المحتوى الرئيسى

دولت حبيبة يوسف السباعى (1 - 2) | المصري اليوم

03/16 05:01

«زوجة أسطورية تعتبر ثلاثتنا أبناءً لها».

هكذا كان يقول يوسف السباعى عن زوجته دولت السباعى.

اقتربت منها كثيرًا منذ أول لقاء لنا فى لندن، وأثناء عملية جراحية فى ساق ابنها إسماعيل.. وتزاورنا على مدى سنوات طويلة.

لقيتنى فى شقتها بثياب المطبخ، أثناء قيامها بترتيب مائدة الأكل، كانت صغيرة وجميلة.. والتفت إلى الأديب الراحل، وأنا أتساءل: بيسة أو أم بيسة؟

وضحك قائلا: دى أم بيسة مراتى، واسترسلت متعجبةً: كانت فى خيالى صورة أخرى مختلفة تماما..

فأكمل مقهقهًا: طبعا فى خيالك صورة سيدة أرستقراطية، تجلس فى ترفُّع، واضعةً ساقا فوق ساق، بيدها سيجارة وكأس ويسكى.. مش كده؟

كانت تبدو صغيرة، إلى درجة لا تفرِّق بينها كثيرًا، وبين ابنتها بيسة، حتى إن أحدهم ـ كما قال لى ـ وقد رآهما معًا فى النادى: قد خطبها من الأستاذ يوسف قائلًا: (ابنتك الصغرى)...

هذه هى دولت يوسف السباعى، عظيمة الراحل العزيز الأديب يوسف السباعى، عظيمة فى حبها، وأخلاقها، مثلما كانت عظيمة فى حياته وبعد مماته.

دولت ـ زوجه يوسف، وابنة عمه وأخته وأمه.. وأرض الراحة التى كانت تغمره فى أوقات التعب والضيق.. حيث كان يستظل بها، ويلجأ إليها من قيظ وحرور.

دولت بطلة (إنى راحلة) و(ليل له آخر)، والملهمة فى أغلب ما كتب من روايات على مدى حياتهما معا..

دولت التى لم يرها أحد، ولم يسمع بما حدث لها أحد، العاقلة الهادئة الجميلة، كانت تقبع بعده فى صمت النسيان، ودائما فى انتظار لقائه مثلما كانت فى حياته.

كانت ترفض ذكر الموت، أو قول (الله يرحمه)، وذلك بعد مرور سنوات طويلة على وفاته ـ وتقول لى: إن الرحمة لا تجوز إلا على الأموات ويوسف لم يمت.

فى ذكراه وجدتنى أشرد مستعيدةً ذكريات بعيدة مع (إيزيس الوفية) أو دولت الخالدة.. فبعد عامين من وفاته، ذهبت إلى زيارتها فى منزله بالمقطم.. فطالعتنى شامخة، وكانت فى الفضاء أشجار الفيلا الأنيقة، التى أشرف يوسف السباعى بنفسه على غرسها فى حديقته.. ودارت السيارة حول السور؛ لتستقر أمام الباب الحديدى للفيلا الصغيرة، ثم بناء مكون من ثلاثة طوابق، تسكن بطابق فيه ابنته بيسة.

نزلت من السيارة، ولم أستطع مقاومة السير أمام الفيلا بضع خطوات، بعد أن أوليتها ظهرى، معلقة بصرى فى السطح الأخضر البعيد، شاخصة بنظراتى إلى الفضاء المترامى، أستعيد ذكرى زيارتى الأولى إلى المكان حين أخذ بيدى مشيرا إلى الأفق البعيد وهو يقول لى: من هنا تشرق الشمس وتغرب مع أذيال المقطم..

وأعادنى حفيف أوراق الشجر إلى نفسى، فاستدرت عائدة إلى باب الفيلا الحديدى وهالنى ما رأيت.. إنه مغلق تماما، ومحاط بالأسلاك الشائكة، والظلام يبدو من بين فتحاته - وأطللت برأسى من فوق السور.. إن حمام السباحة الأزرق الصغير قد جف ماؤه، وتكاثرت فوقه أوراق الشجر الجافة الذابلة، حتى انمحت معالمه.. أما سقف الفيلا فقد احتضنته الأشجار وقد تكسرت.. وهكذا وجدت نفسى بين الأطلال!

أصرت دولت على دفن المكان الذى ضمهما كل هذا العمر معا وسلبه الحياة التى سلبها القدر حبيبها…

دخلت إلى المبنى الجانبى أدق الجرس، وفُتح الباب.

وطالعتنى صورة مهزوزة باهتة لسيدة عرفتها طويلا، ولم أتعرف إليها الآن.. لقد أصبحت تمثالا للهم والحزن والأسى.. ولم أصدق عينى، أجفلت ثم تمالكت نفسى؛ كيلا تحس دهشتى.. ولم تكن المرة الأولى التى أراها بعد رحيل الفقيد.. ففى كل مرة كانت تزداد نحولا وشحوبا حتى صارت على هذه الحال.. وجلست وطال الصمت بيننا، وأنا أتأمل هذه الإنسانة الغريبة، التى تصر على هجر الحياة، وتستسلم بكل طاقاتها إلى الموت… هكذا وفى شهور قليلة، تتحول دولت الجميلة النشيطة إلى هيكل من العذاب…

وبالأمس القريب كانت تملأ هذا المكان مرحا ونشاطا وضحكات… كنت أغبطها على حيويتها، التى فاقت الحدود، وحماستها التى لا تكل ولا تمل.. أتخيلها منذ وقت قريب تغدو وتروح فى الحديقة ذاتها، تقلم شجيراتها، وتشذب حشائشها، وتنظف أرضها من الأوراق الجافة بيديها الرقيقتين، تقضى الساعات ولا تعترف بعمل البستانى، حتى غدت الحديقة بأزهارها وعطرها ورونقها قطعة من الجنة.

وهى كذلك داخل البيت، لا تعترف بالخدم ـ على وجودهم معها ـ تطبخ بيديها، وترتب وتغسل وتشرف بنفسها على كل كبيرة وصغيرة.. ست بيت ممتازة من الطبقة الوسطى رغم أنها ابنة باشا.

نظرت إلى دولت الجالسة أمامى، وقد هرمت فى شهور…

هكذا فعل الحزن بها، وعلا الشيب رأسها، فكللها بهالة بيضاء زادت حزنها وقارا.

قلت فلأمزق أستار الصمت الرهيب، وأقطع ما اعترانى من توتر: أنت مؤمنة بالله يا دولت، ماذا فعلت بنفسك، وكلنا سنلقى الموت فى يوم ما.. رفعت إلىّ عينين خضراوين، خبا بريقهما، ثم انهمرت دموعها فى صمت.. إنها لا تكف عن البكاء، قالت فى وهن: لم أعد أرغب فى الحياة… ليس لى بعد فقده أى مطالب، كان هو المطلب الأهم، والهدف الأكبر.

صحيح أن الأيام تمضى- ثقيلة بطيئة بلا طعم ولا معنى، إذا جاء الصباح، أنتظر الليل بصبر، فإذا جاء الليل استحال النوم وقضيته فى انتظار النهار، كأننى أتعجل الزمن من أن يمضى النوم وأستجدى الأيام أن تمر.. أصبحت حولى الحياة فارغة، لقد أخذ معه كل شىء وكان هو الحياة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل