المحتوى الرئيسى

لديليسبس لا لعبدالناصر | المصري اليوم

01/16 02:32

تمثال فرديناند ديليسبس مكانه، حيث كان قبل 1956، عند مدخل قناة السويس. وقبل أن أطرح وجهة نظرى حول هذا الموضوع، أريد استعادة مشهد مهم فى سردية العائلة الخديوية وعائلة ديليسبس، سجله بيير كرابيتيه فى كتابه «إسماعيل المُفْتَرَى عليه». دعا ماتيو ديليسبس (والد فرديناند) كبار العسكريين العثمانيين ووجوه المجتمع الأوروبى فى القاهرة للعشاء فى القنصلية الفرنسية. لفت الأنظار وجود ضابط عثمانى شاب مغمور برتبة المقدم وسط الجنرالات والقناصل والوجهاء. كان ذلك الشاب هو محمد على الذى أصبح فيما بعد، وبمساعدة فرنسا، سيد المشرق بلا منازع.

وبعد انتهاء الضيوف من العشاء همس أحد الخدم فى أذن ديليسبس الأب قائلا إن بعض الملاعق والشوك والسكاكين الذهبية اختفت. اتجهت الشكوك إلى الضابط الشاب الذى انتحى به ديليسبس جانبا ليقول له ما معناه «طلع اللى ف جيبك وبلاش فضايح». وفجأة عاد الخادم ذاته ليقول إنه تم العثور على القطع الذهبية وليست هناك سرقة ولا يحزنون. واعتذر ديليسبس للضابط، ونشأت بين الاثنين- بعد هذه المسرحية المشينة- علاقة عززت مكانة محمد على وسلالته، وجعلت لأسرة ديليسبس مكانة خاصة فى تاريخنا.

ورغم ما فى تاريخ فرديناند ديليسبس من أمور مخجلة (وأمور مشرفة مثل مكافحته للكوليرا فى مصر) فدوره كمؤسس لمشروع قناة السويس مهم فى تاريخنا الذى يتألف، من وجهة نظرى المتواضعة، وأنا مجرد صحفى لا هنا ولا هناك، من ثلاث مراحل: مرحلة البهار، التى انتهت بحركة الكشوف الجغرافية التى أخرجتنا من اللعبة لتبدأ سيطرة الأوروبيين على تجارة البهار وعلى الشرق. ومرحلة البن التى أنهتها أوروبا بمزارع البن فى جزر الأنتيل وغيرها. ثم مرحلة قناة السويس التى بدأها فرديناند ديليسبس. هذه هى التحولات المهمة التى لعب بها وعليها السياسيون والإداريون والعسكريون، من حتشبسوت إلى عبدالناصر، وغيرهما عبر العصور.

ومرحلة القناة ممتدة- إن شاء الله- للمستقبل، ما يعنى أن إنجاز ديليسبس باقٍ معنا. وهذا يذكرنى بتساؤل راودنى، وأنا أقف أمام تمثال القائد العام أوليفر كرومويل، على مدخل البرلمان البريطانى: هذا الرجل هدم الملكية ووقَّع على أمر شنق تشارلز الأول فى القرن السابع عشر. فكيف تحافظ المملكة على تمثاله أمام البرلمان؟ لأنه مؤسس الحكم البرلمانى. وفوق ذلك لأن الأمم تستوعب تاريخها وتتصالح معه.

طرْح حسام عيسى لمسألة تمثال ديليسبس طرح ماضوى. أما أسامة الغزالى حرب فيعالجها بمنطق التصالح مع الماضى، وبمنطق التفهم لدور فرنسا الجديد فى المنطقة. وهذه عقلية عملية راجحة ربما ورثها عن والده الذى أظن أنه كان مع والدى فى عنبر واحد فى مزرعة طرة، عندما حبسهما ناصر كإخوانيين سابقين، كما حبس أصدقائى اليساريين، مثل عبدالرحمن الأبنودى وسيد حجاب. لم أقابل الدكتور أسامة فى حياتى إلا مرتين أو ثلاثا. لكن ما سمعته من أبى عن أبيه هو مفتاحى لفهم ما أجد فى كتاباته ومبادراته من منطق عقلانى وعملى.

وبهذا المنطق ذاته، أقول إن مكان تمثال ناصر هو فى ميدان التحرير، حيث ينتصب اليوم علم الجمهورية. لا يخلى العلم مكانه إلا لمؤسس النظام الجمهورى وبطل معركة التمصير التى بدأها ابن طولون فى القرن التاسع الميلادى، ووضعها الظاهر بيبرس فى القرن الثالث عشر على الطريق، والتى صعد بها ناصر، فى القرن العشرين، من الهوة التى أسقطها فيها بونابرت إلى علو الاستقلال.

أتوقع أن يشهد المستقبل المنظور بلوغ مرحلة التمصير نهايتها التاريخية، بترتيبات إقليمية جديدة تشمل مصر وشريكاتها الخليجيات وقوى إقليمية أخرى، ضمن شرق أوسط جديد. لا أظن ذلك سيحدث قبل أن تنتهى المدة الرئاسية الثانية للرئيس عبدالفتاح السيسى، ودخولنا مرحلة ما بعد الناصرية، التى هى ما بعد التمصير وما بعد الإسلام السياسى.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل