المحتوى الرئيسى

هل من حياء فى السياسة؟ | المصري اليوم

03/16 04:01

إذا صحت الأنباء عن أن ائتلاف دعم مصر ينتوى إنشاء حزب سياسى بعد الإعلان المتيقن منه عن فوز المرشح الفعلى الوحيد بفترة رئاسة قادمة، فإن هذه الخطوة يجب أن تقابل بكل ترحيب.

لا داعى لتكرار حديث معاد ومحفوظ وصحيح حول أحزاب السلطة والأمراض التى تنخر فى عظامها منذ نشأتها، وأنها تجمعات غير مبدئية تضم الطامعين فى حصد المنافع من الاقتراب من الحاكم. كل هذه أمور معروفة فى التاريخ السياسى المصرى الحديث بدءا من هيئة التحرير، حتى الاتحاد القومى، حتى الاتحاد الاشتراكى العربى، ثم حزب مصر فالحزب الوطنى. يعلم المصريون تماما أنها كلها كيانات يحكمها مع النظام قانون المصالح المتبادلة: مصلحة النظام فى وجود ظهير شعبى يسانده ويتبنى أطروحاته طلبا لمنفعة أو دفعا لمضرة، ومصلحة أعضاء تنظيم السلطة فى حصد مزايا ومنافع القرب من الدولة.

كل هذه أمور معروفة وتسببت فى الماضى فى تشويه الحياة السياسية فى مصر وإجهاض أى إمكانية لتطور ديمقراطى، وتحويل السياسة الرسمية إلى ممارسة غوغائية ذات طابع انتهازى وأمنى صرف.

ومع ذلك فيجب اليوم الترحيب بنشأة حزب للسلطة، لأن أحوالنا السياسية وبعد أن تم الإجهاز على طموحات ثورة ٢٥ يناير وشيطنتها، تحولت العلاقات السياسية فيها من منافسة بين أحزاب ذات برامج متباينة إلى صراع بين الأحزاب السياسية وبين أجهزة الأمن. لا نقول فقط إن أحد الشواغل الرسمية هى اختراق أجهزة الأمن للأحزاب من الداخل كما حدث مع أحزاب عريقة وأحزاب حديثة، ولكننا جميعا شهدنا جهارا نهارا قسوة القمع الذى تتعرض له الأحزاب الشرعية عندما حاولت الخروج من جدران مقارها وممارسة دورها السياسى المشروع بين الناس. نذكر جميعا شهيدة الورد شيماء الصباغ التى قتلت بالرصاص لمجرد أنها كانت تسير فى مسيرة من بضعة أشخاص تحمل باقة ورد تريد أن تضعها تكريما لذكرى شهداء ٢٥ يناير، الذين تفرق دمهم بين قبائل أهل الشر الحقيقيين. ونذكر جميعا أنه عندما تجمع عدد محدود من النشطاء وأعضاء الحزب المصرى الديمقراطى أمام مقر حزبهم اعتراضا على اتفاقية التنازل عن الجزيرتين اعتدى الأمن عليهم بقوة ولم يراع شيخا أو شابا أو امرأة، بل هى القوة الغاشمة وحدها. ثم جرى القبض على أمين تنظيم الحزب وأدين بتهمة الإرهاب ومازال مودعا فى السجن.

لن أطيل فى ذكر أمثلة على تدخل الأمن لتفريغ مصر من السياسة وقمع الرأى المخالف (رغم أن البعض يمنون علينا بأننا نكتب ما نريد)، ولكن ما يدهشنا أنه رغم حصار الأحزاب داخل مقارها مازال يوجد بيننا من لا يستحى من وصف الأحزاب بالعجز والقصور وعدم التأثير فى الجماهير. قليل من الحياء مطلوب لاكتساب المصداقية فكيف تؤثر فى الجماهير أحزاب ممنوعة بالقوة عن الاتصال بالناس.

وعلى أى حال فعودة حزب السلطة إلى الوجود أمر يجب الترحيب به لأنه سيعيد مصطلح السياسة إلى قاموس الحياة المصرية، وسيجعل العلاقات السياسية قائمة بين الأحزاب وبعضها البعض وليس بين الأمن والأحزاب. فإنشاء حزب للسلطة سيدفع النظام إلى صياغة خطاب سياسى قابل للحوار وينهى عصر إدارة الدولة بالتعليمات والنواهى والسياسات التى توضع فى غرف مغلقة.

حقيقة أن وجود أحزاب للسلطة لا يعنى لزوما بداية الطريق نحو الديمقراطية. فحزب العمال القومى الألمانى (النازى) قاد البلاد والعالم إلى كارثة محققة. وكذلك الحال فى تنظيمات ستالين وموسولينى وفرانكو. ورغم الازدهار الاقتصادى وبناء الدولة القوية الذى حققته هذه الأحزاب السلطوية إلا أن نظمها سرعان ما انهارت كجبال الجليد. واللافت أن هذه الأحزاب جميعها كانت ترفع شعارا مشتركا رغم اختلاف توجهاتها، وجوهره الحفاظ على قوة الدولة القومية. وهو الشعار الذى فشلت فى تحقيقه على المدى القصير أو الوسيط، وهو نفس ما تكرر فى تجربة الاتحاد الاشتراكى والحزب الوطنى وغيرها من الأحزاب المناظرة فى منطقتنا.

ومع ذلك فالتجربة اليوم عندنا مختلفة. فعودة حزب السلطة فى مصر الآن يأتى بعد ثورة، وإن كان قد تم إجهاضها، إلا أن القيم التى رفعتها أصبحت راسخة فى وجدان الناس. ولن تستطيع أى قوة تخطيها على المدى الطويل مهما نجحت فى ذلك على المدى القصير. وعودة حزب السلطة إلى مصر الآن يعيدنا سياسيا إلى المربع الأخير السابق على ثورة يناير، وهو من منظور الحريات الديمقراطية والحقوق المدنية والسياسية أفضل بكثير من واقعنا الحالى.

عودة حزب السلطة سيعيد للسياسة مشروعيتها وستصبح المعادلة كالتالى: ما دامت السلطة لها حزبها، فليبتعد الأمن عن السياسة وليتفرغ لمهمته فى مكافحة الإرهاب والحفاظ على أمن الوطن فى إطار القانون محاطا بتكاتف جماهيرى. فهناك منصة رسمية يمارس من خلالها النظام السياسة بعيدا عن القوة الغاشمة. وما دام للسلطة حزبها النافذ إعلاميا، فمن حق أحزاب المعارضة المشروعة أن يكون لها نفوذها السياسى والإعلامى دون بطش أو تخوين أو اتهام بالسعى إلى تقويض الدولة، فمفهوم الدولة لا يتطابق مع مفهوم نظام الحكم.

وأشعر بانزعاج شديد تجاه تنامى النزعة الفاشية فى الخطاب حتى بين آحاد الناس. نزعة سببها غيبة الحوار واستشراء النميمة السياسية. نلاحظ ذلك فى الخطاب الإعلامى، وفى النزوع التشريعى نحو تكميم الأفواه. ينسى أولو الأمر أن تكميم الأفواه يوغر الصدور وينضج الغيظ الاجتماعى على نيران هادئة. رئيس البرلمان لم يتردد فى مطالبة معارضيه بمغادرة البلاد. شيخ الإعلاميين (الذى تجمعنى به وشائج من الود الشخصى) يتحدث عن قطع ألسنة الخونة، ونواب آخرون يتحدثون عن صفع المعارضين.

التعليقات على كتاباتى تتصاعد فيها النزعة العدوانية. أحدهم يوجه النصح لى بأن أكتفى بتعليم القانون لطلابى. وآخر يذكرنى بأن محمد على بنى مصر الحديثة بعد مذبحة المماليك. بالمناسبة كتب أحد الصحفيين يوما تمجيدا لمذبحة المماليك قائلا: (يا لها من مذبحة رائعة). لا توجد فى التاريخ مذابح رائعة بل توجد جرائم منحطة. حتى محمد على نفسه كان يخجل من مذبحته كلما ذكر بها.

نحن نعيش فى وطن واحد نملكه سواسية، ولا ترفع المعارضة فيه إلا أقلاما، وليس لديها إلا ألسنة تتحاور وعقول تفكر. لعالم الاجتماع العظيم سيد عويس كتاب بعنوان (لا للعنف - دراسة علمية فى تكوين الضمير الإنسانى). العنف يعنى غيبة الضمير إذا كان عنفا غير مشروع وخارج الحدود الأخلاقية والقانونية. الإرهاب يمارس العنف لأنه غير معنى بالضمير. الدولة هى حارسة الضمير الجمعى. لا يستقيم أن تمارس الدولة العنف المادى أو المعنوى خارج إطار القانون. مرحبا بالحزب السلطوى حتى لو غلبت عليه الانتهازية السياسية، لأنه يمثل خطوة للوراء أكثر تقدما مما نحن فيه. خطوة نحو احترام السياسة ونبذ العنف وإحياء الضمير عبر الحوار.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل