المحتوى الرئيسى

شوارع السماء.. شُرفة سحرية تُطل على خيبة الأمل

02/12 12:48

غلاف المجموعة الفائزة بجائزة معرض القاهرة للكتاب

أن تستلقي على عُشب ندي مخلفا وراءك العالم.. مودعا ناظريك للسماء؛ ربما تسحرك سحابة عابرة، وتورطك في لعبة طفولية.. من تشبه هذه السحابة؟ تتقافز الإجابات المرحة.. تشبه ملاكا أو فيلا صغيرا.. تسرح في ملكوت السماء.. لحظات قصيرة قبل أن تدير لها ظهرك وتنهض لرحلتك.

النظر للسماء وحده منهلا للوحي.. لم يكتفِ وجدي الكومي بعطايا هذا الوحي، لم يكتفِ بتتبع سحابة.. وإنما راوده خياله لما هو أبعد من عتبات السماء، طرق بابها ودخل من أبوابها وقرر استعمارها، بنى داخلها شارعين، بيتا، وسكب مياه بحر بها "صنع من السحب قاربا شراعيا، اختبره فوجده متماسكا كما لو كان مصنوعا من الخشب والحبال الغليظة".

شيد الكومي في مجموعته القصصية "شوارع السماء"، الصادرة عن دار "الشروق" المصرية، عالما سورياليا في خط موازٍ للأرض، خلّف على الأرض خيبة الأمل، وفي السماء كان كل شيء يخص البطل وحده، كل شيء يراقبه من بعيد وهي في حضرة العصافير التي تتقافز أمام شرفته الجديدة في السماء، ظل يتتبع الشرور من أعلى منصته يتعجب لتغوّل الشرور على الأرض وينهض لبناء بيوت مجاورة له للضحايا الذين يدنون من رحلة الصعود التي سما بها بعدما ضاق به الحال، بعدما ظن أن السبيل لبقائه هو الارتحال في قارب لأرض أوروبية واسعة عبر واسطة "سمسار المهاجرين" قبل أن يتخلى عنه وعمن معه ممن تعرضوا لنصبه وتركهم في غياهب البحر المظلمة.

في السماء قرر البطل أن يغور في أعماق السماء وفي رائحتها، بعدما انتقل البؤساء لبيته المطل على شارعي السماء "منحهم غيطان السحب، يعملون فيها، يزرعونها ويحصدونها، تحولت السحب البيضاء إلى كتل خضراء خصبة، لم يكن لها من قبل عبير أو روائح عطرة، من يعرف رائحة السحب كيف تكون؟ تحولت السحب إلى غيطان مزهرة، ينبعث منها عبق الياسمين والفل والريحان وتتلون جزيئاتها بألوان الورود الحمراء والصفراء والبنفسجية".

اطمأن لتوأم جيرانه في شارعي السماء، اللذين اختارهما في البداية، وقرر أن يرحل بعيدا في دهاليز السماء، حتى وصل إلى الشمس التي صاحبها، وأطلعته على أسرارها، ومرّ على إيقاع حركتها على العالم كله، متفحصا القارات البعيدة وجبالها وتضاريسها من أعلى، امتطى هلالا وجد نفسه معلقا فيه، يتجول وسط قطع سماء مجاورة عمّرها ضحايا سمسار البحر ذاته، يقتطعون هم أيضا شارعين من "شوارع السماء"، وهم منهمكون في الحديث إلى النجوم وجوب رحلات كتلك التي خاصها من الشمس "تركهم يكررون رحلته، هي الرحلة الوحيدة التي لا يدفع أي منهم نقودا أو مبالغ باهظة نظير إجرائها ولا يضطر فيها أحدهم لشراء تذكرة سفر".

يقول الكاتب المكسيكي خوان رولفو: "القصّة القصيرة هي ضربات فأس هنا وهناك"، تتذكر المقولة وأنت تجوب "شوارع السماء"، التي تقاسمتها 21 قصة قصيرة، ضربات فأس يُقلب بها وجدي الكومي أرضا غائرة من الشعور بالذنب والعجز وخيبات الأمل والحصار، تجد أبطال حكايته في كل مكان، تسمع لهم خطى "ديناميكية"، يكتنزون أطوارا غرائبية لا يفهمها سواهم، كبطله في قصة "الرجل الذي يدخر البكاء".

أبطاله يرفضون مغادرة العالم والرحيل دون أن يودعوا فيه وصية أو حكاية أو حتى دليلا، لا يوقفهم في ذلك عدم اكتراث المحيطين بنواياهم الطيبة، أحدهم يجمع شتات عمره وعمر زوجته الراحلة في قصة قصيرة قرر أن ينشرها في نهاية عمره، كما في "قصة قصيرة كتبها أبي" وسط عدم تقدير واهتمام من الابن بطل قصة أبيه القصيرة، مقاطعات سخيفة تطارد بث رسائل أبطال القصص إلى هواء العالم.. ومع ذلك لا تثنيهم عن تتبع قلوبهم.

العوالم السحرية التي منحها وجدي الكومي في مجموعته الجديدة لم تستمد مفرداتها وحسب من مشتقات السماء، وإنما نبشت في مفردات أرضية قاسية مثل الألغام والأسلحة والحروب، تلك التي تفر مآسيها من صالات الأخبار، حضرت في المجموعة كشريط صوت يعيد أبطاله الحالمين إلى واقعهم المُر مستعينا في الحياة ببشائر قصص حب محتملة كما في "قطرة ماء وصنبور صدئ".

في حضور موازٍ للتقنيات الافتراضية في التواصل، كما حدث مع مطاردات البطل في "انطفاء جوجل" ومأزق بطل "داء الهمزة" مع النص، يعبر بك وجدي الكومي إلى ضفة أكثر توترا رغم عدم حضور "جوجل" و "التابلت" وألاعيبهما، من خلال تحديقه في حكايات متكئة على رصيد من السينما والخيال والتراث الحكائي والفانتازي، كما في "فتى القمر" و"كاتب قصص الجنود" و"سيدة الياقوت" و"المهاجر وأبوالهول".

في المجموعة القصصية، التي تقع في 132 صفحة، استعمل الكاتب أسماء السلاسل والعلامات التجارية الشهيرة والأجهزة الإلكترونية المتطورة، في صدد اختبارات نصبها لأبطاله مع استهلاكية العالم المجنونة، تُراقب كقارئ انزلاقهم في فخاخ انتهازية "العروض التجارية Offers"، كأشراك وكمائن للإنسانية، التي تتسرب عنهم ببطء كما عرّج في "بطل الأوكازيون".

اختمرت سجون المادية في أوجها في قصته "قمر يتدلى على مشنقة".. يقول صاحبها عن نفسه: "حياتي أحسبها على الآلة الحاسبة، هكذا صارت أرقام مضروبة في أرقام، لتنجب أرقاما أخرى".

صاحب القصة السمين يتداعى من فرط الشعور بالذنب أمام أحدهم "أدهم" الذي يمثل أحد ضحايا الرأسمالية وأرقامها العبثية على الأرض، يأبى أن يعتد بالذنب أو الاعتراف به، فيؤثر أن يكرهه ويتلوى "أشعر أن الأرقام تهمس في أذني أثناء نومي"، ويتصور أدهم وهو يهمس في أذنه وهو على مأدبة طعام فاخرة "انت بتشرب وأنا عطشان، وغرقان في مجاري".

ينسحق في تماهٍ بين الشعور بالذنب الطاغي تجاه بواب عمارته "أدهم" الذي يقطن غرفة خانقة غارقة في المجاري، يتهاوى في مشهدية تدور في مساحة غائرة بين الواقع والخيال.. الحلم والكابوس. الحياة والموت.

"في الصباح كنت أسمعهم بوضوح بينما يصرخون، زوجتي وصغيرتي، يصرخون ملتاعين، وكنت عاجزا عن استرداد وعيي، كنت حبيس غيبوية ما، كنت والقمر معلقين في خيط، يتأرجح في خطورة بينما أرمقه في هلع، والقمر غير عابئ".

حازت مجموعة "شوارع السماء" أخيرا على جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب 2018 عن أفضل مجموعة قصصية.

وصدر للكاتب المصري وجدي الكومي من قبل رواية "شديد البرودة ليلًا (2008)، ورواية "الموت يشربها سادة" (2010)، ورواية "خنادق العذراوات" (2013)، ومجموعة قصصية بعنوان "سبع محاولات للقفز فوق السور" 2013، كما فاز أخيرا وجدي الكومي بجائزة الإبداع العربي فرع الأدب عن روايته "إيقاع" التي أعلنتها مؤسسة الفكر العربي.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل