب قانون العقوبات، فإن الفرق بين القتل العمدي والقتل القصدي هو أنه في الحالة الأولى يخطّط المجرم عن سابق تصور وتصميم لعملية القتل ويهيء قبل ارتكابها أساليب إنجاحها بدم بارد. أما في الحالة الثانية فتحصل الجريمة في ظرف معين عن سابق تصور وتصميم، لكن من دون تخطيط مسبق لها.

Comments

عاجل