المحتوى الرئيسى

الصهيونية الدينية تفرض خطابها

12/12 00:19

إثر القنبلة التى ألقاها الرئيس الأمريكى بقراره الخاص بالقدس، تواجه نوعان من الخطاب. الأول يتخذ الطابع الدينى التاريخى المستلهم لأساطير ماضوية يغذيها الخيال، والثانى يستند إلى فكرة الحقوق القانونية والمواثيق الدولية والقيم الإنسانية. رأينا، على سبيل المثال، نائب الرئيس الأمريكى مايكل بنس يتحدث عن «وطن اليهود المقدس» وعاصمة الشعب «الأبدية» ومواجهة بين «أهل الخير وأهل الشر»، وسمعناه يستنزل «بركات» الرب على إسرائيل وأمريكا، ويسأله النصر على «كراهية الإرهابيين» و«الدول الفاشلة» المتربصة حقدا. وبالمثل رأينا، على سبيل المثال، السيدة حنان عشراوى تبادر بالرد مؤكدة وجوب استناد الحديث إلى «القانونية»، و«الإنسانية»، و«الأخلاقية». لكن الخطر لا يكمن فى أن يفضى تعارض هذين الخطابين إلى استمرار حوار الطرشان الممتد منذ جلست السلطة الفلسطينية إلى مائدة «أوسلو»، ولا فى مواصلة ما انقطع من الخطاب الفاشى الذى استعمله بوش الابن لإشعال الحرائق فى الشرق الأوسط، فالخطر، هذه المرة، هو أن الخطاب الأمريكى يجاهر بالتطابق التام مع خطاب الصهيونية الدينية الأشد تطرفا. وللتعرف على ملامح هذا الفكر تلزمنا فى هذا المقال زيارة للتاريخ.

«باسم الهيكل: الصهيونية الدينية المعادية للسلام» هو اسم وثائقى يغوص فى أعماق تلك الحركة، كاتبه ومقدمه هو الصحفى الفرنسى اليهودى شارل أندرلن. من يتمتعون بذاكرة جيدة سيتذكرون أن الرجل هو نفسه من بث إلى العالم صور الطفل محمد الدرة وهو يحتضر بين ذراعى أبيه فى ثانى أيام انتفاضة الأقصى عام 2000. ومنذ ذلك السبق الصحفى الذى صنع فى الأذهان أيقونة الدرة وحتى عام 2015 الذى تم فيه بث الوثائقى موضوع المقال، تعرض أندرلن لحرب شعواء من حكومة إسرائيل ومن أذنابها فى فرنسا.

فى المشهد الأول يأخذك حاخام إلى سرداب تحت الأرض، يقع أسفل ما نسميه حائط البراق ويسمونه حائط المبكى، ليشهدك «الجذور التوراتية للشعب اليهودى» حيث التنقيب عن الهيكل المزعوم. ثم تتوالى المشاهد لندخل فى قلب حركة «غوش امونيم» المتطرفة أو «تكتل المؤمنين» ونستمع إلى قصص المحاربين القدامى المنتمين إلى تلك الحركة حين دخلوا البلدة القديمة بالقدس أول مرة بعد نصر 67. 

ــ «شعرنا بأننا جنود الملك داوود»، يقول أحدهم وهو يحكى كيف «اختارهم الرب» لتحقيق «حلم الأجداد» فى «الخلاص الربانى» وكيف أن استيطانهم الأرض هو «تجسد لرؤى أنبياء بنى إسرائيل».

ثم يعود بنا الراوى إلى بداية القرن العشرين، لنلتقى أبراهام كوك، أول حاخام أكبر لليهود الأشكناز فى فلسطين، الذى أسس مدرسة تلمودية فى القدس عمدت إلى مطابقة اليهودية والصهيونية. ويقوم تصوره على فكرة افتقار اليهودى للإيمان ما بقى فى أرض الشتات فإذا ما عاد إلى «الأرض المقدسة» كان مؤمنا خالصا وازدادت أفكاره «طهارة». فكما يشرح لنا دكتور عبدالوهاب المسيرى فى موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، الطهارة فى هذه العقيدة هى نتيجة التعلق بأرض إسرائيل، وليست نتيجة فعل الخير أو كف الأذى. بل إن «العودة المقدسة تتطلب استخدام العنف ومساندة الإمبريالية العالمية وطرد الشعب الفلسطينى، وهذا ما فعله الصهاينة المتدينون وقاموا بتبريره بتبريرات دينية تخلع عليهم وعلى أفعالهم قداسة، فتمت العودة دون تفرقة بين الوعد الإلهى ووعد بلفور.«

يأخذنا الوثائقى إلى عوالم الحاخام «كوك» الذى تساوى أهميته عند اليهود المتدينين أهمية هرتزل عند علمانييهم. فنرى كيف توجه ابنه من بعده بهذه التعاليم إلى ضباط جيش الاحتلال، وكيف نشرهم لاستيطان الضفة الغربية. وقد أنشئت أول مستوطنة يهودية لحركة «غوش امونيم» فى الخليل عام 1968، وآوت أشد تلامذة الحاخام كوك تطرفا، وواجهت حكومة «إسحق رابين» بمنتهى الضراوة، وتوسعت باستماتة وراحت المستوطنات تتزايد بدعم من زعيم المعارضة «مناحم بيجن». ثم ما يلبث أن يصعد بيجن إلى سدة الحكم فى 1977، ويوقع معاهدة السلام مع السادات فى 1979، فيضطر لإخلاء مستوطنة «ياميت» فى سيناء. فتتوالى على الشاشة المشاهد المعروفة التى يتشبث فيها المستوطنون اليهود بالأرض المصرية وهم يملأون السماء بصرخاتهم الرافضة لترك شبر واحد من أرض الفيروز.

ــ «لا أحد يترك الأرض، وأرض سيناء بالأحرى، من أجل السلام»، يصرخ أحد ضيوف الفيلم وقد ملأت عيناه الغاضبتان الشاشة.

فما إن خرجت مصر من الصورة بعد تحييدها حتى انطلقت يد الحكومة بقيادة بيجن ووزير دفاعه شارون فى الاستيطان فى الضفة وغزة، لتتوثق العلاقة بين اليمين التوسعى العلمانى والصهيونية الدينية المتطرفة، وهى العلاقة التى غيرت وجه الصراع فى فلسطين وفى العالم العربى طوال العقود التالية. ففى عقد واحد ما بين عامى 1977 و1987، قفز عدد المستوطنين من عشرين ألفا إلى سبعين ألفا. وراحت وزارة الإسكان تروج لمساكن المستوطنات بأسعار زهيدة للغاية. وانتعشت عقيدة الصهيونية الدينية المتطرفة التى يشرحها المؤرخ اليهودى زيڤ ستيرنهيل فى ثلاث خطوات: العودة إلى الأرض، والعمل على إبعاد الفلسطينيين الأغيار وتدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل مكانه، وأخيرا مرحلة الخلاص وعودة المسيح المخلص!.

يوثق الفيلم لقمع الفلسطينيين أثناء دفاعهم عن ثالث الحرمين من اعتداءات المستوطنين، ويعرض أطرافا من الانتفاضة الأولى، وتتوالى مشاهد استقبال الصهاينة المتدينين لإسحق شامير استقبال الأبطال بعد إخفاقه فى اجتماعات مدريد للسلام، ومناهضتهم لإسحق رابين بعد توقيع اتفاقات أوسلو للسلام ومضيه فى وقف عملية الاستيطان. لتبلغ ذروة غضبهم مع مذبحة الحرم الإبراهيمى على يد الطبيب الصهيونى المتطرف باروخ جولدشتاين الذى اعتبروه بعد مقتله بمثابة شهيد لكفاحهم والذى لا يختلف فى تكوينه الأيديولوجى عن إيجال عامير الذى سيقتل رابين بعدها بعام واحد. فكلاهما يمثلان تيارا دينيا استيطانيا عملاقا يعتنق رفض السلام مع الأغيار وينمو داخل المجتمع الإسرائيلى كما السرطان.

يأتى نتنياهو إلى الحكم فى 1996، فتكون أولى مبادراته حفر سرداب تحت حائط البراق وتحت ساحة الأقصى للتنقيب عن آثار الهيكل المزعوم. لكنه يضطر تحت ضغط الأمريكيين أن يخلى الخليل ليدخلها عرفات، فيعلن اليهود المتشددين يوم حداد مزقوا فيه ملابسهم وانتحبوا حزنا على فراق «مدينة الأجداد المقدسة». والحقيقة أن نتنياهو قد عمد إلى هذا القرار تنفيذا لفكرة كبرى هى الانطلاق بالاستيطان بعنف فى الضفة ليعزل القدس فى محيطها، مما يعوق تطبيق أى اتفاق مع الفلسطينيين على الأرض. لكن حركة «غوش ايمونيم» المتشددة لم تغفر له مع كل ذلك إخراجها من الخليل وخسر نتنياهو الانتخابات. وخسر بعده كل من حاول تقديم أى تنازل من أجل السلام.

يقول البروفسور مناحم كلاين، أحد مفاوضى كامب ديفيد الثانية، إن معظم مفاوضات السلام مع الفلسطينيين فشلت لأن المفاوضين الإسرائيليين يخشون إلى أبعد حد ردود أفعال المتطرفيين اليمينيين المتدينين. فبالنسبة لهؤلاء تعد النقطة التى لا جدال حولها هى «جبل الهيكل» أى القدس الشرقية. ونظرا لأن الحكام الصهاينة كأى حاكم يخافون على كراسيهم فقد رفضوا بشدة مطلب عرفات فى تسمية القدس الشرقية عاصمة لفلسطين. وبعد سنوات سيعود نتنياهو ليبقى وينفذ خطة عزل القدس وخنقها وسط المستوطنات ملوحا وقت إعادة انتخابه برفضه لحل الدولتين، مؤكدا وفق الرطانة التى بثها الحاخام كوك منذ بدايات القرن الماضى أن أرض إسرائيل هى أرض الشعب اليهودى المستـنـْزل بعودته من المنافى ل«بركات السماء»، المستقبل فى نهاية الزمان للمسيح المخلص منقذ العالم... 

ومع اقتراب نهاية الوثائقى، ينزل الصحفى شارل اندرلن مرة أخرى إلى سرداب تحت أرض البلدة القديمة برفقة الحاخام «يهودا جليك»، المسئول عن «إعادة بناء الهيكل». نراه يلج به إلى مكان يشبه المتحف، يضم جميع الأوانى والأدوات المزمع استخدامها فى الشعائر داخل الهيكل.

ــ أعددنا كل شىء بنفس المواصفات الموجودة فى التوراة، حتى إذا ما جاءنا الضوء الأخضر لبناء الهيكل أخرجناها جميعها إلى النور...

و بزهو واضح، يزيح الحاخام ستارا مخمليا أحمر ليظهر من ورائه مذبحا من الذهب. هنا، يقول، سيقف الحاخام الأكبر ليطالع الألواح التى تلقيناها على جبل سيناء! فنحن نؤمن أننا لو بنينا الهيكل سيهدينا الإله إلى الألواح الأصلية. لكن قبل ذلك، وكما توصى التوراة، علينا أن نجد بقرة حمراء! فالتضحية ببقرة حمراء ونثر رمادها يمكن أن يطهرنا ويطهر الأرض المقدسة...

وبعد لقطة مع مهندس بناء الهيكل وعرض مخططاته ومخططات المعابد المزمع بنائها فوق جبل الهيكل، يظهر الشيخ عزام الخطيب مدير الأوقاف الإسلامية بالقدس معربا عن قلقه الشديد لما يتعرض له الفلسطينيون ومقدساتهم من تهديد يومى. كان ذلك فى 2015، وقت إنتاج الفيلم، قبل أن يتم انتخاب ترامب، وقبل أن يكون هناك اتفاقات على صفقة القرن، وقبل أن يخرج المستوطنون هذا العام أفواجا إلى ساحة الأقصى للاحتفال بمرور خمسينية «توحيد القدس» والاشتباك مع المقدسيين مرات ومرات.

عبارتان أخيرتان فى نهاية الوثائقى تلخصان مخاوف عقلاء اليهود:

الأولى يعلن فيها المؤرخ زيڤ ستيرنهيل عن ضرورة وقوف الدولة العبرية فى وجه أنشطة الجماعات الاستيطانية التخريبية فى القدس لأنها تهدد بمواجهات ليس فقط مع الفلسطينيين، بل هى تهدد بصراع مع الإسلام.

أما العبارة الثانية، والتى أثارت شجونى وتشكك بها بعض ظنونى، فهى تلك الصيحة الفزعة التى أطلقها البروفسور ماتى ستاينبرج خشية أن يؤدى الدفاع عن المسجد الأقصى إلى توحيد السنة والشيعة ضد اليهود.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل