المحتوى الرئيسى

جميعُنا قتلة... لا أستثنى أحداً | المصري اليوم

12/18 01:37

عزيزى القارئ، كم شخصاً قتلت اليومَ؟ لا تتعجَّلِ الإجابةَ النافية رجاءً وتقول مستنكراً: «ما أنا بقاتل!»، فجميعُنا قَتلَ مراتٍ عديدة، عمداً ومع سبق الإصرار والترصّد.

قبل أسبوع، جمعنى عشاءٌ فى مؤتمر عن الصحة النفسية بصديقى الفنان «هانى رمزى». وبينما نُنصِتُ باستسلام ورهبة إلى نغماتِ البولندى العظيم «فريدريك شوبان»، بتوقيع أنامل المصرى العظيم «رمزى يسّى» على البيانو، كان كلُّ واحدٍ منّا يُفكّر فى أزماتِه النفسية مع الحياة، ومع الناس، ويحاول غسلها بشلال النغم. بعد انتهاء العزف الآسر، رُحنا نتكلم عن حالات نعرفها من الناس، تعرضوا للضغط النفسى.

حكيتُ عن أعظم مريضة نفسية فى الوجود، فرجينيا وولف، التى صنعت مجدَها الأدبى رغماً عن، أو ربما بسبب، إصابتها باضطراب المزاج ثنائى القطب Bi-polar Mood Disorder. الذى دفعها للانتحار غرقاً، حين أثقلت جيوبَ معطفها بالأحجار، ونزلت نهر «أوز» بإنجلترا، لتنتهى حياتُها الثرية عام ١٩٤١. هى البريطانية اللامعة التى غيرت مسار الرواية فى أوائل القرن الماضى، والتى أفخر دائماً بأننى ترجمتُ للعربية كتابين من أعمالها الخالدة صدرا عن المركز القومى للترجمة.

ثم جاء دور هانى ليحكى لى عمّن صادف من المأزومين نفسيًّا. حكى لنا عن الممثلة «حنان الطويل» التى شاركته فيلمه الجميل: «عاوز حقى». فى أحد أيام عام ٢٠٠٣ دخل «هانى رمزى» لوكيشن التصوير فوجدها تبكى والناس من حولها يضحكون. ثم عرف أنهم يسخرون منها حين انتشر خبرُ أنها كانت رجلا وتحوّلت بالجراحة إلى امرأة. بعد تلك الواقعة، دخلت «حنان الطويل» المصحة النفسية، وماتت. انتحاراً كان أو غير انتحار، المهم أنها لم تعد موجودة. هل تذكرونها؟، هى صاحبة الجملة الضاحكة الشهيرة: «البيت ده طاهر وهايفضل طول عمره طاهر».

لكن هناك فارقاً هائلا بين موت «فرجينيا وولف» وموت «حنان الطويل». الأولى لم يقتلها أحدٌ. بل دعمها كلُّ من حولها من زوج وأصدقاء وجيران وأهل، للحد الذى قررت معه الرحيل حتى ترفع حملها عن الجميع، كما ورد فى رسالتيها اللتين تركتهما لزوجها. كان مَن حولها متحضرين. أما حنان الطويل فكانت أسرتها متحضرة داعمة، لكنها تعرضت للاغتيال الجماعى السافر السافل من المحيطين والجيران والجهلاء من زملاء المهنة. هذا قتلٌ عمدٌ لا رحمة فيه.

كلُّ كلمة سخرية سخرنا بها من شخص مأزوم، قتلٌ عمد. كلُّ شائعة روّجناها حول إنسان، قتلٌ عمد. كلُّ مساعدة لم نؤدّها إلى شخص يحتاجها، قتلٌ عمد. جرائم القتل العمدى لا حصر لها، وجميعُنا ارتكب شيئاً من تلك الجرائم، ونحن نبتسم!.

هل تذكرون حلقات القتل الجماعية الرخيصة التى دارت حول الفنانة «صباح» لأنها تخطت الثمانين من عمرها؟ نكاتٌ بذيئة كانت تنطلق كل نهار من أفواه كريهة، حول الجميلة التى أمتعتنا بصوتها الاستثنائى، ومازالت. لصالح مَن؟ صالح القبح والتفاهة والرخص والقتل العمدى. وفى المقابل، انظروا إلى الأوروبية «دورو ديكاستر»، التى احتفلت بالأمس بعيد ميلادها الـ١٠٢، بالقفز بالمظلة فوق سطح البحر. وقف الناس يصفقون لها بحب وإعجاب. تُرى هل بوسع مشهد رائع كهذا أن يحدث فى المنطقة العربية؟! نحن غير متحضرين بكل أسف، نُحصى على المسنين سنواتهم، وكأننا ندفعها من أعمارنا!.

التحضّرُ هو القدرة على معاملة الآخرين برِقّة وتهذّب. التحضُّرُ هو الحب. وبهذا المعيار قِسْ درجة تحضرك، وتحضّر العرب.

عزيزى القارئ. اجلسِ الآن على التشيزلونج فى ركنك المفضل بالبيت. خفِّف الإضاءةَ من حولك، وأغمض عينيك، وراجع شريط حياتك، ثم احصِ عدد قتلاك. وقبل أن تنهض لتعيد دفن ضحاياك فى قبر ذاكرتك من جديد، توضأ وصلِّ لله واستغفرْ، عَل الَله يغفر لك. والأهم من طلبك غفرانَ الله، لأنه الغفور الأرحم، أن تغتسل من دم ضحاياك. وذلك لن يكون إلا بأن تتعهد أمام نفسك بأن تزِن كلماتك التى ستخرج من فمك بميزان الذهب «قبل» أن تخرج، وليس بعد خروجها. لأن الرصاصة التى تنطلق من فوهة الغدارة لا تعود أبداً. وأبداً.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل