المحتوى الرئيسى

فشل نظام الأمن الجماعى الدولى

02/16 22:19

إن إلقاء نظرة عامة على النظام الدولى المعاصر ــ الذى نشأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والذى يحدد أبعاده ميثاق الأمم المتحدة ــ يؤكد أن نظام الأمن الجماعى Collective Security System الذى نص عليه ميثاق الأمم المتحدة لحماية السلم والأمن الدولى قد فشل. وقد أثبتت مأساة حلب بما لا يدع مجالا للشك أن هذا النظام قد فشل فشلا ذريعا. لسنوات طويلة كان المتهم الأول لهذا الفشل يُنسب إلى الحرب الباردة بين معسكر الولايات المتحدة ومعسكر الاتحاد السوفيتى. لذلك فإنه بعد سقوط حائط برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتى سادت العالم موجة من التفاؤل والشعور العام بما ورد فى ديباجة ميثاق الأمم المتحدة من أن: «نحن شعوب العالم نؤكد العزم على إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب» وهو الغرض الذى اتُفق من أجله على إقامة الأمم المتحدة التى يكون الهدف الأول من إنشائها هو «المحافظة على السلم والأمن الدولى باتخاذ التدابير الجماعية الكفيلة بمنع وإزالة أى تهديد للسلم، والقضاء على جميع صور العدوان». ارتفعت الآمال بأن هذه الأهداف السامية سوف ترى النور بعد انتهاء الحرب الباردة، وسوف ينبذ العالم قانون الغاب الذى يعود لعهود مظلمة ماضية عفا عليها الزمن، بحيث يسود السلام والعدالة كل بقاع الأرض.

وبالفعل طلب قادة العالم فى أول اجتماع قمة لمجلس الأمن فى 31 /1/ 1992 من السكرتير العام الجديد للأمم المتحدة الدكتور بطرس بطرس غالى أن يقدم تقريرا عن تصور لطبيعة العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، فتقدم الدكتور بطرس غالى بتقرير فى غاية الأهمية أُطلق عليه «أجندة للسلام»، ولكنه سرعان ما تبين أن حماية السلام العالمى لن تتحقق بمجرد انتهاء الحرب الباردة لأن مصالح الدول الكبرى كثيرا ما تتعارض، وبالتالى سوف يستمر شلل مجلس الأمن وعدم قدرته على اتخاذ التدابير الفعالة العاجلة التى تفرض السلام.

هنا، لابد من العودة إلى الوراء وإلقاء نظرة معمقة على ما سوف أطلق عليه «العقد الاجتماعى» الذى أُبرم عام 1945 فى مؤتمر سان فرانسيسكو عند إقرار ميثاق الأمم المتحدة بعد أكبر حرب مدمرة فى تاريخ الإنسانية. عندئذ اتُفق على إنشاء «مجلس أمن» يتولى الإشراف على حماية السلم والأمن الدولى، وأن تكون للمجلس صلاحيات واسعة غير مسبوقة للقضاء على كل ما يهدد السلام. كما اتُفق على أن يكون للدول الخمس الكبرى دائمة العضوية صلاحيات نقض (ڨيتو) للقرارات الموضوعية وليس القرارات الإجرائية. وللأسف لم يحتوِ الميثاق على تحديد دقيق للقرارات الإجرائية التى لا يجوز نقضها، وما هو موضوعى أن الميثاق يمنح للدول الخمس دائمة العضوية رخصة نقض؛ بمعنى إفشال قرارات حصلت على الأغلبية المقررة لإصدارها. الحجة وراء هذه الرخصة غير المسبوقة التى قدمت كانت تدور حول مسئولية هذه الدول الخمس العظمى فى حماية السلام العالمى، أى مسئولية دولية عامة ولم تكن لحماية مصالح شخصية لهذه الدول.

وقد حاولت الدول الخمس الكبرى فى مؤتمر سان فرانسيسكو فرض رغبتها فى إطلاق يدها فى نقض القرارات غير الإجرائية أيا كان مضمونها، وإدماج هذه الرخصة بوضوح فى صلب الميثاق، ولكنها لم تنجح فى ذلك للمعارضة التى أبدتها غالبية الدول. ونجد أن الوضع الحالى يجعل المصالح السياسية والاقتصادية المتشابكة للدول الخمس الكبرى التى تملك صلاحية إعاقة مباشرة مجلس الأمن لمسئولياته تجعل من غير المتصور أن يكون هناك أى إجراء يستطيع أن يقوم به المجلس لا يمس هذه المصالح بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. معنى هذا ببساطة أنه قد كُتب على مجلس الأمن بتركيبته الحالية أن يبقى فى حالة شلل دائم، وهو ما تعانى منه الإنسانية منذ نشأة الأمم المتحدة.

وبناء على ما تقدم فإن شبكة الحماية الدولية للدول التى جاء بها ميثاق الأمم المتحدة لم تعد متوافرة. وهذا ما عانت منه الدول العربية بالنسبة لقضية فلسطين على مدى سبعة عقود وما تعانى منه الآن المنطقة فيما يتعلق بتطبيق القرارات الخاصة بسوريا.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن شلل المجلس لا يتوقف فقط على الاستخدام الفعلى للڨيتو. فقد كنت ممثلا لمصر فى مجلس الأمن خلال عامى 1996 و1997، ورأست المجلس فى يونيو 1996 وشاهدت بنفسى وعانيت من تهديدات الدول الخمس فى المشاورات قبل التصويت باستخدام الڨيتو لإجهاض الكثير من القرارات المهمة. وفى نهاية المطاف ما يحدث عندما يتم التوصل إلى صياغة تقبلها الدول الخمس الكبرى يكون:

ــ الإحجام عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإنهاء النزاع والاكتفاء بتعيين مبعوث لإدارة النزاع، وخير مثال على ذلك هو القرارات الخاصة بفلسطين.

ــ قرارات بتوقيع عقوبات لا تغير الأوضاع كثيرا ولكنها تضر عادة أبرياء كُثرًا.

ــ صياغات مشوهة لفظية Verbal لا تتسم بالفاعلية مثل ما نراه حاليا يتكرر من إدانات وشجب فى قرارات المجلس دون التطرق إلى الإقدام على إجراء يغير من الأوضاع المأسوية محل البحث. 

نعم هناك بعض الاستثناءات، وعلى سبيل المثال ما حدث فى يونيو 1950 فى أثناء الحرب الكورية عندما أصدر المجلس قرارا واضحا لا لبس فيه ولا يتسم بالغموض والتردد برد عدوان كوريا الشمالية ضد كوريا الجنوبية، وكان سبب هذا «النجاح» أن وفد الاتحاد السوفيتى كان قد قاطع جلسات المجلس بسبب عدم الموافقة على قبول الصين الشعبية فى الأمم المتحدة. وبعد صدور هذا القرار برد عدوان كوريا الشمالية عاد الوفد السوفيتى فورا لمقعده فى المجلس ولم يتغيب عضو دائم بعد ذلك أبدا. وهناك استثناء آخر فى غاية الأهمية هو الموقف القوى والواضح الذى اتخذه المجلس عام 1990 عندما أقدم عراق صدام حسين على الغزو الأحمق والغاشم لدولة الكويت، فلم يتردد المجلس فى اتخاذ القرارات المطلوبة تحت الفصل السابع من الميثاق الذى يعالج حالات قمع العدوان وتهديد السلم الدولى. ولابد من الإقرار بأنه فى السنوات الأخيرة لا يتم اللجوء إلى الڨيتو فى حالات كثيرة كما كان الوضع فى الماضى. فبريطانيا وفرنسا قلما تلجآن إلى استخدام الڨيتو، والصين لا تستخدم الڨيتو منفردة إلا فيما يتعلق بتايوان. وروسيا لاتزال تستخدم الڨيتو بدون تردد وتهدد باستخدامه فى حالات كثيرة جدا. أما الولايات المتحدة ففى السنوات الأخيرة تستخدم الڨيتو وتهدد به كثيرا لحماية إسرائيل فقط. ولكن المحصلة النهائية أن الڨيتو والتهديد به قائمان ويؤديان إلى شلل مجلس الأمن.

ما العمل إذن؟ لابد من البحث جديا وبعمق فى طرق وأساليب بديلة لحماية السلام. هنا أطالب بالتفكير جديا فى تعديل لميثاق الأمم المتحدة. فالميثاق ينص صراحة على بحث موضوع التعديل لمواكبة تطورات العلاقات الدولية بعد عشر سنوات من إقراره، أى كان المفروض أن يبدأ بحث تعديل الميثاق جديا اعتبارا من عام 1955، وبالفعل أُدرج بند فى جدول أعمال الجمعية العامة فى هذا العام للنظر فى تعديل الميثاق. ولكن الدول الكبرى نجحت فى إحباط هذه المحاولة لأنها تعلم جيدا أن تعديل الميثاق ــ إذا كتب له النجاح وهو أمر غير مضمون ــ قد يؤدى إلى تقليص صلاحياتها بالنسبة لاستخدام الڨيتو.

عالمنا المعاصر فى حاجة ماسة إلى إعادة إنقاذ البشرية عن طريق الاتفاق على نظام أمن جماعى له «أنياب» ويستطيع فرض السلام والقضاء على المذابح والفظائع التى ما زالت تقترف، وهو ما سبق أن اتفق عليه عام 1945 فى مؤتمر سان فرنسيسكو.

من جهة أخرى لابد من الإشارة إلى أن مجلس الأمن لم يباشر إحدى أهم مسئولياته التى نص عليها الميثاق؛ فالمادة 26 من الميثاق تنص على أن مجلس الأمن هو المسئول عن وضع خطط تُعرض على أعضاء الأمم المتحدة لوضع «منهاج لتنظيم التسلح» وترك مسئولية تنظيم التسلح للجمعية العامة التى تصدر توصيات. ويجب أن يؤخذ فى الاعتبار هنا أن الميثاق قد تمت صياغته قبل بدء العصر النووى، وهو ما يعنى أنه بعد استخدام القنابل النووية فى هيروشيما وناجازاكى فى أغسطس 1945 أصبح من الضرورى مباشرة المجلس الصلاحيات التى أضفاها الميثاق فى العصر قبل النووى. ولكن المجلس ــ ربما بسبب الحرب الباردة ــ أحجم عن مباشرة هذه المسئولية وتركها للجمعية العامة التى لا تملك الصلاحيات نفسها. وقد نشطت الجمعية العامة فى حدود مسئولياتها وأبرمت تحت إشرافها معاهدة منع الانتشار النووى عام 1968 التى كان المفروض أن تكون عالمية، بمعنى أن جميع دول العالم تلتزم بما جاء فيها من نبذ الأسلحة النووية.

كما نصت المعاهدة فى مادتها السابعة على أنه يمكن لعدد من الدول إضافة التزامات أخرى، وقد قامت دول أمريكا اللاتينية بإنشاء منطقة خالية تماما من السلاح النووى، أما منطقة الشرق الأوسط فعلى الرغم من القرارات العديدة التى صدرت بضرورة إنشاء المنطقة فإن إسرائيل لاتزال تعرقل قيامها.

الأوضاع الحالية والفوضى العارمة فى بعض بقاع الأرض وعلى وجه الخصوص فى المنطقة العربية تؤكد أنه قد بات ضروريا إعادة صياغة التنظيم الدولى ليتجاوب مع إفرازات التطورات الدولية فى العقود السبعة الماضية. فخلال الحرب العالمية الثانية تجمعت الدول المناهضة للنازية والفاشية وتغلبت عليها، وقرر المنتصرون إقامة نظام دولى جديد كان المفروض أن يؤدى تطبيقه بأمانة إلى عدم نشوب حروب مدمرة فى المستقبل. إن آفة المرحلة الراهنة فى العلاقات الدولية ليست الحروب التقليدية بين الدول، بل حروب داخل الدول تتحول إلى حروب بالوكالة ــ كما نشاهد فى سوريا ــ أو تفشى ظاهرة الاعتداءات الإرهابية التى تتسع رحاها. ولابد من وضع حد لها عن طريق إقدام مجلس الأمن على اتخاذ التدابير الجماعية المناسبة للقضاء على هذه الظاهرة. لابد من مواجهة الحقيقة والإقرار بأن مجلس الأمن لا يستطيع الإقدام على مباشرة هذه المسئوليات فى ضوء الإطار القانونى الذى يحدده مسار عمله. لذلك لابد من السعى جديا إلى تغيير «قواعد اللعب فى المجلس».

إذا كان نظام الأمن الجماعى لا يعطى الضمانات اللازمة لحماية الدول فإنه يحق التساؤل عما إذا كان النظام القضائى الدولى يوفر هذه الحماية.. بمعنى: هل تملك دولة أن تلجأ إلى جهة قضائية دولية لرفع ظلم وقع عليها؟

لمحاولة الإجابة عن هذا التساؤل يلزم إلقاء نظرة على النظام القانونى الدولى، وأعنى به مجموعة الاتفاقيات الدولية التى أقرها المجتمع الدولى والتى تنظم العلاقات بين الدول. وهنا يمكن القول إن هناك اتفاقيات دولية تنظم جميع أوجه العلاقات الدولية على الأرض وفى السماء وفى الفضاء الخارجى وفى البحار وفى قاع البحار، وتحوى هذه الاتفاقيات حقوقا وواجبات على هذه الدول احترامها. ولكن العقبة الكبرى تكمن فى تطبيق هذه الاتفاقيات، فكما هو معروف أن الالتجاء إلى القضاء الدولى اختيارى وبالتالى لا يمكن إجبار دولة على قبول الذهاب إلى محكمة دولية للنظر فيما إذا كانت قد خالفت قاعدة قانونية أو التزاما عليها تنفيذه إلا برضاها. نعم قد تقبل بعض الدول الاختصاص الإلزامى لمحكمة العدل الدولية ولكن حتى الآن ثلث دول العالم فقط قامت بذلك وعادة يتم ذلك بشروط، فعلى سبيل المثال قبلت مصر الاختصاص الإلزامى لمحكمة العدل الدولية عام 1957 فيما يتعلق بإدارة قناة السويس وبين الدول الموقعة على اتفاقية القسطنطينية لعام 1888 فقط.

وعلى الرغم من أننى أعتقد بضرورة تعديل الميثاق، وقد توليت رئاسة لجنة الميثاق فى الأمم المتحدة وطالبت بذلك منذ سنوات فى محافل دولية عديدة وكتبت عدة مقالات نُشرت فى كتب ومجلات دولية، فإننى ــ وللأسف الشديد ــ لا أعتقد أنه فى الظروف الدولية الحالية سوف يكون من المجدى السعى لإلغاء نظام استخدام الڨيتو، ولكن يحدونى الأمل فى أن ينجح المجتمع الدولى فى ضوء المآسى والمذابح التى يشهدها العالم فى إخراج بعض أمور من نطاق استخدام الڨيتو. بعد مأساة حلب لابد أن يتساءل الضمير العالمى: كيف تمنع دول كبرى إيصال مساعدات إنسانية إلى سكان حلب؟ ولماذا تمنع دول كبرى إصدار قرارات بوقف إطلاق النار؟. عندما تشتعل الحروب أو عندما يكون هناك تهديد جدى باستخدام أسلحة الدمار الشامل مثل الأسلحة الكيماوية. فى مثل هذه الحالات المحددة الصارخة يجب على مجلس الأمن أن يباشر مسئولياته دون إعاقة وعلى المجتمع الدولى مسئولية اتخاذ الخطوات التى تسمح للمجلس بمباشرة هذه المسئوليات فى المحافظة على السلم والأمن الدولى، وحيث إننى أتحدث فى جامعة الكويت العريقة فى دولة الكويت الشقيقة التى ترفع دائما قيمة العدالة والقيم الإنسانية الرفيعة، فإننى أدعو إلى الإقدام على دراسة جدية حول سبل رفع كفاءة الأداء فى مجلس الأمن لتمكينه من القيام بمسئولياته فى حفظ السلم والأمن الدولى.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل