المحتوى الرئيسى

نجمة إبراهيم.. الشر صنعة ومحدش بياكلها بالساهل

02/25 15:55

ما يرقى لمستوى الحقائق اليقينية صار في مرمى "التشكك"، وإن كان "بعض الظن إثم"، فبعض الشك صعبٌ على النفس تقبّله، وخاصة إن تجرأ مثلا على إحدى المسلمات المصرية الموروثة، فمن يجرؤ مِن قريب أو بعيد على الاقتراب من أسطورة "ريا وسكينة"، والتي رُويت وحُكيت بتنويعات فنية عديدة، ليضرب لنا اعتقادنا الراسخ في مقتل ويكسر الصورة الذهنية التلفزيونية الشائعة التي حفظنها عن ظهر قلب.

منذ وقت قصير، برّأ تقرير صحفي لشبكة الـ"بي بي سي" المجرمتين التاريخيتين "ريا" وأختها "سكينة" مما نسب إليهما من جرائم خطف وقتل وسرقة وترويع الآمنين وتكدير السلم العام، زاعما أن هذه الاتهامات محض كذب وزور وبهتان وتزييف سافر للتاريخ، مؤكدا أن الجثث التي وجدت بمنزلهما لم تكن لنساء من الأصل، وكانت لجنود الاحتلال البريطاني، وأنهم كانوا مناضلين أشدّاء ضد المحتل االغاصب، وأن المصريين عاشوا طوال هذه السنوات في خدعة كبرى، يدعم ذلك ما قالوا إنها وثائق وشهادات جرى التكتم عليها وطواها النسيان.

ورغم أنه شهِد شاهد من أهل بريطانيا على إدانة بريطانيا العظمى نفسها بالتورط في هذه "التلفيقة" التاريخية، بحسب زعمهم، إلا أن "ريّا"، كما درجنا وإلى أن يجيئ يوم معلوم تُردّ فيه المظالم، "شريرة سفّاحة" سنبقى نعرفها بـ عبلة كامل في الصورة الدرامية في المسلسل الذي أخرجه جمال عبد الحميد (2005)، وشادية في الصورة المسرحية الهازلة من إخراج حسين كمال (1983)، ومن ورائهما بالطبع شريرة الشريرات وزعيمة العصابات، والتي ما إن تظهر على الشاشة حتى تُدخل الرعب على الجميع بشرر عينيها ونبرة صوتها وجفاء طبعها وسحنتها العكرة، إنها النجمة المُتوّجة على عرش الشر في السينما المصرية، نجمة إبراهيم، ليس فقط في فيلم "ريا وسكينة" من إخراج صلاح أبو سيف (1952)، ولكن في أفلام عدة.

وإن أردت أن تنعش ذاكرتك، فلتتذكر أشهر مقولاتها والتي صارت من أشهر "إفيهات" السينما المصرية على الإطلاق: "محدش بياكلها بالساهل"، التي قالتها في فيلم "ريا وسكينة"، و"حتى أنت يا أعرج بتحب"، التي قالتها لابنها في فيلم "اليتيمتين"، مما أصابه بعقدة نفسية، أليست هي الشريرة التي عذبت الطفلة "فيروز" في فيلم "الحرمان"، حتى أن الجميع كرهها من كل قلوبهم بسبب مبالغتها في تعذيب هذه الطفلة البريئة، كما أنها الأم القاسية في فيلم "الليالي الدافئة" عام 1962.

كما قدمت عام 1951 فيلم "أنا الماضي"، أمام زكي رستم، وفاتن حمامة، ولعبت فيه دور شقيقة "حامد"، الذي أدى دوره ببراعة زكي رستم، حيث يسعى للانتقام من زوجين ظلماه وتسببا في دخوله السجن وعند خروجه يكتشف وفاتهما فيقرر الانتقام منهما عبر ابنتهما وتساعده في الأمر أخته، التي تؤدي دورها نجمة إبراهيم، كما قدمت عام 1954 فيلم "جعلوني مجرمًا"، أمام الفنان فريد شوقي وجسدت دور «دواهي» المرأة الشريرة التي تقود عصابة تسخّر من خلالها الأطفال للتسول والسرقة.

الإقرار بوصم شخصية "نجمة إبراهيم" بالشر لا يحتاج إلى شهادة شهود، هناك إجماع على ذلك، إجماع يرقى إلى مستوى اليقين، انطبع وانحفر في عقول الجميع أن نجمة إبراهيم شريرة في الحقيقة، شريرة في كل أحوالها، شريرة في قرارة شعورها وفي مكنون أحاسيسها، "شـ...ريـ...ر ة".. لا تقبل الجدل والشك، وهذه أيضا "تلفيقة" و"كذبة" كبيرة، لا تستحق شهادة من بريطانيا، ولكن تحتاج منا فقط العودة إلى مقال كتبته الفنانة الكبيرة في مقال في مجلة "الكواكب" في 12 نوفمبر عام 1953، تحت عنوان "أرتعد خوفًا من ريا الحقيقية".

انبرت نجمة إبراهيم تدافع عن نفسها بكل ما أوتيت من حجة، تصدّرت لنفي هذه "الادعاءة": "لقد تعود الناس أن يروني على الشاشة شريرة تحالف الشيطان، أو قاتلة تحترف الإجرام، أو قاسية القلب لا تعرف الرحمة سبيلا إلى قلبها، وكل هذا سينما، مجرد أدوار تمثيلية لا أكثر، أما حياتي الخاصة فشيء آخر".

وتمضي نجمة إبراهيم في مرافعتها عن نفسها أمام الجمهور: "أول ما يجب أن تعلموه عني أنني أقاطع كل حفلات البريميير للأفلام التي اشترك فيها في دور الشريرة أو المجرمة، ذلك لأني أخرج غاضبة ناقمة على نفسي لأنني كنت بالقسوة التي ترونها، ولأنني حين أجلس لأرى نجمة إبراهيم الممثلة تتجه عواطفي لضحاياها فيستبدني الحنق عليها، التي هي أنا، ويتمتع المتفرجون بأدائي.. إلا أنا!".

وعن فلفسة إتقانها لأدوار الشر، وكيف تتقمص الشخصيات إلى درجة التماهي، توضح: "أعتقد أن السبب الوحيد الذي يجعلني بهذه البراعة في أدواري العنيفة الشريرة هو أنني أتمثل الشر واقعًا عليّ، فيتجسم في رأسي ويتضخم وأؤكد لنفسي أن الشر سيلحق بي إن لم أصبّه على غيري، فتكون العملية عملية دفاع عن النفس، وتكون النتيجة أن يراني المشاهد في دور الشريرة، وأنا أرتعد خوفًا من ريا الحقيقية فأحول جرمها إلى الضحايا، هذا هو السر، وهكذا أحس حين أتقمص شخصياتي التي تثير الرعب والفزع".

ربما يكون المخرج صلاح أبو سيف أفضل المحامين عن نجمة إبراهيم، خاصة وأنه مخرج الروائع، بل ومخرج فيلم "ريا وسكينة" نفسه، فهو الأجدر بأن يسند إليها هذه المهمة، يقول أبو سيف: "إن الشر الذي كانت تقدمه نجمة إبراهيم نبع من كرهها له، ومن طيبة قلبها، ومن وعيها بأهمية الدور الإنساني للفنان في تجسيد الشر بصورة تظهر مدى قبحه".

حتى وإن أعادت نجمة إبراهيم تمثيل شخصية "ريا" في نسخ فنية وألوان مختلفة، كمسرحية "سر السفاحة ريا"، بل وتعاونت أيضا مع الكوميديان الأول في مصر في "إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة"، عام 1955، مستغلة نجاحها منقطع النظير، فربما تكون ذكرى ميلاد المصرية اليهودية بوليني أوديون قبل 104 أعوام، وتحديدا في 25 فبراير 1914، والتي أصبحت فيما بعد نجمة داوود إبراهيم، فرصة لإعادة النظر في "حقائق" كثيرة ونبقيها في إطار "الفرضيات"، فقد تكون "ريا" مناضلة للاحتلال.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل