المحتوى الرئيسى

الوصاية الكونجرسيّة | المصري اليوم

01/16 12:32

يتقاسم منظومة الحكم الأمريكى ثلاثة أجهزة: التنفيذى والتشريعى والقضائى، لكن الجهازين التشريعى والتنفيذى حظيا بنصيب الأسد منها، وأقام الدستور الأمريكى توازنًا بين سلطتيهما ورقابة لكل منهما على الآخر، بيد أن كفة الجهاز التشريعى- الكونجرس- تُرجح وبقوة كفة الجهاز التنفيذى (الرئيس وإدارته)، آية ذلك أن الكونجرس بمكانته عزل الرئيس، حال إدانته بالخيانة أو الفساد أو لاقترافه أى جرائم وجُنَح يجرّمها القانون الأمريكى، وذلك وفقًا لأحكام المادتين الثانية والثالثة من الدستور الأمريكى، فى حين يبقى الرئيس الأمريكى مجرّدًا من حق حلّ الكونجرس.

يتفرّد الرئيس الأمريكى ترامب بجملة خصائص وصفات عن سابقيه وبالتأكيد عن لاحقيه، من بين تلك الصفات والخصائص حجم اللغط الذى أحاط به حتى قبل أن يُعلن فوزه أو تطأ قدماه عتبة البيت الأبيض، من ذلك احتمالية تواطئه مع الروس فى حملته الانتخابية للتأثير على منافسته الديمقراطية هيلارى كلينتون.. إلخ، أيضًا حجم التعيينات والإقالات والاستقالات فى الشهور بل الأيام الأولى من فترة حكمه الأولى والأخيرة، لدرجة أنه يمكننا القول إن إدارته كالسيدة التى تعانى من مشاكل فى الحمل وعدم ثبات الجنين فى الرحم.. هل يواصل ترامب اتحافنا بتفرّد مسلكه وغيريّة صفاته، التى وصفها- بعد نشر الكتاب القنبلة «النار والغضب» للصحفى مايكل وولف- بالعبقرية والفذّة، وبأن يحتل المركز الذى لم يسبقه إليه أحد من الرؤساء الأمريكيين السابقين، وهو الرئيس المعزول؟! وواقع الأمر وحقيقته؛ أن المسلك الصفقاتى لإمبراطور العقارات وما درج عليه من اعتياد يومى، وأخيرًا قراره العبثى بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتعليماته بنقل سفارة بلاده إليها.. كل ذلك يقودنا إلى استخلاص تحليلى مفاده أن ترامب ماضٍ فى طريقه نحو النهاية، سواء المحاكمة والعزل أو الاستقالة.

يمكننا تشبيه علاقة الرئيس الأمريكى بالكونجرس، بعلاقة طيار تحت التدريب بمدربه، يترك المدرب- الكونجرس- لتلميذه المتدرب- الرئيس- وقد افترض فيه توافر أبجديات العمل السياسى وأهليته له، عجلة القيادة، لكنه لا يبرح كابينة القيادة، هو مَن خلفه مراقبًا موجّهًا، لكن إذا ما أحس المدرب الخبير بصبيانية المتدرب ورعونته؛ فإنه يلومه ويوبخه، وإذا ما استمر فى مراهقته ونزواته وسقطاته؛ فلا مفر من الحلول محله، إذ إن الطائرة بركابها بمن فيهم المدرب الخبير أضحت فى خطر، وهنا يفرض الكونجرس الوصاية على الرئيس، لكن إذا ما ضاق به ذرعًا ولم يعد يجدى معه وصاية ولا نصح ولا إرشاد فلا مناص من عزله.

ما يمتاز به الكونجرس عن الرئيس يتمثل فى مكانة الكونجرس فى عزل الرئيس، وعدم قدرة الأخير على حل الكونجرس.. ودون الدخول فى تفاصيل فنية دقيقة، يمكننا القول إنه وفقًا للدستور الأمريكى، فإن العزل يتم عبر غرفتيّ الكونجرس: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، تبدأ إجراءات العزل بأن يوجه مجلس النواب الاتهام إلى الرئيس، وإذا ما خلص إلى إدانته، نُقل الملف إلى مجلس الشيوخ، وفى تلك اللحظة وعند تلك النقطة يضحى الرئيس متهمًا رسميًّا، ويتولى مجلس الشيوخ محاكمته، وإذا ما خلص إلى إدانته بأغلبية الثلثين، فإن الرئيس يعتبر معزولًا بقوة القانون.

تتضاءل فرص ترامب فى تكملة مدته؛ بعدما فرضت الوصاية الكونجرسيّة نفسها عليه عندما أرغمته صاغرًا وعلى غير رغبة منه، بل على مضض، على التوقيع على القانون الذى وافق عليه الكونجرس بغرفتيه، ذلك القانون الذى يفرض عقوبات على روسيا، والذى توعده ترامب فى السابق، بل هدد بعدم التصديق عليه!

الاستشهاد الثانى للوصاية الكونجرسيّة على وجه صلف الترامبيّة المراهقة، عندما أراد ترامب أن يمحو ما قام به سلفه أوباما من تلبية لرغبة ملايين الأمريكيين؛ فكان الرد حاسمًا مؤلمًا، إذا أراد ترامب أن يلغى برنامج «أوباما كير»، فكان يجب أن يصوّت الكونجرس ضد إلغاء برنامج أوباما كير، الغريب فى الأمر أن هناك من الجمهوريين من وقف ضد هذا الإلغاء. أراد الافتئات على إرادة الشعب؛ فكان الرد مؤلمًا من الممثلين الحقيقيين والشرعيين للشعب الأمريكى.. تتجلى مزية أن يكون أعضاء المجلس التشريعى وبحق نوابا عن الشعب، يعيشون أمله، تواقيون لمُشرق غده، شاعرين بألمه، عالمين بمواطن توجعُّه؛ فالنيابة هى وكالة عن المنوب عنه لرعاية مصالحه والسهر على خدمته وبذل الجهد لرفاهيته وقضاء متطلباته وتلبية حوائجه.

مآلات المحاكمة أمام مجلس الشيوخ لا تخرج عن احتمالات ثلاثة: أولها النجاة من العزل، وهو ما سبقه إليه كل من جونسون عام 1868 والذى نجا من العزل بفارق صوت واحد!، وكلينتون عام 1999 الذى نجا هو الآخر بفارق 17 صوتًا من إجراءات العزل؛ وثانيها الاستقالة، وهو ما أقدم عليه سلفه نيكسون عام 1974 بأن بادر إلى الاستقالة حتى قبل التصويت فى مجلس النواب (المرحلة الأولى)، أما ثالث تلك الاحتمالات فقد يكون حكرًا على ترامب، ألا وهو العزل.

يمكننا القول أنّ من يَعبث يُخلع ومن يَحنث يُعزل، ومن لم يتعلم من أخطائه فلا يلومنّ إِلَّا نفسه. ومن يتخبَّط من خمر الغرور ويترنَّح من شراب الكِبر ويتأرجح من كأس الصبيانية؛ فلا بد من إفاقته، لأنه أصبح خطرًا على حياة الآخرين وبات قضًّا لمضاجعهم، وأضحى تهديدًا لأمنهم، لذلك كان التطبيق الأمين للدستور والقانون بالحفاظ على أرواح المجتمع وحمايتهم من المراهق النزق، بل حمايته هو من شرور نفسه وسوء فعله. لقد أعطى الكونجرس درسًا قاسيًا لترامب فى الاستدانة من دون حاجة، وفِى الاستعارة الجبريـَّة رغم طول ذات اليد، وهو ما يذكرنا بالسندوتشات التى تعدها الأمهات المصريات لأولادهن، ولا مناقشة فى حتمية تناولها!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل