المحتوى الرئيسى

منازل «باجور الطحين» فى روض الفرج: قبور من خشب يسكنها أحياء

12/16 10:16

شوارعٌ ضاقت على أهلها، وحاراتٌ امتلأت ببيوتٍ مر الزمان عليها فباتت كالأشباح المرصوصة بجوار بعضها البعض، تنتظر غفلة قاطنيها لتنقض عليهم بكل ما أوتيت من قوة، فتتركهم بعد ذلك ما بين مشرد ومصاب وفقيد تحت الأنقاض. تلك حالة عامة يعيش فيها سكان شوارع «باجور الطحين» فى منطقة روض الفرج، التى تضم شارع «البرنس داوود»، صاحب الحادث الأشهر خلال الأيام القليلة الماضية، من انهيار 3 منازل واحداً تلو الآخر بعد انهيار الأول منها، ليعيش بعدها أهالى المنطقة فى حالة من الفزع والرعب، تركوا على أثرها بيوتهم التى لا تختلف حالتها كثيراً عن البيوت المنهارة، وربما كانت فى حال أسوأ، وعادوا إليها بعد أيام قليلة من الحادث، متوقعين تحولها إلى كومة تراب على رؤوسهم فى أى وقت.

جلس فى شرفة بيته الخشبية مسنداً رأسه على حافتها، وعيناه لم تفارقا موقع الحادث الذى يبعد عنه بأمتار قليلة، وعلى وجهه ارتسمت آيات حزن واضحة وكأنه يشاهد نسخة مستقبلية من قدر محتوم لن يفر منه إذا بقى الحال على ما هو عليه: «بيتنا ده عمره 115 سنة ومعانا الورق اللى يثبت ده، لأن العيلة كلها ورثته عن بعض، وحالته أسوأ بكتير جداً من حالة البيوت التلاتة اللى وقعوا»، يقولها الأربعينى «تامر مجدى»، أحد سكان شارع «البرنس داوود»، معبراً بها عن خوفه من تكرار الأزمة فى الشارع مرة ثانية فى القريب العاجل، فهى، حسب قوله، لن تبعد كثيراً فى المرة المقبلة عن بيته «العتيق»، فهذا الحادث لم يكن الأول من نوعه فى منطقته الممتلئة ببيوت لم يبق لها من عمرها الافتراضى شىء: «من أسبوعين قبل الحادثة الأخيرة فيه بيتين تانيين وقعوا فى شارع ورانا، بس دول ماكانش فيهم ناس تقريباً عشان كده محصلش اللى حصل المرة دى، وقبليها برضه فيه بيوت تانية وقعت، وآخرها كانت بلكونة وقعت بالناس اللى كانوا واقفين فيها».

«تامر»: «أعيش فى منزل عمره 115 سنة وحيطانه مملحة ودايبة وحالته أسوأ من حالة البيوت اللى وقعت.. وكسل المسئولين مخلينا عايشين فى البيت على كف عفريت»

أزمة تواجه «تامر» وبقية أفراد أسرته التى تعيش معه فى نفس الشقة، تمثلت فى المؤجرين الذين يعيشون معهم فى البيت نفسه، حيث يسكنون بنظام الإيجار القديم، ما يمثل عقبة أمام «تامر» وأسرته فى اتخاذ قرار منفرد بهدم البيت وإعادة بنائه مرة أخرى، فضلاً عن عدم قدرتهم المادية على ذلك: «صوتنا عمره ما بيوصل للمسئولين، ومبيفكروش يعملوا حاجة إلا لما الكارثة تقع، غير كده كلهم بيكونوا عايزين فلوس عشان يتحركوا»، طابقين فقط يتكون منهما منزل «تامر» ويوجد بهما 5 شقق، تم بناؤهما جميعاً بالخشب، الأمر الذى يزيد من خوفه وجميع من معه فى البيت: «كسل المسئولين مخلينا عايشين فى البيت على كف عفريت لأن حيطان البيت كلها مملحة ودايبة، والسلالم كل شوية درجة تقع ونعملها من تانى، حتى طوب البيت من بره متاكل».

لم تكن الأزمة مقتصرة على شارع «البرنس داوود» فحسب، وإنما كانت معاناة يعيش فيها سكان المنطقة بالكامل، وهو الأمر الذى تحدث عنه «محمد رشاد»، أحد قاطنى العقار رقم 21 من شارع علام عبدالله، الموازى لشارع «البرنس داوو»، حيث إن انهيار المنازل الثلاثة كان بالنسبة له بمثابة جرس إنذار اعتبره الأخير لبيته الذى ولد فيه قبل 5 عقود من الزمان، ولا يتذكر تاريخ إنشائه، وإنما يتذكر عمر زوج خالته الذى ولد به وتخطى عمره الآن 80 عاماً، فهو منزل كانت له سابقة فى قرارات الإزالة منذ عام 1982: «وقتها كان البيت فيه مشكلة، ولما جاله قرار إزالة شالوا منه الدور الرابع بس، وبعد كده جاله قرار تانى فى 1992، ونفس الكلام فى 1994، بس دول متنفذش منهم حاجة».

وضع متدهور لبيت «رشاد» من الداخل، يظهر بالعين المجردة لكل من ينظر إليه، فجدران البيت أكلها الزمن، وسقف طابقه الأرضى الخشبى البالى يرتكن إلى عروق تئن من حمل زائد عليها، فالمنزل المكون من طوابق ثلاثة لم تختلف فيه حالة طابق عن الآخر، ليعبر الرجل الخمسينى عن حالة بيته بنبرة خوف قائلاً: «البيت كله مسنود بالخشب عشان ميقعش علينا، لأن الشروخ اللى فى الحيطان كل شوية بتزيد، وسقف الدور اللى فوقى مفتوح وساقط علينا، ده غير إن فيه شروخ من الدور الأرضى لحد آخر دور»، حالة طوارئ أعلنها «رشاد» بين أفراد أسرته منذ وقوع حادث المنازل الثلاثة، وبعض تعليمات لقنها أطفاله وزوجته حتى يتفادى أكبر كم ممكن من الخسائر فى حال حدوث مكروه لبيتهم: «نبهت على عيالى أول ما يحسوا بحاجة يجروا يدخلوا تحت السراير، لأنها حديد وممكن تحميهم شوية، وآدينا عايشين بندعى ربنا إنه ينقذنا من اللى إحنا فيه».

المتحدث باسم محافظة القاهرة: هناك تعليمات لرؤساء الأحياء بحصر المبانى القديمة

وخلف المنازل المنهارة فى شارع «البرنس داوود»، كان شارع آخر دب الخوف فى نفوس ساكنيه منذ وقوع الحادث، فبيوتهم من الخلف تلاصق البيوت الثلاثة المنهارة، ما جعلهم يتركونها ليذهب كل منهم للبحث عن مكان آخر يبيت فيه إلى حين، حسب ما قال «عمرو كمال»، 34 عاماً، وأحد سكان حارة «جامع إنجه هانم»، المتفرعة من شارع البكرى، الذى يبعد أمتاراً معدودة عن الشارع «المشئوم»: «البيوت اللى وقعت فى الشارع اللى ورانا كانت أقوى من بيوتنا هنا 100 مرة، وده مخلى نص الحارة من يومها بايتين فى الشارع والنص التانى شاف له حد من قرايبه راح بات عنده»، ثمانية عقود أو أكثر مرت على بناء بيت «كمال» المكون من أربعة طوابق تم بناؤها جميعها بالخشب، يعيش هو ومن معه من أفراد أسرته فى الطابق الأرضى منه، بينما يسكن الطوابق الأخرى مؤجرون بنظام الإيجار القديم، ورغم كثرة الشكاوى التى تقدم بها لإصدار قرار إزالة للبيت، فإن أحداً لم يسمع له، على حد قوله: «اشتكينا أكتر من مرة، وعملنا محضر بالكلام ده كله من سنة تقريباً، والحى لا حياة لمن تنادى».

وفى العقار رقم (18) الملاصق لمنزل «كمال»، كانت تقطن السيدة الستينية «منى عبدالحى»، جاءت إليه لتوها لقضاء بعض حوائجها منه بعد أن تركته منذ وقوع الحادث خوفاً منها على حياتها وحياة أسرتها: «من ساعة اللى حصل وإحنا قاعدين فى الشارع لأن البيوت اللى وقعت فى ضهرنا بالظبط، ويوم ما وقعوا بيتنا اتهز جداً كأنه هو كمان هيقع»، حالة الفزع تعيش فيها «منى» وأفراد أسرتها طيلة أعوام طويلة مضت بسبب التصدعات التى تملأ البيت، وهو الأمر الذى لم تجد الشكاوى معه نفعاً: «الحى سايب الناس هنا عايشين فى ترب، واشتكينا كتير ومحدش بيسمع لنا، ومش معانا فلوس عشان نهده ونبنيه تانى، ولا معانا فلوس نقعد بيها فى مكان غيره»، محاولات ترميم بائسة أجرتها أسرة «منى» خلال الأعوام الماضية، إلا أنها جميعاً لم يبق منها شىء، فالحوائط والأسقف لا تستقر عليها دهانات لسبب لا يعلمونه: «أنا عايزة أعرف دلوقتى هينفع أرجع أقعد تانى هنا أنا وعيالى ولا هنفضل طول عمرنا فى الشارع، والمشكلة إن البيت لو اتهز كمان هزة زى اللى حصل ده ممكن يقع على دماغنا».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل