أحمد رمزي يكتب: كيف واجه وحيد حامد الإرهاب بالحضن؟ | ولاد البلد
الرئيسيه » رأي » أحمد رمزي يكتب: كيف واجه وحيد حامد الإرهاب بالحضن؟
في رائعته “الإرهابي” قدم السيناريست الأبرز في تاريخ السينما المصرية وحيد حامد، روشتة حقيقية لكيفية مواجهة فكر التطرف والإرهاب، حيث عالج المفكر الكبير إشكالية الإرهاب والتطرف الديني برؤية فلسفية عميقة جدا، دون حاجة مطلقا للحل الأمني، بداية من التركيز على أسباب وجذور الإرهاب ثم طرق علاجه وكيفية التصدي له وأخيرا إزالة آثاره من عقول الإرهابيين، في 6 مشاهد سردها “حامد” في فيلمه الذي تم إنتاجه في حقبة التسعينيات، وهو الأمر الذي يجب أن يحظى بمكان وسط الموجة الجديدة من الإرهاب، التي ربما هي الأعنف في تاريخ الدولة المصرية.
في منطقة عشوائية في أحد أحياء القاهرة، يبدأ السيناريو في طرح أولى رسائله، وهي أسباب الإرهاب، فوسط الفقر المدقع والجهل وغياب العلم، تكونت البيئة الخصبة لاحتضان الإرهابي “علي” أو “عادل إمام” فهو شاب فقير لا حظ له من التعليم، إلا ما لقنه إياه أعضاء الجماعة، بينما كان عقله كالصفحة البيضاء تنتظر من يخط فيها أول قلم، وفي غياب دور الدولة، كان الإرهابي ضحية الجماعة الإسلامية، التي تسلمته كطفل صغير، على استعداد لقبول أي شيء يملى عليه، فصارت تعاليم الجماعة وحلالها وحرامها هي من صاغت عقله البرئ، ودفعت به على طريق العنف والإرهاب، ليخرب ويقتل ويعبث بهدوء واستقرار المجتمع كما لو كان تحول إلى حيوان مفترس لا يشبعه شيء إلا الدماء، منقلبا على المجتمع كله، الذي حرمه الغذاء والسكن والتعليم وكل شيء، وحين وقع فريسة سهلة في يد الجماعة، الممولة من الخارج لزعزعة الاستقرار في مصر، كافئه المجتمع بنبذه وإطلاق لفظ الإرهابي عليه ولاحقه أمنيا، دون نظر إلى أنه كان ضحية في البداية وليس جانيا، لينقلب هو بدوره على المجتمع ويرد إليه الصاع صاعين بأن حرمه من استقراره وأمنه!
بعد أن نفذ الإرهابي أحد عملياته التي قتل خلالها ضابط شرطة، تصدمه فتاة “سوسن” أو الفنانة “شرين” بسيارتها أمام منزلها، فيصاب بكسر في القدم ويسقط مغشيا عليه، ليتم نقله بواسطة جارهم المسيحي لمنزل الفتاة، التي تصادف أن والدها طبيب، لتلعب الصدفة دورا جيدا، سواء للفتاة أو للإرهابي، فمن ناحية سيوفر علاج المصاب “الغريب” داخل المنزل إجراءات تحرير محضر ضد الفتاة و من ثم مقاضاتها، ومن ناحية أخرى كانت فرصة أكثر من رائعة للإرهابي ليتخفى عن الأنظار في مكان لا يمكن لأحد أن يتوقع أنه يقيم به، وهكذا تلعب الصدفة دورا هاما في “اندماج” الإرهابي داخل المجتمع الذي كرهه وانقلب عليه، ليعرف الإرهابي لأول مرة في حياته معنى كلمة الأسرة، بعد أن احتضنته لعدة أسابيع، حيث وجد حنان الأم وعضد الأخ ومشاعر الأخت، وهي أول مراحل علاج الفكر الإرهابي، وبالطبع لم يكن الأمر سهلا على الإرهابي، الذي تم غسيل مخه بواسطة أسرته أو جماعته السابقة، وسط التطرف والإرهاب، فحين يزوره أمير الجماعة متنكرا في شخص أحد أقاربه، يطلب منه اغتصاب ابنة الطبيب، والاستيلاء على ماله، لأنهم كفار وأموالهم ونسائهم غنيمة للمجاهدين، وبالفعل يسرق الإرهابي أموال الطبيب في الخفاء، وليس هذا فحسب بل يسعى لاغتصاب الفتاة “حنان شوقي” في غياب أهلها، قبل أن يفاجأ برد فعلها غير المتوقع، بالنسبة له، حيث كان يظنها رخيصة، نظرا لارتدائها ملابس قصيرة، ليعتذر لها، ويبدأ لأول مرة في الشعور بالذنب، مؤكدا لها أن سيرحل في الغد ولن تراه ثانيا؟
مرة أخرى تلعب الصدفة دورها مع الإرهابي، فحين يهم بالرحيل، تداهمه آلام المرارة فيسقط صارخا من شدة الألم، لتنقله الأسرة للمستشفى وتقرر عدم السماح له بالذهاب إلا بعد أن يتم علاجه على أكمل وجه، فيجد الإرهابي نفسه أمام حضن حقيقي من جميع أفراد الأسرة، بدءا من الطبيب، الذي عالجه في المرتين، حتى في المرة الثانية التي لم تكن الأسرة مسؤولة عن مرضه فيها، والأم التي تدعو له بحنان، وابنتها التي صدمته، التي بدأت في حبه، بعد أن ظنت أنه أستاذ فلسفة في جامعة القاهرة، وتأثرت بقراءة مذكراته وأشعاره، التي كانت في الشنطة المسروقة معه، ليشعر لأول مرة بمعنى كلمة الحب، وحتى شقيقتها التي حاول اغتصابها، تخفي أمره عن الجميع، في نبل منها لم يتوقعه، ليشعر بالفعل بمعنى الحضن الأسري الذي حرم منه، فيبدأ في رد المال الذي سرقه دون أن يشعر به أحد في وازع من ضميره الإنساني.
وفي مشهد ولا أروع، تأتي لحظة مشاركة المجتمع الإرهابي في قضيه وطنية، حيث تلتف الأسرة كلها، ومعها جارهم المسيحي، الذي يكرهه الإرهابي لأنه مسيحي، بحسب تعاليمه القديمة، أمام جهاز التلفزيون، لمشاهدة مباراة هامة لمصر، ليظل الإرهابي طوال 90 دقيقة، مضطرا لمشاركة الأسرة مشاهدة المباراة، وفي آخر دقائق المباراة، كان المنتخب المصري بحاجة إلى إحراز هدف للفوز، فتحدث هنا المفاجأة، حيث يبدأ الإرهابي في انتظار هدف الفوز، حقيقة وليس تمثيلا منه هذه المرة، وذلك بعد أن يتعادل المنتخب محرزا هدفا في آخر ربع ساعة من المباراة ويقترب من الفوز في حالة إحراز هدف ثان، الذي لم يتأخر كثيرا، لينهض الإرهابي من مقعده، عقب إحراز هدف الفوز، ويجد نفسه محتضنا جارهم المسيحي، الذي يكرهه، وعلى وجهه سعادة غامرة، لم يدري من أين حصل عليها، ليكتمل مشهد المشاركة المجتمعية بين المجتمع والإرهابي، بتأثر الأخير بأنغام أغنية “المصريين أهم” ويطرب للموسيقى التي حركت مشاعره لأول مرة، لنجد يده ترتفع وتنخفض على وقع أنغام الموسيقى كما لو كان اللحن يستهويه!!
بعد أن يفتضح أمر الإرهابي وتكتشف الأسرة أنه قاتل الضابط الذي تبحث عنه الشرطة منذ أسابيع، يهرب ويعود إلى جماعته مجددا، لكن العودة هذه المرة كانت مختلفة، فلأول مرة يبدأ الإرهابي “العائد لحضن الوطن” في مجادلة أمير الجماعة، غير مكترثا بقوله “لا تجادل ولا تناقش يا أخ علي وإلا وقعت في المحظور”، فحين يسأله عن أموال الطبيب، يرد قائلا بأن نفسه استحت بأن يأخذ أموال الرجل الذي عالجه مرتين، وحين يسأله عن الفتاة التي هي بحسبهم غير شريفة، يجيبه بأن الله وحده هو العالم بقلوب عباده، وحين يطلبون منه تنفيذ عملية جديدة، يفاجؤون بأنه غير متحمس لها، على عكس عادته، لنكتشف أن ثمة أمرا غريبا أو شكا طرأ عليه؟
يطلب الإرهابي من جماعته وقتا للراحة، في أي مكان، ليقضي على شكوكه أو يتأكد منها، وبعد أن تمنحه الجماعة أوراق السفر، يسمع بالصدفة أن الجماعة قررت اغتيال المفكر التنويري “فؤاد مسعود” صديق الأسرة التي عالجته، والذي التقاه في بيت الطبيب وتناقش معه، متذكرا كلماته حين حذره من مصير الاغتيال فرد عليه في ثبات وإيمان قائلا “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، فيحاول أن يتصل بالرجل لتحذيره وإثنائه عن الخروج من منزله، دون أن يسمع له الأخير، وفي طريقه للميناء مستقلا الأوتوبيس، تختلط مشاعر الحب بالعطف بالاحتواء الذي وجده في حضن الأسرة، وفجأة يلمح خبرا في الصحيفة التي كان يقرؤها الرجل الجالس بجواره، بعنوان “اغتيال المفكر فؤاد مسعود” فيتأكد بأن الأسرة، خصوصا الفتاة التي أحبته وأحبها، ستظن أنه من قتل المفكر، فيقرر إنهاء رحلته للخارج والعودة لبيت الطبيب، على ما في الأمر من خطر، ليؤكد للأسرة بأنه ليس من قتل المفكر، لكن الجماعة تعرف أنه غير طريقه وانشق عنها، فتقرر تصفيته، وبينما كان يقترب من بيت الأسرة، الذي وجد فيه نفسه، تطلق الجماعة عليه النار، لكنه لم يعد يكترث بحياته، فيبدأ في الصياح بصوت عال على أفراد الأسرة واحدا واحدا، ليخرجون ليجدوه غارقا في دمائه، لينتهي الفيلم بتوبته وهو يقول للفتاة وأسرتها بينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة “مش أنا يا سوسن إللي قتلت الدكتور فؤاد مسعود” ويبتسم للمرة الأخيرة مطمئنا إلى أنه مات على حب الوطن ولفظ التطرف والإرهاب.
Comments