المحتوى الرئيسى

الجوانب الخفية في شخصية "جحا".. فقيه وعبقري وضحية خصومة سياسية

03/10 11:39

تعد شخصية جحا من الشخصيات المميزة في التاريخ العربي والإسلامي، حيث اختلفت الحكايات ما بين الحقيقة والخيال، ومن الصعب التأكيد بشكل قاطع من مصدر هذه الشخصية، ومن أين بدأت بالضبط ولمن تنسب.

وتركت شخصية جحا في المخيلة العربية صورة رائعة للفيلسوف البسيط الذي يمتزج كلامه بممارسته في الحياة اليومية، مع صور متناقضة ما بين الحكمة والبلاهة، حتى يكاد المرء يحار من أين يبدأ الذكاء الفطري الإنساني وأين ينتهي ليكون حد السذاجة.

والمنهج الساخر في حكايات جحا العديدة، يكشف عن طريقة الرجل الحكيم الذي يهزم صرامة الواقع ويعمل على تهشيمه وتعريته بالسخرية منه.

وقال الأديب المصري عباس محمود العقاد في كتابه "جحا الضاحك والمضحك" أنه من المستحيل أن تصدر هذة الحكايات عن شخصية واحدة لتباعد البيئات التي تُروى عنها، وفقًأ لموقع "العربية".

وبناء على ذلك، فإن شخصية جحا هي نتاج عقل جمعي على مدى عصور من فترة بواكير الإسلام إلى الزمن الراهن، كما أنها أيضاً أنتجت بأكثر من صورة في البيئات العربية والفارسية والتركية، بحيث كان لكل بيئة نموذجها الخاص.

 قال أيضًا الدكتور محمد رجب النجار في كتابه "جحا العربي"، ان هذه الشخصية تعبر عن الناقد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكن بأسلوب ساخر، ذلك "الذي يهوّن على الناس ما يعانون".

وأرجع الدكتور النجار السبب في انتشار شخصية جحا والاشتغال المتواتر عليها إلى: "أن الوجدان الجمعي للشعوب، يبادر فينتخب رمزاً فنياً ساخراً، يعكس من خلاله آرائهم في السلطتين العسكرية والسياسية".

وهذا يعني أن الرمز الحجوي هو اختزال تعبيري لصورة الاحتجاج في شكل النكتة الموظفة سياسياً عبر تاريخ القمع والتسلط والخوف من الحاكم.

ووفقًا للدكتور النجار: "استطاع الجمع بين الذكاء اللمّاح والتهكّم، فكان لسان حال الشعب العربي من الحاكم، وذلك من خلال نوادره التي كانت تجسيداً حياً وفعّالاً لما شاهده الناس عبر العصور من ظلم واستبداد، ولكن بشكل ساخر".

ويعد "الجاحظ" هو أول من ذكر جحا في مؤلفاته، عندما أورد في كتاب "القول في البغال" نوادر بطلها جحا دون أن يحدد هويته بوضوح.

وأقدم القصص المنسوبة إلى جحا في التراث العربي تعود إلى القرن الأول الهجري، أي السابع الميلادي، بالتحديد إلى رجل يدعى "دُجين بن ثابت الفزاري"، وكان يلقب بجحا وكان ظريفاً، لكن يقال إن الكثير من القصص المنسوبة حوله هي مكذوبة في واقع الأمر.

وقال العلامة الحافظ ابن عساكر عن جحا إنه عاش أكثر من 100 سنة، وذكر أنه من التابعين، وكانت أمه تعمل خادمة لأنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة وصفاء السريرة، وحذر لهذا "فلا ينبغي لأحد أن يسخر به".

كما أن السيوطي والذهبي والحافظ ابن الجوزي، ذكروا جحا في كتبهم، وأورد ابن الجوزي عن رجل يدعى جحا ويكنى "يلقب" بـ"أبا الغصن" يرجح أنه دجين الفزاري نفسه، وروى عنه ما يدل على الفطنة والذكاء "إلا أن الغالب عليه التغفيل"، وهناك من يرى أن الحكايات المضادة كان مصدرها المعادين لفطنة جحا وحكمته من زمرة السلطة.

وبالتالي شخصية جحا تم توظيفها منذ البدايات على مستويين، الأول كان يدفعها لصالح الفطنة والحكمة وحلّ القضايا الاجتماعية بأسلوب ساخر ينم عن "الذكاء"، والمستوى الثاني يدل على مصالح السلطة التي قامت على تشويه جحا وتحويله إلى مثال لـ"الغباء والبلاهة".

وبين هاتين الصورتين، كان جحا يصعد نجمه في المستوى التخيلي والأسطوري ليصبح شخصية معقدة من حيث البنى التركيبية، بحيث يمكن تقليبه وفق كافة المناظير التي اكتسب عبرها بعده العميق والنادر، ما حافظ عليه إلى اليوم، إذ لا تكاد ثمة شخصية أكثر محافظة على دورها الاجتماعي لدى الشعوب المسلمة أكثر منها.

تشير المصادر إلى أن أبا الغصن دجين الفزاري، ولد في النصف الثاني من القرن الأول الهجري حوالي سنة 60 هجرية، وقد قضى شطر حياته في الكوفة وتوفي بها عام 160 هجرية أيام خلافة أبي جعفر المنصور.

وقد وصف أبو الغصن جحا بحسب الإمام الذهبي بأنه كان من العقّال، وقال عنه نقلاً عن عباد بن صهيب "ما رأيت أعقل منه"، ويروى أنه كان يمزح في أيام شبابه، وعندما كبر وشاخ أصبح مصدراً للحكمة والرسوخ العميق.

ولعل هذا قد يكشف أيضاً التدرج في هذه الشخصية بحسب مراحل عمرها، ما جعل طرائق جحا تُبنى على طبقات مختلفة من الوعي الجمالي والأخلاقي والمعرفي، يوازي تدرج الحكمة ومساراتها لدى الإنسان مع نمو الذات وتقدم السن.

وتشير روايات أخرى إلى أن دجين كان فقيهاً وبالتالي فكثير من القصص قد انتحلت عليه جراء الخصومات السياسية في تلك الأيام، ويورد النسائي قولاً: "لعل التجريح قد جاء مما نسب إليه من نوادر وفكاهات لا تليق براوي حديث"، وثمة من رأى أن الرجل وقع فريسة المكايدات بين أهل الكوفة والبصرة في تلك العصور.

من جانب آخر، فقد نسب إليه البعض كرامات وخوارق، وهو ما ظل أيضا مثار خلاف ونفاه علماء كجلال الدين السيوطي الذي عاش في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، حيث قام بتأليف كتاب سماه "إرشاد من نحا إلى نوادر جُحا". وقصته أن السيوطي ألّفه بمثابة رد على سؤال ورده مستفسراً عنه، وقام في الكتاب بجمع القصص المنسوبة إليه وبيّن بعض المواقف.

وأورد السيوطي في كتابه هذا عن جحا: "كانت أمّه خادمة لأم أنس بن مالك، وكان الغالب عليه صفاء السريرة، فلا ينبغي لأحد أن يسْخر به إذا سَمِع ما يضاف إليه من الحكايات المضحكة، بل يَسأل الله أن ينفعه ببركاته. وغالب ما يُذكر عنه من الحكايات المضحكة لا أصل له. وقد ذكره غير واحد، ونسبوا له كرامات وعلوماً جمّة".

وعن الشخصية الثانية التي تدور حولها الكثير من قصص وحكايات جحا هي التركي نصر الدين خُوجة المعروف بجُحا الأتراك أو ما يسميه البعض بجحا الرومي، وكان معلماً وفقيهاً وقاضياً. وقد ولد في قرية صغيرة تدعى خورتو عام 605 هجرية وتولى بها القضاء، وتوفي عام 683هـ.

ويحكى عنه أنه كان من الزهّاد، وكان يعمل في فلاحة الأرض ويحتطب بنفسه رغم مكانته كعالم وقاضٍ، وكان كريماً حيث كانت داره محطة للعابرين من الغرباء وأهل الدار من الفلاحين وكان يعمل على تعليم الفقه، وله حلقة بها أكثر من 300 تلميذ وكان لهذا يلقب بـ "المعلم".

وجاء ربطه بالسخرية والنوادر بسبب أسلوبه في الموعظة التي كان يصوغها في قالب النكتة والنوادر الظريفة، والذي ترك صدى في قلوب الناس وأحبوه ولم تخصم من شخصيته بل كانت إضافة لها.

ومن المرجح ان يكون نصر الدين خوجة اكتسب لقب جحا بناء على التصور الذهني المسبق في التراث الإسلامي، فإذا كانت الشخصية حاضرة من قبل، فلا بد أنه ولاستخدامه النوادر والطرائف شُبّه بجحا الأول الذي ورد ذكره عند الجاحظ.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل