المحتوى الرئيسى

في ذكراه الرابعة والخمسين.. «الوفد» تحاور «العقاد» فى منزله بمصر الجديدة

03/06 22:51

كتبت ـ نهلة النمر:تصوير: محمد رشدى

- الأربعون عاماً الأخيرة من حياتى.

- نعم، ففى هذا البيت، كتبتُ خير كُتبي وأحبها إليّ، وقد عشت فيه تلك الكتب عيشًا حيًا، قبل أنّ أنقلها من عالم النفس إلى عالم الأوراق.

- كيف لا! وقد صعدت سلالم هذا المسكن ثلاثًا ثلاثاً، ثم صعدتها اثنتين اثنتين، ثُم أصعدها الآن، درجة درجة على غير عجل أو اكتراث، هذا المنزل قد نزلت به، والشعرات البيض يتوارين في السواد، ومازلت أنزل بهِ والشعرات السود يتوارين في البياض.

- نعم، فعندما أتيت من أسوان في سن الصبا، سكنت في منطقة منشية الصدر، ثُم انتقلت إلى حي الظاهر، قبل أن أستقر أخيرًا في حي مصر الجديدة عام  1926.

- هذا المنزل يذكرنى بأسوان، فعندّما أطُل من النافذة، أرى فضاءً واسعًا يعيد إلىّ هواء ومناخ  أسوان، حيث ولدت ونشأت.

ربما لو الزمان كان سخياً معنا، لأسعدنا وأجرينا حواراً مثل هذا، مع الأديب الكبير صاحب العبقريات، محمود عباس العقاد، والذى تمر ذكراه الرابعة والخمسون هذه الأيام، وربما كان رحب بنا فى بيته، ترحيبه الهاديء الذى اعتاده منه المحيطون به كما قالوا كثيراً. 

عندما وصلت «الوفد» إلى ميدان روكسى، ومنه إلى شارع السلطان سليم، ثم شارع شفيق غبريال، وتحديداً المنزل رقم 13، وجدنا المنزل الذى تحدث عنه العقاد كثيراً، بل أفرد له كتاباً خاصاً، بعنوان «فى بيتى»، ذلك الكتاب الذى، استقت أنا منه كل إجابات «العقاد» فى الحوار السابق.

عندما تدخل الشارع الكائن به منزل الأديب الكبير، محمود عباس العقاد- والذى تم تسجيله ضمن المباني التراثية الممنوع هدمها، نظرًا لسكن «العقاد» بهِ لقرابة أربعين عامًا- لا يسعك إلا أن تسأل عن الهدوء والفضاء، اللذين ذكرهما العقاد فى كتابه، عندما سُئل عن سبب اختياره لهذا المنزل، هذا الهدوء لم يعد منه سوى أطلال يا سيدى الأديب، خاصة بعدما أحاطت المبانى المرتفعة ببيتك من كل جانب تقريباً، والأكثر من ذلك، هو تحول كثير من طوابق الشارع السفلية إلى كافيهات ومحلات تجارية، ولكن لا تحزن كثيراً، فما زالت شجرة الكافور التى كانت أول ما تراه عيناك

من النظرة الأولى للمنزل، سوف تشعر بأنه آيل للسقوط منذ سنوات، فعدد الشروخ الكبيرة فيه واضح حقاً.

على الجانب الآخر من منزل «العقاد»، كانت تبدأ يومها، تفتح كشكها الصغير، وترتب حاجياته، وتمسح التراب عنها، فالطقس اليوم لا يوحي أبداً أننا فى أوائل مارس، والعواصف الترابية تملأ شوارع القاهرة، إنها الحاجة «فوزية»، والتى تسكن هذا الكشك منذ أكثر من ستين عاماً، نقترب منها، ونسألها: مش ده بيت العقاد يا حاجة؟  أيوه يا ولاد، طيب انت كنت تعرفيه؟: «ده شيء من زمان أوى، وأنا كنت صغيرة، وهو فى أواخر أيامه ماكنش بيخرج كتير، لكن أنا أعرف ولاد أخواته كويس، ناس تربية أصول، هو اللى مربيهم، وبيجوا هنا كتير، (ليلى) بنت أخوه طيبة أوى، ناس محترمة ومتواضعة، ونفسهم مش كبيرة على حد»، طيب ليه يا حاجة «فوزية» سايبين البيت بالشكل ده؟: «لأ؛ هم كانوا عايزين يصلحوه، لكن بتوع الثقافة قالوا لأ؛ عشان ده من الأثارات».

تركنا الست «فوزية»، وتوجهنا للمنزل، نتجاوز شكله الصادم؛ لندلف من البوابة الخارجية للبيت، وندخل حديقة صغيرة ليس لها من الحديقة، سوى الاسم، دائماً يطلبون منا أن نسمى الأشياء بأسمائها، حتى لو لم تعد تحمل معناها!! فمساحتها صغيرة جداً، بالنسبة لمنزل تتعدى مساحته ألفاً ومائتى متر، ولا يوجد فى كل دور سوى شقتين فقط، ولكن الأمر واضح، فلا يمكن أن يكون «العقاد» قد اختار لنفسه منزلاً بهذه الحديقة البائسة، فقد استقطعت الحديقة من الجانبين تماماً، ليقام فيهما محلات للملابس الجاهزة، ولم يُبق المالك الجديد لـ«العقار»، إلا على مساحة صغيرة كواجهة للمنزل.

للبيت بوابة خشبية تخبرك بعز زائل، عاشه هذا المنزل فى زمن مضى، لتجد أمامك صندوقًا بريديًا متهالكًا، كتب عليه بخط كاد ينطمس محمود العقاد، يستطيع حجم الصندوق الكبير أن يؤكد لك كم الخطابات التى كانت توضع فيه كل يوم، بعدها ستواجهك سلالم رخامية، ودرابزين حديدى، لو تمكنا من الحديث! ربما أخبرانا بالقامات التى مرت من هنا، لقد كان هذا المنزل شاهداً على فعاليات الثقافة العربية لمدة نصف قرن، فلم تكُن شقة «العقاد» مُجرّد شقة يُقيم بها أديب شهير،

فى الطابق الثانى من ناحية اليمين، تقع الشقة التى لا يقيم فيها أحد، على الباب الخشبى القديم وضعت يافطة نحاسية صغيرة، كتب عليها محمود عباس العقاد، ووضع أيضاً عليها قفل حديدى كبير يقول لنا: لا تطرق الباب، فلا أحد هنا.

لكن إن لم يكن هناك من يفتح لنا هذا الباب، فإن «العقاد» قد فتحه لكل محبيه قبل رحيله، حيث وصف هذا البيت وصفاً دقيقاً فى كتابه «في بيتي»، حيث حاكى «العقاد» تقاسيم هذه الشقة بكل التفاصيل؛ الأرضيات والجدران والأثاث، وعلى الرغم من أن الكتاب ذا السبعين صفحة، أفردت معظم صفحاته لمكتبة «العقاد» الضخمة؛ لتمثل جولة فى عقل الكاتب وآرائه، إلا أن الكتاب لم يضن على عشاق الأديب بوصف تفصيلى لمنزله، والذى منه يمكننا أن نستشف، أن هذا الباب المغلق فى وجوهنا، لو فتح،  فستـقـودنا الخطـوات الأولى فيه إلى صالة واسعة، تكسو أرضياتها بلاطات رخامية، امتزج فيها اللونان الأبيض والأسود، وعلق على جدرانها لوحات وصـور متـعددة، تـمـثل مراحل مـخـتلفة من حياة الأديب الكـبـير، أهمها صـورة لإمـام عـصـر التنوير الشيخ محمد عبده، وأخرى لأستاذه جمال الدين الأفغاني، وفى نهاية الصالة ستقابلنا الشرفة التى يقف بجوارها تمثال نصفي صغير لـ«العقاد».

تتألف الشقة من أربع حجرات، حجرة نوم «العقاد» التى حرص على أن تحيطها الشمس من أغلب الجهات، وحجرة الصالون وكان يسميها «وادى الظلال» لأن ستائرها الخشبية لا تسمح سوى بتسلل خطوط رفيعة من الضوء، وحجرة نوم ثانية كان يسميها حجرة «الجبلاوى» وهى مخصصة لإقامة صديقه طاهر الجبلاوى، وتشتمل على سرير نحاسى، وخزائن تحوى مجموعة من الكتب العربية، ثم حجرة المكتبة وبها مكتب لم يكن «العقاد» يجلس عليه فى أخريات عمره، لأنه كان يكتب مقالاته وهو مستلقٍ على ظهره بحجرة نومه، تلك المقالات التى كان يهاجم فيها الحكومة والملك، وعندما قيل له ذات مرة، إن مقالاتك تحدث ضجة فى الدوائر الوزارية، رد باسما وقال: «أخبروهم أنى أكتبها وأنا نائم».

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل