المحتوى الرئيسى

"غافة".. ثنائية الشموخ والإصرار الإماراتي في "دبي السينمائي"

12/08 18:04

ربما تبدو المقاربة السينمائية لقضايا المرأة الإماراتية أكثر صدقية في تجربة المخرجة الإماراتية عائشة الزعابي؛ فمسيرتها الإبداعية نفسها تمثل نموذجا موازيا لثلاثية الصبر والعطاء والقوة التي تسم ماضي وحاضر المرأة في دولة الإمارات.

وهي ذات الثلاثية التي جعلتها الزعابي عنوانا جانبيا لفيلمها الروائي القصير الجديد "غافة" الذي يشارك في مسابقة المهر الإماراتي في الدورة الـ14 لمهرجان دبي السينمائي الدولي.

وتمكن أوجه الشبه بين الزعابي كمخرجة مبدعة حصدت جائزة المهر الإماراتي عام 2014 وهي لم تزل بعد طالبة إنتاج وإخراج بكليات التقنية العليا، وقصص النساء الإماراتيات الـ3 اللائي تقدمهن عبر "غافة"، في الإصرار والقدرة على تجاوز العقبات.

منذ 2014 و حتى اليوم، تبهر الزعابي جمهور "دبي السينمائي" بالأعمال السينمائية المتجاوزة للسائد، لتحفر اسمها في راهن السينما الإماراتية بأحرف مغايرة تعدت النمطية والتعليب في "ليلة في تاكسي" 2016، وخلقت مقاربة اجتماعية فريدة في كل من "إلى بيتنا مع التحية"، و"البعد الآخر".

وفي "غافة"، يبدو أن الزعابي التي كتبت جميع أفلامها الـ4 القصيرة السابقة بنفسها، آثرت التجديد وخوض تجربة مختلفة ووجدت في الروائية والقاصة الإماراتية إيمان اليوسف شريكا مثاليا لها، كونها تجمع بين الشراكة والتجريب والمغامرة؛ فـ"غافة" يمثل التجربة السينمائية الأولى لليوسف التي رفدت المكتبة السردية بروايتين ومجموعتين قصصيتين.

وبمجرد الوقوف على عتبة النص" إن جازت التسمية"، تتبدى الرمزية الكبيرة لشجرة "الغاف" بكل ما تحمله من معانٍ للصبر والإصرار والتحدي في التراث الإماراتي، في توطئة لرسالة الفيلم كادت أن تكون كافية للمطّلع على الثقافة الإماراتية، ومثيرة للتساؤلات لدى غير العالمين بعلامات ودلالات التراث الإماراتي، لولا إفساد المقدمة التفسيرية المتمثلة في العنوان الفرعي، الذي يفرض على مشاهد الفيلم زاوية محددة للنظر.

لكن وعلى الرغم من البداية المباشرة التي تفرضها المخرجة على المشاهدين عبر الزاوية الأحادية؛ فثمة زوايا أكثر إبهارا تبرز عبرها الزعابي نضوج تجربتها الإخراجية، التي تبلغ أوجها في التنويع السريع للمشاهد والتشفير الكبير للحوار؛ ما يجعل من "مباشرة" البداية وكأنها خدعة، فالكاميرا التي تتنقل بحرية كبيرة طوال الدقائق الـ16 مدة الفيلم، تطلعنا على زوايا عديدة لإصرار وإرادة المرأة في الإمارات دون إفراط ولا هتافية.

فنجد "مهرة" الشابة العشرينية والعروس الجديدة، تواجه مصيرها لتصحح خطأ اختيارها لزوج المستقبل بنفسها، بعد منازعات طويلة اختزلتها المخرجة الشابة في البناء النفسي للشخصية دون الاعتماد على الإطالة في الحوار وهو الدور الذي برعت الممثلة في تجسيده بشكل كبير.

وبموازاة التساؤلات الكثيفة التي تثيرها "مهرة" حول ماهية مشكلتها، تشدنا المخرجة لقصة امرأة أخرى هي "الجدة" التي تطل في أول مشهد لـ"غافة" في جلسة تماثل نهارات الجدات في كل العالم، إلا أنها تختلف عنها هنا في الإصرار الذي تبديه الفنانة الإماراتية الكبيرة "موزة المزروعي" التي تؤدي الدور، على عدم الافصاح عن اسمها الحقيقي لحفيدها الذي يلح على أن تكشف جدته التي تفضل مناداتها بأم "علي".

ودون أن تمنحنا مخرجة الفيلم أي أجوبة بخصوص اسم الجدة، تنقلنا ببراعة عالية إلى شابة إماراتية أخرى هي "نجلاء" الأربعينية ومنظّمة الأعراس، التي أدت دورها الفنانة العراقية آلاء شاكر، لتمنحنا صورة مقربة للواقع بكل إشكالاته وتداخلاته.

بيد أن الأمر لدى نجلاء المهووسة بمواقع التواصل الاجتماعي والمنغمسة في عملها يتعدى اليوميات التي ترصدها الكاميرا إلى وجع خفي دائما ما يتدثر بالروح المرحة يضفي عليها إصرارا كبيرا على التحدي والنجاح، اختارت الزعابي تلخيص هذا الألم الدفين بإشارة سريعة على لسان "نجلاء" تبين أنها مطلقة لايعني لها الطلاق سوى الدأب على إنجاح المزيد من الزيجات وإخراجها في أبهى الحلل.

قدمت لنا الزعابي عبر فيلمها القصير الـ5 قدرة الشخصيات الـ3 على مواجهة التحديات والمشاكل المختلفة ببناء درامي يجعل المتلقي مشدودا طوال الدقائق الـ16 دون كلل، لتنهي مصير كل من "مهرة" العروس العشرينية و"نجلاء" منظمة الأفراح الأربعينية بنهاية درامية مفتوحة.

ففي الخيوط الدرامية الـ3 التي قدمتها الزعابي كان خيط الجدة الأقل قدرة على لفت الانتباه، مقارنة بالخطين الآخرين لـ"مهرة" و"نجلاء" اللتين تحفل أدوارهما في الفيلم بمنعطفات أكثر تشويقاً، لكن سرعان ما أخمدته الرؤية الإخراجية للزعابي لصالح خيط الجدة الذي مثل نهاية الفيلم.

تقودنا الجدة التي تكشف أخيرا عن اسمها الحقيقي "غافة" في مشهد يبدو كأنه كواليس تصوير فيلم وثائقي عن شهداء الإمارات، يبدأ بإطلالة غير متوقعة للمخرجة نفسها تعلن لنا عبرها أنها بصدد التصوير مع "غافة" التي تشير إلى أنها والدة الشهيد الإماراتي علي الشحي، وأن اصرارها على عدم مناداتها بغير "أم علي" هو فخرها ببسالة ابنها وتضحيته من أجل الوطن، قبل أن تتقدم المخرجة في نهاية الفيلم بالشكر لأسرة الشهيد علي الشحي، منوهة بأن الأحداث متخيلة ولا علاقة لها بشهيد الإمارات.

إن كانت أحداث "غافة" متخيلة؛ فإنها في نهاية المطاف تمثل غوصا في ثنايا الشخصية الإماراتية، ووقفة وفاء خاصة لأمهات الشهداء اللاتي يقدمن فلذات أكبادهن فداء للوطن دون أن يخالط فخرهن بما يقدمه الأبناء أي رياء، فأم الشهيد هنا هي كشجرة الغاف، معطاءة تتجاسر على جميع الظروف لتظل شامخة بشموخ الوطن الذي افتدته.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل