المحتوى الرئيسى

في مدرسة هيكل.. عندما يجري الخبر وراء الصحفي - صوت الأمة

02/17 13:25

في صباح  يوم السبت 17 يوليو من عام 2010، كان الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل على متن طائرة خاصة أرسلها له الزعيم الليبي السابق معمر القذافي إلى مطار العلمين، بالقرب من قرية الرواد التي كان يقطنها هيكل في الصيف،كي تنقله إلى قصر باب العزيزية في طرابلس للقاء القذافي.

طلب هيكل وقتها من صديقه الكاتب الصحفي عبد الله السناوي، أن يرافقه في هذه الرحلة الطويلة التي استغرقت 16 ساعة ذهاباً وإياباً، من أجل آخر لقاء جمعه مع القذافي، لكنه وأثناء جلوسه على مقعده في الطائرة الخاصة وأثناء ما كان هيكل يتصفح بعض الأخبار والتقارير على جهاز "أي باد"، حمله معه، باغته السناوي بسؤال: هل الصحفي هو الذي يبحث عن الأخبار أم أن الأخبار هي التي تبحث عنه؟ - من يجري وراء من ؟-.

أجاب هيكل وقتها: الأثنين معاً، لأن كل شيئ في وجدان هيكل يبدأ بخبر، وأسوأ خبر ألا يكون هناك خبر، وعندما تتوقف أي دولة عن صناعة الأخبار فإن ذلك يُعني أن حيويتها في خطر ومستقبلها غامض. 

وأثناء ما كان يتحدث هيكل والسناوي قبل إقلاع الطائرة حدثت مفاجأة لم تكن متوقعة، ففي مطار العلمين الذي كان يملكه رجل الأعمال وقتها محمد إبراهيم  كامل المقرب من عائلة مبارك، صدرت تعليمات أمنية تمنع أي طائرة من التحليق حتى تهبط طائرة رئاسية على المدرج، وأثناء ما كان هيكل ينظر من شرفة الطائرة قبل إقلاعها لاحظ طائرة الرئاسة تهبط بجواره، نزل مبارك وحرمه ولم يكن معهما أحد آخر باستثناء معاون أو أثنين من رئاسة الجمهورية يحملان الحقائب، وأمامهما تشريفة أحاطت بمدرج المطار وتسع سيارات مرسيدس سوداء صاحبت مبارك إلى  استراحة رأس الحكمة وقتها.

مشهد مبارك بدا لهيكل والسناوي أنه بحالة صحية جيدة تسمح له بأن يسافر لقضاء يوم في الساحل الشمالي والعودة في اليوم التالي، صحته لم تكن في خطر داهم على ما أشاعت التقارير الغربية والشائعات التي سادت في مصر ذلك الوقت، في هذه اللحظة لم  يكن يتوقع مبارك أن هناك من يراقبه خلف نافذة على طائرة خاصة توشك أن تقلع من مطار شبه خال وقتها نظر هيكل لـ السناوي قائلاً: الأخبار تبحث عنك من حيث لا تتوقع أو تحتسب.

في كتابه "سقوط نظام" الذي ألفه مطلع عام 2003، كي يوثق لعصر الملك فاروق قبل ثورة يوليو، تحدث هيكل عن بداية عمله الصحفي في جريدة"الإيجيبشيان جازيت"، أوائل أربعينيات القرن الماضي، متذكراً نصيحة رئيس تحريره وقتها مستر "هارولد أيرل"، أثناء ما كان هيكل لا يزال صحفي متدرب في الجريدة، حينما قال له رئيس التحرير نصاً: أنتم سوف تذهبون إلى مهام متواصلة تغطون فيها مسارات الحوادث في وطنكم وبلدان عديدة، وعندما تأخذكم المهام التي تكلفون بها إلى أي مكان، خصوصاً خارج البلاد، فلا تحاولوا أن ترسلوا بمواد إخبارية عاجلة، لأن وكالات الأنباء سوف تسبقكم.

وتابع رئيس تحرير الإيجيبشان جازيت في نصيحته لهيكل وثلاثة متدربين من زملاءه: وأما ما تستطيعون التفوق به على غيركم فهو التركيز على خلفية الوقائع والحوادث وحركتها الداخلية، مستندين إلى المشاركة فيها وشهودها، راسمين باللون والظل وبالصوت والهمس صوراً حية للأجواء والظروف والملابسات، وعليكم تسجيل ذلك وتثبيته أولاً بأول  حتى تستيطعوا فيما بعد وعندما تكتبون تقاريركم، أن تستعيدوه على نحو دقيق وأمين، وإذا اعتمدتم على الذاكرة وحدها ومر يوم ثم يوم، فأخشى أن النتيجة تكون أقرب إلى فن القصص منها عرض الخبر!.

هذه النصيحة ظل هيكل يتذكرها دائما حتى باتت قانوناً يسير عليه طيلة حياته، منذ أن قرر أن يكون صحفياً وحتى وافته المنية قبل هذا اليوم بنحو عامين عن عمر ناهز الـ 93 عاماً.

الكاتب الصحفي عبد الله السناوي قال في كتابه عن هيكل "أحاديث برقاش"، أن الصحافة من وجهة نظر هيكل هي فن مجازى فماكيناتها تدور بالأخبار والتحقيقات وما يهم القارئ، وفى اليوم التالى تخرج إليه بجديد آخر، الفن ثابت وفى ثباته مشروع خلوده والصحافة متغيرة وفى تغيرها موهبة متابعة اهتماماتها.

"لسنا فنانين ولا روائيين ولا مؤرخين، لكن استلهام الفن فى روحه والرواية فى دراميتها والتأريخ فى أدواته يضفى على الرواية الصحفية جمالا وحيوية ودقة وهذا أقصى ما يطلبه صحفى".. هكذا روى هيكل.

يروي السناوي أنه فى السنوات الأولى للتكوين الأساسي لهيكل تأثر برجلين آخرين لكل منهما شخصية تناقض الآخر.. الأول هو الشاعر كامل الشناوى بحياته الصاخبة البوهيمية وطباعه الحلوة والمشاكسة، فى كل يوم قصة حب جديدة وإحباط آخر وقصيدة مبدعة ، والأخر هو الأستاذ محمد التابعي.

رغم أن تكوينه المهنى الأول فى الإيجيبشان جازيت حال دون انتسابه لمدرسة أخبار اليوم إلا أن فترة عمله فيها مراسلاً متجولاً ومديرا للتحرير أتاحت أمامه أن يطل على القارئ المصرى بلغته العربية عبر سلسلة تحقيقات من مواطن الأحداث والحروب والصراعات والانقلابات لخمس سنوات متصلة.

وكان على أمين هو من اقتنع ودعم اقتراحه أن يسافر إلى مواطن الخطر، وأن يكتب من هناك لقارئ مصرى تداهم الأحداث منطقته دون أن يكون ملماً بحقائقها وأسرارها وخفاياها.

بانتقاله إلى الأهرام فى بدايات عام ١٩٥٧ شرع فى تأسيس تجربته الكبرى، وفى تجربته الأهرامية أرسى قواعد مدرسة جديدة، لكنها لم تستكمل مقوماتها على النحو الذى صنع أسطورته إلا بعد أن غادر مطابخها الصحفية عام ١٩٧٤، فقد أضاف إلى تقنياتها أدوات، واتسعت تأثيراتها خارج ما هو معتاد فى المدارس الصحفية الأخرى.

فى يومه الأول رئيسا لتحرير الأهرام فاجأته تحدياته، فهو فى الثالثة والثلاثين من عمره بينما قيادات الصحيفة العريقة تجاوز أغلبهم الخمسين، وهو قادم من أخبار اليوم وهى تجربة صحفية تناقض ما اعتادته الأهرام من تقاليد رسخت وأساليب فى كتابة الأخبار والتحقيقات والعناوين وترتيب الصفحات وتوضيبها.. وهذه مسألة حساسة لوحدها بغض النظر عن ميله الطبيعى إلى النهج المهنى لـ الأهرام.. لكنه استطاع تجاوز فجوة الأعمار وجفوة المدارس.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل