المحتوى الرئيسى

أربابُ الحَرب

12/08 22:35

بين عناوين السياسةِ الخائبة والأنباءِ المُفاجئة، والتصريحات العابثة المُرتبِكة التي تنصَّب على رؤوسنا مِن هنا وهناك، فتحاصرنا داخلها وداخل أنفسنا، وقعت صدفةً على خبرٍ يدور حول كشف أثريّ جديد، مَوقِعه كوم الحيتان الشهير بالبرّ الغربيّ؛ عددٌ كبيرٌ مِن التماثيل، مَنحوتة مِن الجرانيت الأسود، تُمثِّل الألهة ”سخمت“ في أوضاعٍ مُختلفة ومُتباينة.

رأيت صورة ”سخمت“ خلال زيارتي القصيرة إلى الأقصر وأسوان، وسمعت مِن الدليلِ الشاب الذي صحِبنا في جولةٍ طويلة، حكاياتٍ مُتعددة عنها، أثارت فضولي ودفعتني للاستزادة.

”سخمت“ التي يعرفها علماءُ الآثار والمهتمون بالمِصريات، هي إلهة الحرب في حضارتنا القديمة، يسمُّونها السيدةَ العظيمةَ، أو سيدةَ الأرضين إشارة إلى مِصر العليا ومِصر السُفلى، كما تُسمَّى أيضًا عَين رعّ.

هي كذلك أحدُ أعضاء ثالوث مَنف، حيث مَوطن عبادتها الرئيس، زوجةٌ لبتاح وأم لنفرتم، وحاملة لمُتناقِضات لا أول لها ولا آخر، تستجلبُ الدهشةَ والإعجاب. لم تقتصر عبادةُ ”سخمت“ على مكانٍ بعينه، فقد وُجِدَت لها معابدٌ أخرى في مَناطق مُتفرقة؛ منها أبو صير وكوم الحصن، تجلسُ على العرشِ مُمسِكةً بمفتاح الحياة، في حين يعلو رأسَها قرصُ الشمس وثعبانُ الكوبرا. 

تقول الأساطير إن الإله "رعّ" أرسل ”سخمت" لمُعاقبة مَن تمردوا عليه مِن البشر، وحين رقَّ قلبه وقرر أن يكفَّ عنهم الأذى ويعفو، كانت ”سخمت“ قد عقدت العزمَ على استكمال مُهمتها حتى إبادتهم، ومِن ثمَّ صار على ”رعّ“ أن يجد الوسيلة المُناسبة لإيقاف مَبعوثته التي اكتسبت لقبًا إضافيًا مُلائمًا: ”ربَّة البطش“.

اطلعت هذه الربَّة الجَامحةَ بالدفاع عن الملك وحمايته مِن أعدائه، بل ونفثت في وجوه مَن حاولوا إيذاءه النيران، حتى ليُقال إنّ رياحَ الصحراء اللافحة، سُمِّيت ”أنفاس سخمت“، وقد ظهرت ”سخمت“ في عديد من النقوش مُرتدية ثوبًا أحمر اللون، ربما كناية عن كونها ربَّة للحروب. 

ذكرت الأنباء المُتداولة خلال الأسبوع الماضي، أن البعثة الأوروبية التي قامت بالكشف، وجدت منذ بدء عملها في التسعينيات، أكثر مِن مائتي تمثال ل”سخمت“، كما قيل إن التماثيل المُكتَشفة أخيرًا، والتي يتجاوز عددها سبعةً وعشرين تمثالًا كاملًا تقريبًا، قد تعرضَت لتقلُّبات بيئية وطبيعية شديدة القسوة يمكنُها سحقَ الكثير؛ من بينها زلازل عنيفة، ضربت المَنطقة منذ الآلاف الأعوام. صمدت ”سخمت“ في وجه عوامل التعرية المُدمّرة، واحتفظت بمعالمِها وتماسُكها، وتجلَّدت بما يليق بمكانتها، ونَجَت، ثم طلَّت علينا في لحظات عصيبة؛ تشاركنا الهمّ وتذكرنا بأرباب المعارك ومسارات الحروب؛ وإن اختلفت العصور، وتباينت المُعطيات وتنافرت، وانحطَّت السبل والأساليب.

امتلكت سخمت -سيدة الحرب وربّتها- من وسائل القتل الكثير، لكنها امتلكت أيضًا ما فيه نفع وسلام؛ يبدو على سبيل المثال لا الحصر، أنها كانت قادرة على استجلاب الميكروبات والجراثيم، حتى إن القدماء أشاروا إلى الوباء عند حلوله بكونه ”رسول سخمت“، مع ذلك لم يمنعهم ما سبَّبته لهم مِن أذى، مِن أن يعرفوها على الجانبِ المُقابل، بكونها ”سيدة الحياة“؛ إذ استخدمت براعتها في السحر لعلاج الناس وإبرائهم مِن عِللهم وأمراضِهم.

تذكرت أثناء قراءتي تفاصيلَ الخبر، هؤلاء البشر الذين يظنون في وقتنا الراهن أنهم بمنزلة آلهة؛ يجلسون على عروشِهم في صَلف، يشعلون الحروبَ ويزكّون الصراعات، ويمنحون الأموالَ والعطايا، ويطلبون القرابين على مذابحهم، فتأتي. يمنعون ويحجبون، وربما يُسقِمون، لكنهم لا يجلبون -مثلما تفعل ”سخمت“- الشفاء.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل