المحتوى الرئيسى

أرض التراب والنار«1».. ٣٠٠ ساعة فى جنوب السودان

01/09 22:15

مع أولى خطواتى على سلم الطائرة، التى حطت فى مطار «جوبا» الدولى، أيقنت أننا لا نعرف أى شىء عن دولة جنوب السودان، سوى اسمها فقط، بالإضافة إلى معلومة أنها تلك البلاد التى انفصلت عن السودان، وأصبحت دولة مستقلة منذ ٢٠١١.

كنت أتخيل أن الرحلة، التى أقدمت عليها فى الذكرى الرابعة لنشوب الحرب الأهلية، التى بدأت فى ديسمبر ٢٠١٣، لن تمتد سوى يومين أو ٣ فقط، ثم سأتمكن من رصد كل شىء هنا، إلا أن المشهد منذ البداية جعلنى أغير رأيى تماما، بعد أن وجدت نفسى فى أرض غزيرة الخيرات، تتنوع فيها العادات والتقاليد بشكل مدهش، لتستمر رحلتى إلى «بلد الخير» ـــــ الذى يتوارى خلف الحروب التى دمرتهاـــــ نحو ١٢ يومًا.

وخلال تلك الرحلة تجولت فى العاصمة جوبا، وذهبت إلى ولاية بور، التى أبادتها الحرب، ورصدت ملامح هذه الصراعات ونتائجها على الأرض، والتقيت سياسيين ومسئولين، وتحدثت مع مواطنين، لأنقل صورة كاملة عن هذا البلد المجهول لنا كمصريين، رغم اشتراكنا سويا فى شريان جامع واحد، هو نهر النيل، الذى يربط بلدينا.

فى الحلقة الأولى من الرحلة نستعرض معا ملامح هذه البلاد، وتركيبتها العرقية والسكانية، وأوضاعها الأمنية والسياسية، بالإضافة إلى طبيعة التواجد المصرى فيها، والانطباعات التى تتكون لدى من يزور عاصمة البلاد للمرة الأولى.

كيف قضت الحرب الأهلية على كل شىء؟

العربية لا تزال لغة الحكومة.. صراعات القبائل تتحكم.. واستيراد كل شىء عدا الماء والنفط

لم يكن هناك تصور محدد فى رأسى عن هذا البلد، الذى يقع فى نحو ٧٠٠ ألف كيلو متر مربع، ويعادل ٢٨٪ من مساحة السودان قبل الانفصال، فيما يمتد حدوده، التى يصل طولها إلى نحو ٢٠٠٠ كيلومتر تقريبا، مع ٥ دول هى إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو وإفريقيا الوسطى.

ورغم صعوبة التصوير فى الشوارع، حاولت أن أتوغل داخل المجتمع فى جنوب السودان، وأن أتعرف على عالم القبائل، وعاداتها المختلفة فى الزواج والطلاق، وأوضاع السيدات هناك، التى وجدتها- على عكس ما كنت أعتقد- تتبوأ مناصب سياسية مهمة، وتحقق نجاحًا متميزًا فى شتى المجالات، حتى إنها حملت السلاح لتحارب إلى جوار الرجال.

فى جنوب السودان، تشكل المراعى نحو ٤٠٪ من المساحة الإجمالية، أما الأراضى الزراعية فتشكل ٣٠٪ من الدولة، التى تكثر فيها المجموعات القبلية، بلغاتها الكثيرة، فى سمة تتميز بها عن دولة السودان فى الشمال.

ويعد «جون قرنق» هو مؤسس «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، وأول رئيس لحزبها السياسى، الذى تأسس فى البلاد، عام ١٩٨٣، كجناح سياسى لـ«جيش التحرير الشعبى السودانى»، وتكللت جهوده بعد عقدين تقريبا بالانفصال عن الدولة الأم فى الشمال، أما عن السياسة العامة، فينص دستور البلاد على أن السلطة التنفيذية يرأسها رئيس الدولة ورئيس الحكومة.

اللغة الرسمية للبلاد هى الإنجليزية، فهى لغة التعليم والحكومة و«البيزنس»، وتعد لغة رسمية فى جنوب السودان منذ سنة ١٩٢٨، واعترف بها كلغة أساسية فى أواخر الثمانينيات، لكن التعامل أمام الجهات الحكومية يتم باللغة العربية، بالإضافة إلى أن المجموعات القبلية تنطق بمئات اللهجات، وعشرات اللغات المحلية، فيما يتعدد القانون بتعدد العادات والتقاليد المختلفة، ويختلف باختلاف القبائل والثقافات.

أما عن المعتقدات، فسكان جنوب السودان يعتنقون فى الغالب عدة معتقدات محلية، أو يدينون بالمسيحية.

وتتسم الدولة بتعدد المجموعات العرقية، وتعتبر قبيلة «الدنكا» هى أكبر جماعة عرقية فى البلاد، وتمثل نسبة من السكان تتراوح بين ٤٠٪ و٥٠٪ من الشعب، تليها جماعة «النوير»، ولكل قبيلة فى دولة الجنوب عاداتها المحلية الخاصة، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وطقوس ومراسم الزواج والطلاق. المطاعم الشعبية منتشرة فى الشوارع، لكنها تفتح أبوابها حتى الساعة الخامسة والنصف تقريبا من مساء كل يوم، ثم تغلق طيلة الليل، أما المحلات التجارية فأعدادها قليلة، والأسواق لا يتجاوز عدد روادها بضع العشرات، نظرا لعدم وجود بنية تحتية قوية فى معظم المناطق.

الطرق فى البلاد محدودة، ووسيلة المواصلات الرئيسية فى الجنوب تتمثل فى الدراجات البخارية، التى تتواجد بأعداد كبيرة فى الشوارع، وتتمركز أمام المصالح الحكومية والفنادق، وهى وسيلة مواصلات لذوى الدخول البسيطة، نظرا لعدم وجود مواصلات عامة.

وتملك البلاد كنزا كبيرا من الثروات الطبيعية، فأرض الجنوب مليئة بالخيرات، وعلى رأسها الذهب والنفط ومشتقاته، كما تنتج أرضها المزروعة القطن والسمسم والفول السودانى والصمغ العربى والسكر، فيما تعد الثروة الحيوانية أهم كنوز جنوب السودان ومصدر ثروتها بعد البترول.

سوق الاستثمار تستحوذ عليها دول قليلة، على رأسها الصين، ثم أوغندا وكينيا وإثيوبيا المجاورة، التى تعتمد عليها جوبا فى استيراد احتياجاتها، وهى كل شىء تقريبا باستثناء البترول، والمياه العذبة والهواء النقى.

ويمكن وصف البلاد بأنها «أرض النار»، بعد أن حصدت الحروب الأهلية فى جنوب السودان ما يزيد على مليونى قتيل، فى الصراعات التى استمرت عدة أعوام، مثل حرب (١٩٥٥-١٩٧٢)، وحرب (١٩٨٣-٢٠٠٣).

وبالإضافة إلى القتلى، خلفت الحروب وراءها أعدادا أخرى لا تحصى من الجرحى والمعوقين، فيما كان نصيب المشردين، نتيجة الهجرات الداخلية الناجمة عن الحروب ضعف عدد القتلى، فقد تشرد ٤ ملايين مواطن جنوبى، وأصبحوا لاجئين داخل وطنهم.

هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى والمهجرين خلق عداوات كثيرة بين أبناء القبائل، وتسبب فى مشكلات اقتصادية واجتماعية سلبية، لم يعهدها المجتمع بهذا الشكل من قبل، مع تزايد الأنشطة الخارجة عن القانون، مثل اختطاف الماشية، وتهريب العاج والذهب والأحجار شبه الكريمة، واختزان السلع للتربح منها بشكل غير مشروع، مع انتشار تجارة الأسلحة بين الميليشيات القبلية.

«العيادة المصرية» فى جوبا: الخدمة ممتازة.. الكشف بـ5 جنيهات.. والدواء مجانًا لغير القادرين

بناء على طلب مرافقى الجنوبى، قررت أن أذهب إلى السفارة المصرية فى جوبا، لتسجيل بياناتى لديهم، وفور وصولى توجهت إلى طريق السفارة، ولفت نظرى وجود لافتة مكتوب عليها «العيادة المصرية»، وأخبرنى مرافقى بأن العيادة هنا معروفة بالسمعة الطبية الجيدة، لكونها تساعد الجميع من كل الطبقات.

طلبت من السائق التوقف بجوار «العيادة المصرية»، وانتابنى إحساس بالأمان نتيجة وجود مصريين فى المكان، ودخلت المكان وسط ترحيب رجل الأمن المصرى، الذى اصطحبنى إلى غرفة المدير المسئول.

طلبت من المدير أن يحكى لى عن تفاصيل العمل هنا، وعلاقته بالسكان، وأنشطة المكان، لكنه رفض الحديث إلىّ، وطلب منى الاستئذان أولا من مسئولى السفارة، وأرسل معى سائق العيادة ليدلنى على المكان.

حين وصلت السفارة، كانت الروح المصرية تغمر المكان، جلست بضع دقائق فى انتظار لقاء القنصل المصرى، الذى سأل عن أسباب وجودى المفاجئ، وطبيعة رحلتى، فى حديث لم تزد مدته على عدة دقائق.

بعد اللقاء، طلبت مقابلة السفير الدكتور أحمد بهاء الدين، سفير مصر فى جنوب السودان، لكنه اعتذر نتيجة ارتباطه بموعد آخر، خارج مبنى السفارة، طالبا تحديد موعد جديد للقاء، مع إرسال رسالة شخصية عن طريق أحد أعضاء البعثة الدبلوماسية، مفادها أنه لا ينوى تقديم أى مساعدات خاصة لى كصحفية، ولا إجراء أى حوارات إعلامية تتحدث عن طبيعة التواجد المصرى فى جنوب السودان، لأنى لم أنسق الرحلة وطبيعة الحوار مع مسئولى وزارة الخارجية، قبل السفر من مصر.

فى المقابل، عرض السفير تقديم كل الدعم لى كمواطنة مصرية فقط، مرحبا بوجودى، وعارضا دعوتى إلى العشاء معه، ومع بعض أعضاء البعثة الدبلوماسية، رافضا بإصرار الإدلاء بأى تصريحات إعلامية تخص التواجد المصرى فى جوبا، رغم إلحاحى على أهمية ذلك إعلاميا.

ما يستحق الذكر، هو حصولى على الدعم والمساندة الشخصية، من المستشار محمد الأمير، الوزير المفوض بالسفارة، الذى تعامل معى باعتبارى «بنت من بلده»، وتجلت أولى مساعداته فى حديثه إلى مسئولى «العيادة المصرية» للتعاون معى، مع توصية خاصة من المصريين العاملين بالسفارة بمساعدتى وتذليل مهمتى.

فى «العيادة المصرية»، وأثناء لقاءاتى ببعض المواطنين من أهالى البلاد، كانت فى انتظارى مفاجأة، فأهالى هذا البلد يعرفون مصر جيدا، ويدركون ملامح التاريخ المشترك بيننا، ويتابعون أخبارنا بشكل جيد، بل يعرفون كثيرا من عاداتنا وتقاليدنا.

بالنسبة لكثيرين منهم، فإن مصر هى الحضارة والانفتاح، بل يرى بعض المسئولين هناك أن مصر هى بمثابة «طوق النجاة» لجنوب السودان، وتستطيع بخبراتها أن تنقذهم من الأمراض، التى تنتشر بينهم، وتملك سبلا متعددة لتعليمهم وتثقيفهم، وتأهيلهم فى كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والزراعية والصحية والتعليمية، وغيرها. من المواطنين علمت أن دولة جنوب السودان تشهد تواجدا مصريا كبيرا، فى شتى المجالات، يتمثل أبرزها فى العيادات المصرية، ومشروعات الرى والزراعة والصناعة وغيرها، كما تقدم القاهرة إلى مواطنى الجنوب عددا من المشرعات الصحية، وتبذل وزارة الصحة، بالتعاون مع وزاره الخارجية، جهودًا طبية مكثفة فى العاصمة جوبا، وباقى ولايات الجنوب.

ولأن الخدمات الصحية على رأس أولويات الاحتياجات الجنوبية بعد الانفصال، دعمت مصر جنوب السودان من خلال إنشاء هذه العيادة، وتم نقل المعدات الطبية والأدوية إليها، مع وضع خطة لتطوير المبنى، وتوسيعه وإضافة خدمات أخرى، قبل أن يتوقف كل ذلك عقب تجدد الصراعات فى ٢٠١٣.

بمجرد دخولك إلى العيادة، تلمس التواجد المصرى والابتسامة الحانية، وبمجرد النظر إلى الساحة الواسعة الواقعة فى منتصف المبنى الموجود بشارع المطار فى العاصمة، تجد مواطنى الجنوب يملأون المكان، فى انتظار توقيع الكشف الطبى عليهم أو على ذويهم، ما شجعنى على الاقتراب منهم، والحديث معهم.

قال أحدهم: «جئت إلى العيادة للكشف، نظرا لسمعتها الطيبة، فهنا يساعدون الجميع، والكشف رخيص لا يزيد على ٥ جنيهات، ولم يتغير منذ افتتاحها قبل نحو ١٠ أعوام، وتحديدا عام ٢٠٠٨، كما أن الخدمة مميزة».

وقالت سيدة أخرى: «جئت إلى الكشف ولا يوجد معى أى نقود، ودخلت إلى الدكتور المسئول ووقع على الروشتة لصرف العلاج دون أى نقود، وهذا طبيعى هنا، فكثير من المرضى يأتون لصرف الأدوية دون دفع أى شىء».

فى جوبا، دشنت العيادة عام ٢٠٠٨، وبدأ تأهيلها للعمل فى العام التالى، واستكملت قبل انفصال الجنوب، وكان الغرض الأساسى منها تأسيس عمل مشرف يليق باسم مصر، لتقديم الخدمات لشعب الجنوب، الذى كان يفتقر إلى كثير من الخدمات فى ذلك الوقت.

وتعد «العيادة المصرية» أولى المنشآت الطبية الحقيقية التى أقيمت فى جوبا لتقديم الخدمات الصحية، رغم سبق وجود مستشفى يطلق عليه اسم «مستشفى جوبا التعليمى».

طبيب: لا يمكننا إجراء العمليات بسبب الإمكانيات.. والاكتئاب يعصف بسيدات البلد

تجولت قليلا فى الخارج، ثم قررت الدخول إلى العيادة للقاء المسئولين عنها، والتقيت الدكتور حسن صدقى، الذى شرح لى دور «العيادة المصرية»، وطبيعة تواجدها فى جنوب السودان، بالإضافة إلى التخصصات التى تغطيها.

وقال الطبيب المسئول: «العيادة لم تهدف قط إلى الربح، فالكشف هنا رمزى مقارنة بالمستشفيات الأخرى، ورغم تراجع قيمة العملة الجنوبية فى السنوات الماضية، إلا أن قيمة الكشف لم تتغير، وتتمثل فى ٥ جنيهات فقط، وهدفنا تقديم الخدمات الصحية اللازمة لجميع فئات الشعب فى جنوب السودان، دون تفرقة».

وأضاف: «الاعتبارات الإنسانية هى شعار العيادة، فنحن لا ننظر إلى تحقيق الربح، حتى إننا نقدم خدمات طبية مجانًا لبعض الحالات، كما أن العيادة للكشف فقط، ولا تتعامل مع حالات الطوارئ، أو تُجرى العمليات الجراحية، نظرًا لعدم وجود غرفة عمليات».

وتابع: «تفتقر جنوب السودان إلى أجهزة الرنين المغناطيسى، التى يحتاجها الأطباء فى بعض حالات الطوارئ، مثل المرضى الذين يعانون من جلطات الدم، وفى حال احتياج أحد المرضى إجراء هذه الفحوصات، يتم اتخاذ إجراءات نقله إلى الخرطوم، أو إلى القاهرة».

أما عن أصعب الحالات المرضية التى تواجه أطباء العيادة، فقال: «أصعب الحالات المرضية التى تواجه الأطباء هنا هو أن يعانى شخص ما من مرض الملاريا، نظرًا لعدم توافر إمكانيات الرعاية به، لذا نوجهه مباشرة إلى مستشفى جوبا، فى أسرع وقت».

وحسب الدكتور حسن، فإن العيادة تنقسم إلى ٣ غرف للكشف، فى ٣ تخصصات فقط، هى طب الأطفال، والنساء، دون التوليد، وأمراض الباطنة، بالإضافة إلى توافر معمل لإجراء التحاليل اللازمة، والصيدلية المرفقة.

ويعمل فى العيادة ٥ أطباء فقط، يشرفون على أقسامها المختلفة، من بينهم طبيب إدارى، وآخر صيدلى، ويتم اختيارهم بناء على الانتظام فى العمل، وعدم وجود أى مشكلات مهنية سابقة لهم.

أما عن العاملين بالمكان، فالطاقم يتكون من ٧ أفراد تخصص تمريض، و٢ مساعدين لهم، وفنى معمل، ويضم فريق التمريض فتيات محليات من جنوب السودان، يتم اختيارهن بعد الحصول على شهادة خاصة فى التمريض.

وبسؤاله عن مصدر الأدوية التى تصرف مجانًا فى بعض الأحيان، قال الدكتور حسن: «هناك العديد من الشركات الطبية العاملة فى جوبا، التى تمنحنا الأدوية، منها بعض الشركات الصينية، وأحيانًا نأتى نحن بالأدوية من مصر».

وأشار مسئول العيادة المصرية إلى أن أحد الأطباء المصريين العاملين بالمكان هو نائب متخصص فى الطب النفسى، رغم عدم وجود هذا القسم ضمن تخصصات العيادة، إلا أنه يؤدى أحيانًا دوره، كطبيب نفسى، إن وجدت حالة تستدعى ذلك.

أصابنى الفضول للقاء الطبيب النفسى المصرى المقيم فى جوبا، وسؤاله عن طبيعة الأوضاع النفسية لسكان جنوب السودان، فى ظل حالة الحرب المستمرة منذ سنوات، فتوجهت للقائه وطرحت عليه أسئلتى.

فى البداية، أصر الدكتور ثروت محمد، الطبيب النفسى بـ«العيادة المصرية» على القول: «أحب أن أوضح أنه لا يوجد قسم خاص للطب النفسى، نظرًا لأنه يحتاج إلى مستلزمات طبية كثيرة، منها أجهزة رسم المخ وغيرها، بالإضافة إلى وجود صعوبات كبيرة فى توفير الأدوية الخاصة بالعلاج النفسى، ما يعنى أنه سيكون على المريض أن يستورد بنفسه الأدوية المطلوبة لعلاجه من الخارج».

وعن طبيعة الأمراض النفسية الشائعة، قال: «الحالات الأكثر شيوعًا هم من يعانون من مرض الاكتئاب، وغالبًا يتم التشخيص عن طريق فحوصات أخرى غير نفسية، يمكن أن يلاحظها طبيب الفحص، كما أن أغلب المصابين بالاكتئاب من النساء، بسبب غلاء المعيشة، وهجرة الأزواج، وغيرهما من الأسباب».

تركت الأطباء وتوجهت إلى إحدى غرف الكشف بالعيادة، التى تتخصص فى أمراض النساء، والتقيت الطبيب الشاب أحمد جمال، المتخصص فى أمراض النساء، الذى كشف لى عن أنه يعمل فى جوبا منذ عام تقريبًا، وينوى البقاء هنا لفترة جديدة بناء على رغبته.

وعن أعداد المرضى المترددين على العيادة، قال لى: «المفروض إن عيادة النساء تستقبل أكثر من ٥٠ حالة يوميًا، كما أنها ترعى المرأة الحامل منذ بداية حملها، وتعمل على توفير الأدوية المطلوبة لها».

وأضاف: «نساعد جميع المرضى، حتى لو كانت إمكانياتهم المادية ضعيفة، ونوفر الكشف والعلاج لهم مجانًا، ويبدأ عملنا بالعيادة من الساعة ٩ صباحًا، حتى ٤ عصرًا».

وفى نهاية زيارتى العيادة، قررت الحديث مع «لوسى»، إحدى الممرضات العاملات فى المكان من أهل البلد، حيث قالت لى: «أعمل هنا منذ ٩ أشهر، وسعيدة بالعمل مع الفريق المصرى، فقد تعلمت منهم الكثير وهم يعاملوننى معاملة طيبة، بل يعاملون كل من يأتى هنا بمنتهى الود والاحترام، ويصل الأمر إلى مساعدة الفقراء، الذين لا يدفعون أى مبالغ مالية مقابل الأدوية والكشف».

رئيس بعثة الرى المصرى: أنهينا 6 محطات لمياه الشرب.. ونعمل فى 30 محطة أخرى

بعد زيارتى العيادة، اتخذت طريقى إلى مقر بعثة الرى المصرية فى جوبا، وكان فى استقبالى «سعدية»، السيدة الجنوبية البشوشة، التى تعمل فى مقر البعثة، وفرحت كثيرًا عند لقائى كونى مصرية، حتى إنها قررت أن تقدم لى واجب الضيافة «مشروبين»، بارد وساخن، فى وقت واحد.

بعدما تركت «سعدية» وواجب ضيافتها المضاعف، توجهت للقاء الدكتور أحمد صالح، رئيس بعثة الرى، الذى قال لى: «يبلغ عدد أعضاء البعثة ٥ أعضاء فقط، ٣ من وزارة الرى، وعضوان من المالية».

أما عن أنشطة البعثة فى جوبا، فأشار الدكتور صالح إلى الخريطة وقال: «بدأت العلاقة بين البلدين فى إطار توقيع مذكرة تفاهم بين وزارتى الموارد المائية والرى بمصر، والجنوب فى أغسطس عام ٢٠٠٦، بمنحة مصرية قدرها ٢٦٫٦ مليون دولار، ثم تم رفع مستوى التعاون بين الدولتين فى مجال الموارد المائية عند توقيع اتفاقية التعاون الفنى والتنموى، خلال زيارة الرئيس سلفا كير إلى مصر، ولقائه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى نوفمبر ٢٠١٤».

أما عن أهم المشروعات، فأوضح رئيس البعثة أن الإدارة العامة للتعاون الفنى تنفذ العديد من المشروعات، منها أعمال تجهيز ٣٠ محطة مياه شرب جوفية، فى عدة ولايات بالجنوب، من خلال حفر آبار جوفية، يتراوح عمقها ما بين ١٠٠و١٥٠ مترًا، مع تزويدها بطلمبات غاطسة، ومولدات كهربائية، وخزانات علوية لتوفير مياه الشرب النقية، وتخدم المحطة الواحدة حوالى ١٠ آلاف نسمة.

وأضاف: «تم الانتهاء من ٦ محطات مياه شرب جوفية، منها ٤ فى أحياء جوبا، وجارٍ استكمال الأعمال فى ١١ موقعًا، فى ولايات جونجلى وأعالى النيل، وتحديد أماكن ١٣ محطة مياه شرب أخرى مع الجانب الجنوبى، للبدء فى تنفيذها العام المقبل، حسب توجيهات وزير الموارد المائية والرى الدكتور محمد عبدالعاطى».

وتابع: «تم إنشاء محطة رفع فى منطقة البر الشرقى بمدينة واو، وتخدم حوالى ١٠ آلاف نسمة فى المرحلة الأولى، مزودة بخط مياه ومساقٍ للثروة الحيوانية، وخط لتوفير المياه اللازمة لزراعة حوالى ١٠ أفدنة بالخضروات، لخدمة أهالى المدينة».

واستكمل: «ننشئ حاليًا معملًا مركزيًا لتحليل نوعية المياه بجوبا، بتكلفة تبلغ ٣٠٠ ألف دولار، كما تم تأهيل وتطوير ٤ محطات فى ملكال، وميلوت على النيل الأبيض، ومحطتى جوبا ومنجلا على بحر الجبل، وجارٍ استكمال العمل بمحطة نيمولى، التى تقع على أحد روافد النيل الأبيض بالقرب من الحدود مع أوغندا، وانتهينا تقريبًا من ٥٠ ٪ من أعمال المشروع». وأشار إلى أن أهم المشروعات التى تجرى بين مصر وجنوب السودان تتمثل فى مشاريع تطهير المجارى المائية لحوض بحر الغزال وبحر الجبل، مع إنشاء بعض الأرصفة النهرية لمكافحة الفيضان، والحد من غرق القرى الواقعة على ضفتى النهر، وربط المدن والقرى الرئيسية، وربط بحر الغزال بالنيل الأبيض، بالإضافة إلى الانتهاء من إنشاء المرسى النهرى بمدينة واو.

وعن احتمالات التعاون فى مجال السدود لزيادة الحصيلة المائية لدول حوض النيل، بعد الظروف التى طرحت نفسها حاليًا على الساحة، قال الدكتور صالح: «مشروعات سدود الكهرباء وحصاد المياه تم الانتهاء من جميع الدراسات الفنية والحقلية والاقتصادية والبيئية لها منذ ٢٠١٥، ويجرى حاليًا إجراء تعديلات نهائية على الدراسات، تمهيدًا للتنسيق بين الجانبين، وبحث وسائل تمويل إنشاء سد مع المنظمات الدولية».

وأضاف: «تم توقيع مذكرة تفاهم لإنشاء سدود حصاد مياه الأمطار، وقعها وزيرا الموارد المائية والرى فى الدولتين، وإعداد دراسة جدوى لإنشاء مشروع سد صغير فى ولاية غرب بحر الغزال، أطلق عليه اسم سد سيوى، لتوفير المياه، وتقدر تكلفة إنشائه بنحو مليون دولار».

وفى ختام حديثه لى قال: «التعاون بين البلدين كبير، وننظم ما يقرب من ١٥ دورة تدريبية لتأهيل الكوادر الفنية فى مجال إدارة الموارد المائية، ونوعية المياه للحد من التلوث، وتم تدريب ما يزيد على ٢٢٩ جنوبيًا، فى المراكز البحثية المصرية لرفع قدرات الكوادر».

وفى نهاية اللقاء، أصر رئيس بعثة الرى المصرية بجنوب السودان على اصطحابى بجولة خاصة فى عربته، تجولنا فيها فى شوارع العاصمة، وشاهدنا محطة مياه الشرب الجوفية، التى دشنتها مصر بجامعة جوبا، وتم افتتاحها نهاية ٢٠١٦، وأطلق عليها اسم «محطة قناة السويس».

وجود القاهرة لم يتوقف رغم الحرب.. ومساعدات تنموية وخدمية فى مختلف المجالات

رغم انسحاب كثير من الدول من الجنوب خلال فترة الحرب وما بعدها، إلا أن مصر استمرت فى أعمالها بدولة الجنوب رغم الظروف الصعبة، التى حالت دون استكمال عدد من المشروعات، كما استمرت المساعدات المصرية لجوبا فى مجالات مختلفة.

وأثناء الحرب، استنسخت وزارة الصحة المصرية مشروع «العيادة المصرية»، عبر إنشاء عيادتين جديدتين، واحدة فى جوجريال، ويعمل بها أطباء مصريون، وأخرى فى بور، التابعة لولاية جونجلى، إلا أن العمل بهما لم يستكمل بسبب الحرب. وبعيدًا عن الصحة ومجالات الرى، علمت فى جوبا أن مصر تلعب دورًا كبيرًا وبناء فى عدد من القطاعات الأخرى فى جنوب السودان، منها إقامة برامج تدريبية لإعلاميى الجنوب فى مصر، وتدريب بعض العاملين على إدارات البنوك، من بينهم أعضاء فى البنك المركزى بجوبا، بالإضافة إلى عدد من المنح الدراسية المجانية الأخرى.

ولمصر دور رائد فى مجال التعليم بجنوب السودان، إذ أنشأت ٣ مدارس للتعليم الفنى، من أجل تخريج دفعات جديدة على وعى بالمجالات والاحتياجات المهنية، وتوزعت المدارس على ٣ مدن، منها مدينة واو، التى أسست مدرستها عام ٢٠٠٩ ومازالت تعمل حتى الآن.

كما أسست مصر مدرستين فنيتين إحداهما فى جوبا والأخرى فى جونجلى، لكنهما توقفتا عن العمل بعد تجدد الصراعات والحروب الأهلية فى السنوات الأخيرة.

وعملت مصر على إعادة ترميم مبنى تعليمى فى ولاية واراب، ليتم تخصيصه لإنشاء فرع جديد لجامعة الإسكندرية، ومن المقرر أن تتم الاستعانة فيه بأساتذة من الجامعات المصرية، للتدريس فى الجامعة الجديدة.

وفى مجال الكهرباء، أنشأت مصر ٤ محطات كهرباء فى الجنوب، فى مدينة واو، عاصمة ولاية غرب بحر الغزال، ومدينة بور، عاصمة ولاية جونجلى، لكن الأعمال فيهما توقفت بسبب الحرب عام ٢٠١٣، كما حالت الظروف الاقتصادية دون استكمال شبكة الكهرباء والاستفادة من المحطتين المصريتين الأخريين فى يامبيو، عاصمة ولاية غرب الاستوائية، وفى رمبيك، عاصمة ولاية البحيرات.

وفى السنوات الأخيرة ازداد الوجود المصرى فى الجنوب عبر المساعدات والمعونات المصرية لإقامة المشروعات التنموية المتوقفة فى جنوب السودان، كما حصلت جوبا على معونات خاصة من القوات المسلحة المصرية.

«المقاولون العرب»: ننافس الشركات الصينية فى السوق

أثناء الرحلة، لمست وجودًا كبيرًا لشركة «المقاولون العرب»، التى تعد بحق الذراع اليمنى لمصر فى جنوب السودان، ويعهد إليها بتنفيذ عدد من الأعمال والمشروعات الضخمة لتحقيق التنمية.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل